تتّصف لغة العرب بغلبة القياس والاطّراد في صيغها ودلالات هذه الصيغ ، فإذا أراد المشتغل باللغة أن يتفادى جملة الأخطاء يتعيّن عليه أن يتأمل مواضع تلك الصيغ من السياق وطبيعة الأداء الذي تؤديه ، وبتكرار التأمل وإمعان النظر في وظيفة الصيغة وأشكال ورودها في النصوص يتكوّن عند المتتبِّع نوع من الألفة والإحساس اللغوي السليم بمواقع الكلام كما تألف أصابع الضارب بالآلة الكاتبة مواقع الحروف من غير النظر إليها. وعلى هذه الصورة من معاودة سماعك لألفاظ متشابهة في وزنها ووقعها تتمكَّن ـ شيئاً فشيئاً ـ من الربط بينها وبين ما تدلّ عليه في أكثر الحالات والأوضاع . من ذلك مثلاً لفظة الصِّحافة والكِتابة والزِراعة والنِّجارة والخِزانة والرِّعاية ، فلهذه الألفاظ وأمثالها دلالة المهنة ، أو فيها الدلالة على لون من ألوان الاختصاص في العمل ، فإذا ما عرضت لك مهنة من هذه المهن، أو عَنَّ لك اختصاص يقرب في طبيعته منها سارعت بلا كثير تردد إلى نطقه على هذا النحو والوزن . ومع ذلك فإنَّنا نسمع في كثير من الأحيان حديثاً يدور حول جهود الدولة في تحسين دور الحَضانة ، أفليس ذلك النشاط مهنة كالرِّعاية والصِّحافة وسائر ما ذكرناه ؟!!! فإذا أخذنا بالقياس الذي يأنس إليه العقل قلنا : دور الحِضانة ، وحتى لو كان الإنسان خاملاً لا همَّة له وعاطلاً من العمل فحاله تندرج تحت هذه التسميات فتأخذ زنة الصيغة نفسها ، وأعني بذلك البِطالة ، لا كما كنا نسمعها عادة في الأخبار البَطالة ( بفتح الباء ).
ويقع في كلام الناس أحياناً قولهم : الجَنَازة ،والصَّواب أن نقول:الجِنازة ( بكسر الجيم ) ، ففي معجم العين للخليل بن أحمد الفراهيدي ( وقد جرى في أفواه العامَّة الجَنازة بنصب الجيم _ أي بفتح الجيم _ والنحارير ينكرونه ). ولهذا الوزن ضرب من المشاركة والتعاون في الدلالة العامة أيضاً كقولهم : الرِّفادة لما كانت تترافد به قريش ، أي تتعاون بتقديمه من الطعام للحُجَّاج في الجاهلية . وكذلك قولهم : الرِّدافة ، وهي أن يجلس الملك ويجلس الرِّدف عن يمينه ، فإذا شرب الملك شرب الرِّدف ، وإذا غزا الملك قعد الرِّدف في موضعه ، فلما جاء الإسلام رغب عن هذه التسمية وارتضى لفظة الخِلافة عوضاً منها .
وتجئ هذه الصيغة في بعض الأحيان للدلالة على الآلة أو ما يشبه الآلة ، يقولون من ذلك : الجِبارة ، وهي العيدان التي تجبر بها العظام ، والعِمامة التي تلاث حول الرأس ، والضِّمادة للخِرْقَة التي يُلَفّ بها الجُرْح ، وكذلك الغِفارة والعِمادة ، والغِفارة تعني الرقعة التي تكون على الحزّ الذي يجري عليه الوتر . ومن هذه الصيغة قولهم : الرِّسالة والقِلادة والبِطاقة، قال الجوهري في صحاحه : ( والبِطاقة ( بالكسر ) رُقيعة توضع في الثوب فيها رقم الثمن )، قيل سميت بذلك لأنها تشدّ بطاقة من هدب الثوب . كما تجئ هذه الصيغة للدلالة على الجمع كقولهم : الحِجارة : جمع الحجر ، والمِهارة : جمع المُهْر .

د.أحمد بن عبدالرحمن بالخير
استاذ الدراسات اللغوية بكلية العلوم التطبيقية بصلالة
[email protected]