رؤية ـ خميس السلطي:
الحديث عن الفن التشكيلي أمر يتطلب الكثير من أدوات اليقين والعلم بتفاصيل الآخر، وعليك أن تدخل في عوالم مخفيّة ومجهولة الأنماط إلا من علم بها من قبل أو تتبع أثرها، ومن خلال التتبع تنتج الكثير من الرؤى والتوجهات، ولهذا فقد تولد فكرة سائدة إيجابية في مظهرها العام وذوقها الخاص، وهذا ليس مقتصرا على عالمنا الفني المحلي وإنما منذ أن بدأ الفنان المبدع في صقل فكره وفنه وأدبه، أصبحت حياته مختلفة جدا عن غيره، فقد فكر أن يكون مختلفا، نخبويا إن صح القول، والفن عادة يحتاج إلى يكون صاحبه ذو لب، له من يتقنه فهناك من عمدوا لأن تكون لهم هناك ثقافة مختلفة، ولهذا كان لهم مع وجود مغاير وحياة لا تتشابه مع من حولهم، وعرفنا بأن الفن هو معيار حضارة الأمم، ورمز تقدمها، فهو الضوء المشرق المبهر للتاريخ الذي يتعبر جزء من عنصر الزمان والمكان، والفن التشكيلي بشكل خاص هو صاحب حضور متوهج في كل حضارة، كونه الناقل القوي للصور الكائنة ورمز للعقل في الأمة.
بالأمس القريب تتبعنا نتائج المسابقة السنوية التي تقيمها وزارة التراث والثقافة والمعنونة بـ"مسابقة الأعمال الصغيرة والمتوسطة" لعام 2014، فالحضور الفني مبهرا وطاغيا بشكل كبير ومدهش حد التألق، ومما ميّز الأمر تلك الأعمال التي وصلت إلى نحو (347 عملاَ) وبمشاركة 150 فنانا في مجالات الفنون التشكيلية المختلفة كالرسم والتصوير والتي شارك فيها (88 فنانا بواقع 196 عملا)، أما التشكيلات الحروفية فقد شارك فيها (10 فنانين بواقع 30 عملا ) وفي والنحت شارك (17 فنانا بواقع 36 عملا) وفي الخزف شارك فيه (18فنانا بواقع 49 عملا) أما في الحفر فقد شارك فيه (3 فنانين بواقع 10 أعمال) وشارك في الكمبيوتــر جرافيــك (9 فنانين بواقع 21 عملا) وفنون الميديـا فقد شارك فيها ( فنانان بواقع عملين) والأعمال التركيبيـة شارك فيها (3 فنانين بواقع 3 اعمال فنية) .
هنا نحاول أن ندخل إلى عوالم تلك اللوحات المشاركة والحاصلة على جوائز متقدمة في هذه المسابقة، فعلى سبيل المثال نقف ونحن نتأمل تلك اللوحة المركبة الفائزة بالجائزة الكبرى للفنان أدهم الفارسي. هذه اللوحة تبدو وكأننا أمام مشاهد متداخلة، وكأن الإنسان أمام عتبات لا متناهية من التفاصيل المحيّرة، ورغم بساطة المشهد والذي قد يبدو عابرا بعض الشي، إلا أن الرسالة التي أرادها الفارسي لا يمكن أن تمر مرور الكرام، فالحياة في هذه اللوحة أو (المشهد) أن صح التعبير يأخذنا إلى ما وصل إليه العالم من تعقيدات في حياته اليومية، فالحياة المبهجة التي نحلم بها لا يمكن أن نصل إليها بتلك السهولة التي من الممكن أن نتوقعها، فنحن أمام عقبات كبرى وأفكار تشكلت لتوجد مثال التردد الذي دائما ما يولد الضجر ويفقدنا تفكيرنا الإيجابي. هنا ملامح ظاهرة (تلفزيون، مجتمع، أصدقاء، أنترنت) ..ألخ، تجمعات كبرى، وهناك في الطرف القريب الآخر الحياة التي تبدو خالية من التعقيدات والهموم، حيث الإخضرار ومكونات الطبيعة الرابضة في أحضان الهدوء، إذن هي رسالة واضحة بأن الحياة تجاوزت المعقول وهي بحاجة إلى إعادة ترتيب نوعا ما.
كما تأخذنا الفنانة خديجة الشبلية ومن خلال لوحتها إلى عالم من الجمال، حيث حديث الروح، نقف أمام اللوحة لنتتبع الحكاية التي أتت كمزيج لحديث الزمان وبهاء التصوّر، امرأة شامخة رغم الحزن الداخلي الذي استوطنها، مع دهشة حضور الكيان البيئي، فالزرقة التي بدأت طاغية قد لا تشكل المساحة الكافية لتشعل البهجة في النفس، وإنما قد تكون إنعكاسة لإنتكاسة لا محدودة، لكن ونحن ننتبع الأثر نبدو على يقين أن الجمال يكمن في الحكاية التي بدأت من أعلى اللوحة تمثلت في سرد كتابي وتشكيلات حروفية، ولكي تكتمل القصة لا بد أن نقرأ تفاصيلها، ولو نعود إلى الكيان البيئي نراه متوهجا في تقاسيم الوجه الذي يحمل تشظيات الأنثى ومقتضياتها اليومية، فالزمن بدأ ظاهرا وساخرا بسطوته، وربما هناك دمعة مخفية لا نراها وقد أخذ النقاب الحقيقة البعيدة التي مضت بين مساراته المتعددة. لوحة من الواقع، محملة بالتناقضات فالهم حاضرا والوجع متعاليا في صيحاته كذلك إنحناءة الروح التي أوجعت المشهد. ولا زلت أقول أن لكل صورة ألف حكاية وحكاية وكل منا يراها بطريقته الخاصة التي قد تختلف عن الآخر.
الفنان إدريس الهوتي لم يتبعد كثيرا فالألق بدأ واضحا في لوحته المليئة بالحيوية، حيث المكان وأسرار صغيرة عن الأنثى التي تبدو حاضرة بأحاديث كثيرة تنوعت وتداخلت ، شكلّت مشاهد تطرح الكثير من الأسئلة التي تبحث عن أجوبة شتى.
من خلال رؤيتي لهذه اللوحة التي أخرجها الهوتي، ارى أن للمرأة حقيقة مبهرة، وكما نريدها، فهي أصبحت تستحوذ على المشهد الكلي الذي من خلاله نسطيع المرور نحو تلك الطرقات القريبة من الاستقرار الداخلي للمكان، هناك والبعد يأخذنا إليه، نوافذ وحكايات، ومسارات لا نعلم إلى أين تقودنا، المرأة هنا وهي مكسوّة بالبياض والزرقة، تبعث لأفئدتنا الدفء والقلق في آن واحد، تنادي لأن نكون أكثر قربا من المكان حيث نبتعد أحيانا لنعيش في اللامكان. هدوء عنيف واستقرار صاخب، ولا بد أن نعترف أن للمرأة قوة داخلية تستوطنها، تستفز من حولها، فهي غالبا ما تكون هادئة من خلال تقاسيم تصرفاتها الخارجية، ولكن في داخلها مدن يناقض ذلك الهدوء، هذا ما قرأناه في هذه اللوحة للفنان إدريس الهوتي.
لا أعلم لماذا هي الأنثى حاضرة وبقوة في أعمال هذه المسابقة الفنية، أكثر من لوحة تبرز الحضور الطاغي لها، وفي أحوال متباينة، هنا يأتينا الفنان عبدالله البلوشي، في لوحة تمثل حجم الخطيئة التي دائما ما تلاحق الأنثى، وقد تكون نتجية ظروف اخلاقية ومجتمعية تتمدد لأن تصبح أجتماعية في المحور النهائي، هذه اللوحة التي تأتي بصورة الجمال والرقة الأنثوية المكبلة بأغلال الوقت نراها وهي تحمل "التفاحة" التي تشكل الخطئية في العرف الأدبي الفني، السؤال الذي يطرح نفسه هنا، هل أصبحت الأنثى بهذا التصور الذي تنقله لنا صور الفن بين الحين والآخر، قد تبدو الإجابة "نعم"، وقد تبدو أيضا "لا"، فلا يخفى على أحد أن التصور الإجتماعي والعرف وخاصة الشرقي منه يرى أن المرأة هي أصل لكل خطئية، والرجل منزه إن صح القول، ووقوعها في الخطئية حرام ويجب التكفير عنه، وإن توفرت الأدوات لأجل الخلاص والوصول إلى المغفرة قد نصطدم بواقع مختلف في نهاية المطاف، ربما لن يقبل هذا الغفران، في هذا السياق أتذكر مقولة أحد الأصدقاء ذات مرة حينما قال ناقلا عما قرأه في كتبه المتوفرة لديه : "مسكينة هي المرأة في مجتمعنا العربي الشرقي، لا تنبت لها لحية في وجهها كي تكفّر عن ذنبها"، فالصورة التي ينقلها لنا الفنان عبدالله البلوشي ليست بجديدة ولكن هناك اشتغال متقن على حيثيات اللوحة، والتي جمعت بين المرأة وخطئيتها والعقاب الذي تتلقاه من مجتمعها الذي يحيط بها. ولكن قبل أن ننصرف نطرح هنا تساؤلا عاما، كيف لنا أن نحدد وجه العقاب الذي يجب أن تتلقاه المرأة اتجاه جرمها الذي قد تقع فيه؟!! هل هناك ضوابط يجب أن توضع أم إننا نرمي كل شيء بشكل عشوائي.
الفنانة سامية الغريبية تأتي بعمل يتقاطع في فكرته حيث الإنسانية والتكوين البشري، حيث الحب والعطف والنماء، فهو مكمل للمسيرة الفنية للفنانة التي قطعتها خلال الفترة الماضية، هنا تأتي المرأة لتسجل كلمتها وبيان حضورها، ودورها الإنساني البالغ في الأهمية، ومن خلال الملامح الظاهرة في اللوحة حيث البرقع وهو أحد مكونات المرأة العمانية في لباسها التقليدي، نلاحظ أن هناك رسالة تود الغريبية إيصالها للمتتبع المتلقي، تتمثل في أن دور المرأة يأتي من خلال إشارات بالغة في حياتها، كاللباس مثلا واللون وتكوين الهيئة العامة لها، فدور المرأة واضح وملوس في بناء الحياة العمانية، فهو تعدى بشكل عام عما ألفه البعض كونها مجرد ربت منزل فقط، وإنما وصلت إلى أبعد مما نتصور، فهو حياة لنضال الإنسان نحو الطموح الحياتي وأداة فاعلة في التنمية البشرية الإنسانية، فهي هنا تحقق بصمة واسعة وملموسة وهي أن دورها وحضورها وصل ليكون ضمن المراتب العليا والتنافس حيث العمل الشريف على بلوغ المجد ، وما هذا الشموخ الظاهر في اللوحة إلا رمزا للرفعة، فالمرأة أساس السكن في البيت الواحد ورمزا حاضرا لتكوينه ، فهي ملاذ الحب والوئام وأصل لأتفاق الأبناء وإنسجامهم ، مع السير وفق منظومة حياتية مدروسة، فهي توجد التفاعل كالبنيان المرصوص فيستقيم الواقع الحياتي المعايش.
القضية الفلسطينة أو القومية العربية هي دائما ما تكون الشغل الشاغل لدى الكثيرين من الفنانيين العمانيين والعرب، فهي رسالة إنسانية قبل أن تكون عربية أو عالمية، وتبقى لأنها تشغل الحيز الكبير لدى الكثيرين من المشتغلين على الفن والأدب والموسيقى وغير ذلك من صنوف الفكر. هنا يأتي الفنان المتألق عيسى المفرجي بعمل تركيبي موحد للفكرة والرسالة التي تهم كل إنسان عربي. هذه اللوحة تتحدث عن قوة الحق، مهما طغى الظلم والاستبداد، فزهق الأرواح بالشكل الذي يفجع القلب هو لا بد أن يولد ردة فعل عكسية وقد تكون غاضبة غير متوقعة أبدا. هذه اللوحة تتحدث عن قوة الشعب الفلسطيني والدفاع عن الارض مهما تسلح المحتل واستند على اساس السلاح وقوته الا ان الحق أقوى ويبقى الاعلى ممهم تقلبة الاوضاع وتلوث السلام بالدماء في النهاية ينتصر الحق واصحابه.
فيقال إن صاحب الحق لن يظل ولن ينكسر ما دام أن هناك رسالة سامية في مخيلته وقلبه وروحه تجاه أمر اراده أن يكون نصب عينه، وهذا ما أراده الشعب الفلسطيني بحق، فالجدال واقع لا محال، والأمر قد لا يُحل بتلك السهولة التي يتصورها المرء، لكن علينا أن ندرك أننا أصحاب مبدأ وقضية.
بكل تأكيد المنظر العام للوحة مشد وملفت للنظر وهو قابل أن يفسر لأكثر رؤية ، ولكن يبقى أن للحق كلمته البالغة التي لا يمكن أن تمر عابرة، رغم الرصاص والقتل وسفك الدماء هنا نرى أن حمام السلم ماض في طريقة لا يحد حد ولا يوقفه أمر. هكذا تعودنا على المفرجي بأن يأتي مغايرا في أطروحاته الفنية التي ألفناها من ذي قبل وما هذا النتاج إلا تتويجا للمسيرة الفنية الظاهرة في حياته الفنية.
يبقى أن ندرك أن الأعمال التي جاءت لتشكل عاملا مهما في هذه المسابقة، لهي نتائج لخبرات تراكمية اشتغل عليها أصحابها، وكما نعمل فأن الفن التشكيلي هو رئة الفنان التي يتنفس بها، فهنا تجمعت كل المدارس الفنية في عالم الفن، الواقعية والتجريدية، والكلاسيكية، والسيريالية وغيرها من المدارس. وكما تتبعت فأن هناك أسماء رائدة في الفن التشكيلي العماني شاركت في هذه المسابقة ولكنها لم تأخذ نصيبها من التوفيق ربما لأن للجنة التحكيم رؤيتها الخاصة في هذا المجال. هنا تتشكل رسالة الفن لتصبح كغيرها من الرسائل الإنسانية التي تبهرنا يوما بعد يوم، فهي في مصاف القصيدة والفيلم السينمائي والرواية والقصة القصيرة، جيمع هذه المفردات هي فنون أدبية وقد تمتتزج بين الحين والآخر لتصبح أيضا أرواح متداخلة بين الموسيقى والحكايات المتداخلة. فاللون هو الطريق إلى الحياة والريشة محرك له، لتصبح حياة واضحة تمشي في أطر متناسقة، هكذا تخرج لنا، حتى وإن تشظت الأفكار لابد من نتيجة مبهرة في نهاية المطاف. هكذا عوّدنا الفن التشكيلي، فهو مزيج من الفرح والحزن من الجمال والقبح ، مرور إلى المكان واللامكان، جميع التناقضات قد تجتمع في لحظة واحدة في مكان واحد.
فالتساؤلات كثيرة، والحيرة تقبض على كل شي، والدهشة قد تسبق العقل، ولكن اليقين هو الغالب في كل الأحوال، فقط علينا التأمل والتأني في التعامل مع هذا الجمال التشكيلي، وقد نكون نحن من نشكل هذه اللوحات، وهذا التشكل يعود لأحوالنا، ظروف حياتنا، تقلباتنا النفسية والمزاجية، التي تعصف بنا بين الحين والآخر، وهذا الأمر لا يقتصر على الفن التشكيلي رغم الواقعية التي يفرضها علينا في أحيان كثيرة، ولكن نجده في جيمع النتاجات الأدبية والفنية الأخرى. وهنا تأخذنا اللوحة من جديد لأن تبقينا في عالم مختلف مبهر جدا.