حضر الاحتفالية في مراكش ــ خلفان الزيدي:
خلف أسوار مراكش الحمراء، وبين بساتين النخيل المختبئة في قلب منطقة حضرية راقية، وبحضور أكثر من 300 مفكر ومثقف وأديب عربي، عاد أبو تمام الطائي ليلقي بعض قصائده، ويشجي بحماسياته، معتزًا ومفتخرًا، ومستنهضًا الهمم والعزائم،لا سيما مطولته البائية المشهورة التي تعد أجمل قصائده، والتي مدح فيها الخليفة المعتصم بعد فتح مدينة عمورية الرومية، وخالف في مطلعها ما كان سائدًا في استهلال القصيدة العربية بالغزل التقليدي والوقوف على الأطلال، فاستهلها بالحكمة المستوحاة من الحدث:
السيف أصدق أنباء من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب
بيض الصفائح لا سود الصحائف في متونهن جلاء الشك والريب.
عاد أبو تمام وفي حوزته (378) قصيدة مخطوطة لم يسبق نشرها، تناولتها مؤسسة جائزة عبدالعزيز سعود البابطين، لتقدمها في ديوان مؤلف من ثمانية مجلدات، تم طبعه بهذه المناسبة، وذلك ضمن مجموعة أخرى من الكتب النقدية والدراسات وندوات نقدية وشعرية عن أبي تمام.

مخطوطات نادرة وقصائد جديدة
في كلمته التي استهل بها فعاليات الدورة الرابعة عشرة لمؤسسة جائزة عبدالعزيز سعود البابطين للإبداع الشعري التي احتفت بالشاعر العربي أبي تمام الطائي تزامنا مع الاحتفال باليوبيل الفضي للمؤسسة التي تخلد هذه السنة ربع قرن في خدمة الثقافة العربية والإبداع الشعري وحوار الحضارات، أعلن عبد العزيز سعود البابطين، رئيس مؤسسة جائزة عبد العزيز سعود البابطين للإبداع الشعري، أن المؤسسة تمكنت من العثور على مخطوطات نادرة تتضمن قصائد جديدة للشاعر أبي تمام لم يسبق نشرها من قبل. وجاءت معظم المخطوطات التي حوت تراث الشاعر بخط يده من مقتنيات متعددة من تبريز في إيران.
وقال البابطين: "إن فريقا من الباحثين الذين أوكلت إليهم المؤسسة العمل على إعادة صناعة ديوان أبي تمام، تمكن من الحصول على (387) قصيدة مخطوطة لم يسبق نشرها لأبي تمام، مما ضاعف التراث الشعري للشاعر العباسي الشهير".
وأضاف: "لقد بذل باحثونا جهودا دؤوبة في استقراء مئات من المطبوعات والمخطوطات وجمع كل ما ورد فيها من شعر لأبي تمام"، و"تمكنت المؤسسة من إعادة صناعة ديوان أبي تمام لتكون قصائده ضعف ما نشر له سابقا، حيث استطعنا الحصول على (387) قصيدة ومقطوعة لم تنشر لأبي تمام من قبل من مخطوطات نادرة لديوانه، وبعض كتب التراث العربي المطبوع والمخطوط".
وقال: "إن أبي تمام لم يكن شاعرا استثنائيا فقط، بل جمع بذائقته الفريدة أروع مختارات شعرية في التراث العربي.. الحماسة التي لا نزال نجد في ثناياها الشعر الأصيل الذي يتغلغل في حنايا النفس، ويسكن في الذاكرة".
وفي مناسبة يوبيلها الفضي أعلن عبدالعزيز البابطين، قرار المؤسسة زيادة جوائزها المحكمة جائزة جديدة للشعراء الشباب دون سن الأربعين تحفيزا لشباب شعراء الأمة على مواصلة طريق الإبداع، قبل أن يعرج للحديث عن التحديات التي واجهتها المؤسسة منذ عملها قبل ربع قرن، وقال: "كان التحدي الأول الذي فُرض علينا هو كيف تتمكن مؤسسة ثقافية تعتمد على إمكانيات فردية محدودة من إثبات وجودها وسط مؤسسات ثقافية حكومية تمتلك إمكانات لا محدودة، وتَمكنا من إثبات وجودنا بإدراكنا أن النجاح في أي عمل هو الذي يخلق الإمكانيات، وأن الثروة المعنوية هي التي توفر لأي عمل أبرز متطلباته"، مضيفا "أدركنا منذ الخطوة الأولى أن أي مشروع ثقافي لا يتطابق مع الساحة العربية على امتدادها لن يكون مجديًا، فتحررنا من ضيق الإقليم إلى فضاء الأمة، وأيقنا أن الاعتماد على الله ثم على أنفسنا هو سبيل النجاح".
وألقى والي مراكش عبدالسلام بكيرات، ممثلًا عن جلالة الملك محمد السادس كلمة أكد من خلالها الدور الريادي لمؤسسة جائزة عبدالعزيز سعود البابطين للإبداع الشعري في تكريم الأدب والإبداع الشعري من خلال تعريفها بالثقافة العربية في أرجاء العالم.
وأشار إلى أن للشعر دورا مهما في المجتمعات، فهو يسهم بشكل مباشر في بناء الحضارات الإنسانية.
ندوات فكرية تضيء شعر أبو تمام
حفلت فعاليات دورة (أبي تمام الطائي) بندوة أدبية ضمت جلستين، الأولى صباحية تحدث فيها الباحث الدكتور عبدالله التطاوي عن (اللغة في شعر أبي تمام) والثانية عن (بنية الصورة الفنية في شعر أبي تمام) قدمها الباحث الدكتور عبدالقادر الربّاعي، وفي الجلسة الثانية، وتحدث الباحث الدكتور فوزي عيسى عن أصول التجديد الفني في شعر أبي تمام، وتناول الدكتور إبراهيم نادن شعر أبي تمام وأثره الفني.
تحث الدكتور عبدالله التطاوي بداية عن لغة الشعر وبيان دورها في التشكيل الجمالي للنص الأدبي، بما له من منطلقات معرفية ووجدانية وتأثيرات اجتماعية وفكرية وإيحاءات نفسية تتطلب بدورها إعادة قراءة القصيدة عبر الأنماط الصوتية والصرفية والتراكيب النحوية والمستويات الدلالية، ثم يتواصل الحوار النظري وصولًا إلى تميز أبي تمام بين شعراء عصره بما عُرف عنه من تزاوج الفكر والشعور ومقاييس الصنعة والكد الذهني، وما تجلى في وعيه النقدي من خلال نظرية الشعر بين فهمه للماهية والأداة والوظيفة، وانعكاس ذلك كله على شعره.
وتحدث الباحث عن مصادر أبي تمام اللغوية موزعة بين البدوي والحضاري وما بينهما من التلاقي والتقاطع مما ظهر جليا في صوره، وبما ييسر الرد على بعض نقاده الذين عجزوا حتى عن مجرد فهمه أو استيعاب منهجه، أو الانخراط في سلك مدرسته البديعية، أو ما جنح إليه من رموز وفضاءات تصويرية صعب عليهم الغوص وراء أبعادها أو سبر أغوارها.
كما تناول الباحث مستويات الخطاب اللغوي في القصيدة لدى الشاعر الناقد، سواء عبر حواراته مع النقاد أو نصائحه للشعراء، أو في صياغة قصائده ومقطعاته بما يعكس صورًا من وعيه بأسرار اللغة وقدرتها على الإفصاح عن ملكاته وقدراته من واقع صلته بمفرداتها وتراكيبها وفنونها وينابيع أسرارها وإمكاناتها على الإيحاء وإثراء القصيدة.
بدوره رأى الدكتور عبدالقادر الرباعي أن الصورة الفنية في الشعر تتجلى ضمن آليات وأشكال متعددة أهمها التشبيه، والاستعارة، والكناية، والمجاز، والرمز والأسطورة. ولكل آلية فاعليتها وخصوصيتها وميزتها في النص. وقد تتحدد طبيعة النص من خلال الآلية الغالبة عليه وخصوصًا التشبيه والاستعارة نظرًا للوضوح المقترن بالتشبيه، والغموض المصاحب للاستعارة.
وفي دراسة الصورة الفنية لدى الشاعر أبي تمام أظهر الباحث ذلك الفرق بين التشبيه والاستعارة بجلاء، لأن أبا تمام غلبت الاستعارة على شعره فأكسبته غموضًا وتعقيدًا وقف منه لأجلهما بعض نقاد عصره موقف الضد والنقيض. ومرد هذا الموقف السلبي إلى أن أولئك النقاد ألفوا نمطًا من الشعر يعلي من القيمة الفنية للتشبيه، ولم تكن الاستعارة فضلًا على البعيدة منها أليفة لهم. لكن النقد الحديث اختلفت طروحاته وأصبح الاستعارة مركزية الصورة الفنية في الشعر. وبناء على هذا أصبح هنالك مجال لأن تدرس الصورة الاستعارية عند أبي تمام دراسة مختلفة تمامًا وتقاس بمقاييس مناقضة للمقاييس التي طبقت عليه في القديم.
في الجلسة الثانية، تتبع الدكتور فوزي عيسى أصول التجديد في شعر أبي تمام ووقف على جهوده في طرح سؤال الحداثة الشعرية والتأسيس لها حيث عده النقاد القدامى أول من خرج على عمود الشعر العربي وجاء بنوع جديد من الشعر لم يألفوه وأعمل فيه فكره وخياله فغاص على المعاني العميقة البعيدة الغور وأوغل في استعاراته وتشبيهاته وشغف بالبديع وأسرف فيه.
وقال في ورقته: اعتمد أبو تمام فى تجديده على روافد عدة، منها موهبته الشعرية الفذة وعبقريته وثقافته العميقة واستجابته لذوق عصره ومناخه الحضاري حيث استندت «حداثته» إلى وعيه بمفهوم «المعاصرة» واتجاهه إلى اصطناع لغة جديدة وصور مبتكرة تواكبان الحياة الحضارية الجديدة فتشكل شعره على مقدار إيقاع الزمان.
واشتهر أبو تمام بذكائه الحاد الذي رفده بأفكار ومعان جديدة وتضافر ذلك مع محفوظه الشعري الضخم الذي ساعده على التوسع في المعنى وإعادة عرض المعاني وصياغتها بطريقة جديدة، وعرف بمسلكه في (الاهتدام) أي هدم البناء القديم وبناء معان جددة على أنقاضه يلتبس فهمها على أصحاب التيار المحافظ ومن انحازوا إلى شعر الأوائل.
كان أبو تمام حسب رأي الدكتور فوزي عيسى أشبه بغوَّاص ماهر يهبط إلى أغوار بعيدة ليقتنص فرائده ودرره يرفده في ذلك وعي عميق دقيق بخريطة الشعر العربي بجميع خطوطها وتضاريسها وألوانها وكل ما تحتويه من أضواء وظلال، فاستطاع أن يضخ دماء جديدة في الشعر العربي ويغير مجرى نهر الإبداع، ويصطنع مذهبًا شعريًا جديدًا.
ويعنى البحث بالوقوف على الأصول والعناصر التي ارتكز عليها أبو تمام في تجديده، ومناقشة (الإشكالية) التي تمثلت في عجز بعض العلماء عن فهم شعره لافتقادهم ثقافة (التلقي) الجديدة التي ترقى إلى مستوى هذا الشعر، مما جعل عالمًا مثل ابن الأعرابي يقول ــ وقد أُنشد شعرًا لأبي تمام ــ "إن كان هذا شعرًا فما قالته العرب باطل"، كما تمثلت هذه الإشكالية ــ إشكالية التلقي ــ فيما رواه ابن الأعرابي من أن رجلًا استغلق عليه شعر أبي تمام، فقال له: يا أبا تمام! لم لا تقول من الشعر ما يُعرف؟ فقال له: وأنت لم لا تعرف من الشعر ما يُقال.
ووقف الباحث على الروافد الثقافية المتعددة التي أسهمت في اتجاه أبي تمام إلى التجديد، ومنها الثقافة الدينية والثقافة التاريخية والثقافة الأدبية والثقافة العقلية.
وقد تناول الباحث الدكتور إبراهيم نادن في ورقته "شعر أبي تمام وأثره الفني" أمورًا كثيرة منها أن أبا تمام الطائي كان شاعرًا عصريًّا مثَّل التناغم بين الوجه الحضاري للدولة العباسية ومستوى القول الشعري فيها، وأنه كان شاعرًا مجددًا في الشعر العربي خلال القرن الثالث، وتمثل هذا التجديد على الخصوص في معاني الشعر وصوره وأسلوبه وجمالياته، دون أن يمس ذلك اللغة والموسيقى ومنهج القصيدة.
ويرى الدكتور إبراهيم نادن "أن التجديد الذي مثله شعره جعل العلماء يختلفون حوله إلى اتجاهين متناقضين في المشهد الشعري العربي، وجعلهم يبحثون عن المميزات العامة لاتجاهه في القول الشعري".
وأن هذه الشهرة الأدبية التي أدركها أبو تمام، والسلطة الفنية التي حازها مذهبه الشعري لم تبق منحصرة في المشرق العربي، بل وصلت أصداؤها إلى الغرب الإسلامي عبر قنوات التواصل الثقافي المختلفة.
وأما على مستوى تأثيره في التأليف الأدبي في الشعر والنثر فقد كان حضور أبي تمام قويًّا حيث اتخذه أدباء الغرب الإسلامي نموذجًا أدبيًّا اعترفوا بسلطته التوجيهية والنقدية لرسم معالم نصوصهم الأدبية حيث حضر بهذا الدور في ثنايا هذه النصوص، كما ضمنوا كثيرًا من شعره فيها، وعنوا كثيرًا بمعارضة قصائده التي ظل كثير منها يوجه تأثيره الفني على تجاربهم الأدبية إما صراحة وإما باعتباره النص الخفي، وتبقى الإشارات الفنية المختلفة داخل إنتاجاتهم دالة على ذلك التوجيه وعلى ذلك التأثير.
ربع قرن في خدمة الثقافة والحوار
وفي الندوة الثانية المصاحبة لاحتفالية أبو تمام، والتي أقيمت على جلستين، أضاء مجموعة من الباحثين مسيرة مؤسسة جائزة عبدالعزيز سعود البابطين للإبداع الشعري خلال ربع قرن، وقد حاضر في الجلسات كل من الدكتور محمد حسن عبدالله والدكتور عبدالله أحمد المهنا وأدار هذه الجلسات الدكتور كمال عمران.
الدكتور عبدالعزيز بن لعبون تناول جهود مؤسسة جائزة عبدالعزيز سعود البابطين للإبداع الشعري في إحياء الحركة الثقافية العربية، وقال: إن مرور خمسة وعشرين عامًا على إعلان نهوض المؤسسة بما حملته لنفسها من واجب وطني وقومي وإنساني في نطاق الثقافة، يستدعي قراءة مختلفة، ويغري بطرح أسئلة مهمة تفتح الطريق إلى مزيد من العمق والتوسع والاستيعاب لحركة الحياة من حولنا.
وأضاف الباحث: في وجهنا الاهتمام إلى عمل «مؤسسة البابطين» بين الجماهير العربية، ليس هذا عن تقليل من شأن المحاور الأخرى، وهذه المحاور الأخرى لا تقدر على حمل مسؤولياتها إلاّ العصبة أولو القوة، إذ نجد لدينا: إصدار دواوين شعر قديمها وحديثها، محققة مشروحة مدققة في أبهى صور الطباعة، ولكن هل تعد سلسلة المعاجم للشعراء العرب المعاصرين (9 أجزاء) وشعراء القرنين التاسع عشر والعشرين (25 جزءًا) ومجموعات الأشعار المختارة.. هل تعد محسوبة على نشاط الطباعة والنشر أم أنها من الأعمال العلمية رفيعة القدر؟، وهي أعمال مؤسسة لثقافة واعية موثقة، ذات رؤية فنية وحضارية راقية؟! أضف إلى هذا: المشروع الذي تعد له المؤسسة حاليًّا، وهو إصدار معجم البابطين لشعراء العربية في خمسة قرون!!، وهنا نشير إلى مركز البابطين للترجمة، ومركز عبدالعزيز سعود البابطين لحوار الحضارات، وما يستتبع من تأليف وترجمة ونشر، وإقامة ندوات ومؤتمرات.
وأكد د. محمد حسن عبدالله هذه أعمال كبرى بكل ما تعني الكلمة، مع هذا لم نسلط عليها الضوء اكتفاء بتعريف موجز لأهمها. أما الوجه المشرق الذي عنينا بجلاء دقائقه ما أمكن فهو العمل الثقافي بين الجماهير، وبالجماهير ذاتها، فهذا هو الإحياء الحق للثقافة العربية، وهذا هو المجال الذي لا تنافس فيه مؤسسة جائزة عبدالعزيز سعود البابطين سواء من المؤسسات المدنية والجوائز المتعددة المتداولة في الوطن العربي، وحتى الأجهزة الثقافية التي تدخل في ولاية الحكومات وتنفق من ميزانية حكومتها.
ووصف ذلك بقوله: العمل بالجماهير وبينها هو العلامة المميزة منذ نشأة المؤسسة إلى اليوم، ويمكن أن نراقب هذا في تعدد جوائز الشعر والنقد لأحسن شاعر، ولأحسن ديوان، ولأحسن قصيدة، ولأحسن كتاب في نقد الشعر. مع المحافظة على منح الجوائز، فلم تحجب عبر مائة جائزة غير جائزتين.. تجنبًا للإحباط، وإثارة للمنافسة والرغبة في الإجادة. ومع المحافظة على سلامة معايير التحكيم، فإن بلدا، مهما كان له من مكانة أو شهرة ثقافية لم يستأثر بالجوائز، أو بأكثرها.
وأعطت الندوات المصاحبة للدورات، والملتقيات، مساحة أكبر للنقد، ولكنها اتسعت لإنشاد الشعر، ومنحت الشعراء الشباب فرصة إلقاء أشعارهم بين الجماهير، وكان صاحب المؤسسة وراعيها الشاعر عبدالعزيز سعود البابطين يأخذ مكانه بينهم ويشاركهم إنشاد الشعر.
التطوير المستمر لمحتوى الدورات، من محور في النقد، إلى محورين: في النقد وحوار الحضارات والثقافات، وتعدد الروافد التي تصب في المحيط المركزي للعمل، وهو الإبداع الشعري، والفكري، والنقدي، ما بين الدورات، والملتقيات، وربيع الشعر، وكذلك الترحال المستمر بين عواصم العالم، ما بين القاهرة، وفاس، والكويت، والمنامة، والعيون، وبيروت، وطهران، وقرطبة، وباريس، وبروكسل، وغيرها.. وفي الموضوعات المشتركة ثقافيا يكون المحاضرون قسمة بين العرب والأوروبيين، كما يكون الحوار ملتزما بآدابه ومناهجه بحيث لا يئول إلى عكسه.
الدكتور عبدالله أحمد المهنا تناول بدوره جهود مؤسسة جائزة عبدالعزيز سعود البابطين للإبداع الشعري في إثراء حركة حوار الحضارات، وذكر أن المؤسسة أدركت منذ وقت مبكر من تاريخها أهمية حوار الحضارات بين أمم الأرض، خصوصًا بعد أن دعت منظمة الأمم المتحدة عام 1998 إلى أن يكون عام 2001 عام الأمم المتحدة لحوار الحضارات، من أجل السلام، والتوافق بين الأمم والشعوب، وازدادت قناعة المؤسسة بهذا المشروع، بعد أن جاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001م، التي على أثرها تداعت صيحات صراع الحضارات بدل حوار الحضارات التي كان ينادي بها من قبل صمويل هنتجتون في الولايات المتحدة الأميركية. بيد أنَّ هذه الدعوات لم تفلح كثيرًا، إذ قامت في مواجهتها دعوات أخرى مضادة تنادي بأن يكون الشعر هو الوسيلة الأولى لحوار الحضارات، إذ اعتبرته وسيلة مؤثرة في التقريب بين الثقافات والحضارات، وإشاعة روح التسامح بين الأمم والشعوب.
وقال في ضوء هذه الدعوات الجديدة، التي تجعل من الشعر أحد الوسائل المؤثرة في إشاعة الوفاق والسلام بين الشعوب والأمم، رأت مؤسسة جائزة عبدالعزيز سعود البابطين للإبداع الشعري، بوصفها المؤسسة الأولى الراعية للشعر العربي اليوم، أن يكون لها دورها الفاعل في إشاعة روح التسامح بين الأمم والشعوب على اختلاف أجناسها وثقافاتها وانتماءاتها، فبادرت عام 2004 إلى وضع استراتيجية خاصة لإنشاء مركز لحوار الحضارات تكون من مهامه الرئيسة اقتراح توقيع الاتفاقيات الثقافية مع المنظمات والجامعات الدولية التي تعنى بحوار الحضارات، من المنظور الإنساني الواسع، فكانت أولى مبادرات المؤسسة، في هذا الجانب، اختيار إقليم الأندلس ليكون منطلقًا إلى تحقيق أهدافها النبيلة، بحكم العلاقة التاريخية التي تربط بين العرب، وإسبانيا عبر العصور، فأقامت دورتها الشعرية عن ابن زيدون عام 2004، في جامعة قرطبة وقد لقيت هذه الندوة حماسًا منقطع النظير، إذ حضر فعالياتها، غير المسبوقة أكثر من أربعمائة شخصية من قادة الفكر، وأساتذة الجامعات، والنقاد والشعراء، والإعلاميين من العرب والأوروبيين وغيرهم من مختلف الأديان.
وقبيل انتهاء فعاليات هذه الدورة الشعرية بقليل جاء افتتاح أولى ندواتها الفكرية حول حوار الحضارات، تلك الندوة التي استقطبت اهتمام المفكرين وعلماء الدين من الديانات الثلاث وبخاصة أنها جاءت وسط صيحات ناشزة تدعو إلى صراع الحضارات وبخاصة في وسائل الإعلام الأميركية، التي اكتوت بأحداث الحادي عشر من سبتمبر.
لقد قامت المؤسسة بتفعيل نشاطها في مجال حوار الحضارات من خلال التواصل الحضاري بين الشعوب والأمم فاعتمدت في استراتيجيتها الجديدة في هذا الشأن على إقامة الندوات خارج العالم العربي، وإنشاء المراكز التي تعنى بحوار الحضارات، فكانت البداية الأولى في طهران في الثالث من يوليو عام 2000م تحت مسمى ملتقى سعدي الشيرازي وجاءت الندوة الثانية مع دورتها التاسعة في قرطبة 2004، حيث أضافت إلى ندوتها الأدبية ندوة أخرى عن الحوار الحضاري والتعايش بين الأديان، أسهم في فعاليات هذه الندوة العديد من رجالات الفكر والأديان من الأوروبيين والعرب.
وفي ضوء هذا الحضور البارز للمؤسسة على المستوى الأوروبي، أقامت المؤسسة، في دورتها العاشرة في باريس عام 2006، بالتعاون مع منظمة اليونسكو، ندوتها الثالثة الثقافة وحوار الحضارات التي ضمّت مختلف الأطياف الثقافية والدينية في فرنسا، ثم تلتها بعد ذلك ندوة الكويت عام 2008 تحت عنوان: (دور الإعلام في حوار العرب والغرب)، حيث أسهم في فعاليات هذا الملتقى عدد كبير من المثقفين العرب والأجانب إلى جانب علماء الأديان.
ثم واصلت المؤسسة مسيرتها في هذا الشأن فأقامت ندوة في دبي في السادس عشر من أكتوبر عام 2011 تحت عنوان (الشعر من أجل التعايش السلمي)، نوقشت فيها موضوعات متنوعة تناولت الشعر العربي، والشعر العالمي وأثرهما في التواصل الإنساني عبر العصور، كما تضمنت الندوة في نهاية أعمالها مائدة مستديرة تناولت بصفة خاصة دور الشعر في حوار الحضارات.
ثم خَطَت المؤسسة خطوة أوسع حين أسهمت مع مؤسسة التييرو سبيلني بإيطاليا ومؤسسة ميتزورو ببلجيكا بإنشاء معهد البابطين للحوار بين الثقافات بتاريخ 9/11/2012، ومقره الدائم في جامعة روما الثالثة في العاصمة الإيطالية.
أمّا الإنجاز اللافت للنظر في مشهد حوار الحضارات، الذي تضطلع به المؤسسة فهو نجاحها في إقامة تعاون مشترك في هذا الشأن مع البرلمان الأوروبي في بروكسل حيث تم لها في هذا الشأن إقامة ندوة مشتركة بتاريخ 11/11/2013م، في مقر البرلمان الأوروبي وبرعاية من رئاسته، تحت (عنوان الحوار العربي الأوروبي في القرن الحادي والعشرين) نحو رؤية مشتركة.
وتسعى المؤسسة عبر مركز حوار الحضارات، إلى أن يمتد نشاطها الثقافي والفكري في المستقبل ليشمل الشرق الأوروبي والصين واليابان، والهند، لتأكيد وحدة التعايش الثقافي بين الشعوب والأمم مهما اختلفت الرؤى والأدوات.
وأختار الدكتور عبدالرحمن طنكول في تناوله لمسيرة مؤسسة جائزة عبدالعزيز سعود البابطين للإبداع الشعري تسليط الضوء على المرتكزات التي وجهت استراتيجيتها وحددت بصيغة أو بأخرى تطلعاتها. حيث يتبين بالملموس أنها استطاعت، من خلال الممارسة والإنجاز على أرض الواقع، أن تبلور أسلوبًا في العمل والأداء يمكنها من تخطي المعوقات واستشراف آفاق المستقبل. ولعل هذا الأسلوب هو الذي أمّن لها السير قدمًا على امتداد سنوات طوال بخطوات كلها ثقة وثبات.
وقال يكفي الاطلاع على رصيد إنجازاتها، في مختلف مجالات انشغالها، ليتضح أننا فعلًا أمام مؤسسة حريصة على أن تقرأ دائمًا الحاضر بأعين المستقبل، وأن تنظر إلى المستقبل من منظار خبرات الماضي. كل ذلك يتم في إطار جدلية لا تترك مجالًا للارتجال ولا لأي شكل من أشكال الاضطراب في القرار والضبابية في التشخيص والتناول. فليس إذن من الغرابة في شيء أن تحظى اليوم هذه المؤسسة بسمعة لا تضاهيها فيها أية مؤسسة أخرى.
وأضاف: لكن ما يعتبر مدعاة للإعجاب كون هذا الإشعاع لم يزد الساهرين عليها، وفي طليعتهم رئيسها الشاعر عبد العزيز سعود البابطين، إلا تواضعًا وتجردًا ونأيًا عن كل نزعة أنانية. وهذا الموقف، كما نعلم، ينفرد به بامتياز أولئك الذين ولعوا بحب الآخرين، إلى درجة الشعور بأن هناك شيئًا ما ناقصًا فيما يقدمونه لهم، ليجدوا أنفسهم دائمًا في دوامة البحث عن الجديد. إنهم لا يعرفون غرور الشعور بالانتهاء والاكتمال. وبالتأكيد هنا يكمن سر نجاحهم.