الله تبارك تعالى خلق خلقه فأحكمه، وأوجد الكون وزينه، وبكل إتقان وترتيب نظمه، وبكل تنوع واختلاف شمله، ومن كل نقص أو عيب كمَّله، وما من شيء إلا سواه فأتقنه، وما من مجمل إلا بإجماله فصله، خلق ما خلق إيجاداً، من غير سابق ولا نظير، جعل الشهادة دليل على وجود الغيب، وخلق منها ما يرى وما لا يرى، وما من غائب إلا يعلمه، وجعل الدنيا باباً للآخرة، وجعل لظلمة الليل قمراً منيراً، وكسا النهار سراجاً وهاجاً، جعل الصلب والسائل، جعل الجبال الصخرية القاسية، وجعل الماء العذب الزلال، جعل الأخضر واليابس، وجعل من الأجرام الكبير والصغير، وجعل الحي والميت، والثابت والنامي، والدائم والمنقطع، والباقي وما ينفد، والمتزايد والمتناقص، أتم كل شيء فلا ينقص إلا بعلمه وإرادته، ومن كل شيء خلق الذكر والأنثى، جل جلاله .. خلق خلقا من النور، وخلق خلقا من النار، وخلق خلقا من الماء، وخلق خلقا من الطين، خلق الإنسان أطواراً، وعلى سائر المخلوقات فضله، وزاده بما خلق في الكون عجباً وانبهاراً، سبحانه خلق الجمال واتصف به، وما من حسن الجميل في لوحة الكون إلا من صنع يده، وجعل اختلاف الموجودات وتنوعها من تكامل الخلق وابداعه، وجعل الأشكال والألوان في تنوعها واختلافها دليل على عجيب قدرته، وبديع صنعه، وإعجاز آياته، وصنع لنا حواساً تدرك ذلك كله، وتشعر به وتستمتع بجماله، يقول القاضي أبو بكر الباقلاني: (الْحَواس الْخمس: وَهِي حاسة الْبَصَر، وحاسة السّمع، وحاسة الذَّوْق، وحاسة الشم، وحاسة اللَّمْس، وقصدنا بِذكر الحاسة هَا هُنَا: الْإِدْرَاك الْمَوْجُود بالحواس لَا الْأَجْسَام المؤتلفة على الصُّورَة الَّتِي مَا حصل عَلَيْهَا من الْأَجْسَام، وسميناه عيناً وأنفاً وأذناً وفماً ويداً، فَكل علم حصل عِنْد إِدْرَاك حاسة من هَذِه الْحَواس فَهُوَ علم ضَرُورَة يلْزم النَّفس، لُزُوماً لَا يُمكن مَعَه الشَّك فِي الْمدْرك وَلَا الارتياب بِهِ، وكل حاسة من هَذِه الْحَواس تخْتَص فِي وقتنا هَذَا على عَادَة جَارِيَة بِإِدْرَاك جنس أَو أَجنَاس، فحاسة الرُّؤْيَة تدْرك بهَا الألوان والأكوان والأجسام، وحاسة السّمع يدْرك بهَا الْكَلَام والأصوات، وحاسة الشم تدْرك بهَا الأراييح، وحاسة الذَّوْق تدْرك بهَا الطعوم، وحاسة اللَّمْس وكل عُضْو فِيهِ حَيَاة تدْرك بهَا الْحَرَارَة والبرودة واللين والخشونة والرخاوة والصلابة، على قَول من زعم أَن الخشونة والرخاوة واللين والصلابة معَان زَائِدَة تُوجد بالجواهر كالحرارة والبرودة) (انظر:(تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل) للباقلاني ص:28)، فسبحان الله الذي جعل كون معجز في تكوينه ، ومذهل في تنظيمه، ومدهش في تنوعه واختلاف ما فيه، (وكل ظواهر الكون تعتبر أشياء عجيبة، فالآيات هي الأمور العجيبة وهي قسمان: منظور ومقروء، المنظور: كل الكون، والمقروء: هو القرآن، فالقرآن يفسر آيات الكون، وآيات الكون تفسر آيات القرآن، والرسول جاء يتلو آيات القرآن، وكانت عجيبة عليهم، لكن الآيات الأخرى التي في الكون يشاهدونها ويرونها، قد جاء الرسول بآيات مقروءة ليلفت الناس إلى الآيات المنظورة، وبتلك الآيات المنظورة يكون العجب من دقة خلق الكون فينتهي الإنسان إلى الإيمان بِمَن خلق هذا الكون،كل سامع للقرآن إلى من خلق ذلك الكون الجميل البديع الذي فيه الآيات العجيبة. ثم يعطي الرسول من بعد ذلك المنهج الذي يناسب جمال الكون) (تفسير الشعراوي 3/ 1855)، فـ(إن نظرة واحدة شاعرة لكفيلة بإدراك حقيقة الجمال الكوني، وعمق هذا الجمال في تكوينه، ولإدراك معنى هذه اللفتة العجيبة قوله تعالى:(وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ)، وهي لفتة هنا إلى جمال الكون، فليست الضخامة وحدها، وليست الدقة وحدها إنما الجمال الذي ينتظم المظاهر جميعا، وينشأ من تناسقها جميعا، وشاهدة بالدقة، وشاهدة بالإبداع الجميل (انظر: الأساس في التفسير 6/ 2869)، ومن هنا أسأل الإخوة القراء الكرام: ماذا لو كان هذا الكون بلون واحد ، ماذا لو كانت الموجودات من حولنا ذات لون واحد ، ماذا إذا كانت الورود الموجودة على هذه البسيطة ملونة بلون واحد فقط، بمعنى أن الورد الذي أوجده الله تعالى على وجه الأرض من لون واحد فقط، ولا يوجد ورد مختلف الألوان، وإنما هو لون واحد، فهل كان الناس جميعا سيحبون الورد والأزهار لو كانت ذات لون واحد فقط؟ أعتقد أنك ـ قارئ الكريم ـ ستوافقني الرأي بأن الناس جميعاً في هذه الحالة لن يحبون الورد جميعاً، وإنما سيكون منهم من يحبه ومن لا يحبه، ولماذا؟ والإجابة بسيطة، لآن الناس مجبولون على اختلاف الأذواق والنظرات والمشاعر، ومن هنا يستحيل على جميع الناس وهو على هذه الحالة الاختلافية الفطرية يحبون لوناً واحداً جميعاً، بل من الطبيعي أن لا يجتمعون جميعا ً على حب لون واحد، ومن هنا جاءت إرادة الله تعالى أن يصنف إبداعياً وإعجاز صنع أن يجعل الأشياء مختلفة والألوان أيضاً حتى في صنع البشر، يقول ابن كثير: قول تعالى: ومن آيات قدرته العظيمة (خلق السموات والأرض) أي: خلق السموات في ارتفاعها واتساعها، وشفوف أجرامها وزهارة كواكبها ونجومها الثوابت والسيارات، والأرض في انخفاضها وكثافتها وما فيها من جبال وأودية، وبحار وقفار، وحيوان وأشجار، وقوله:(واختلاف ألسنتكم) يعني: اللغات، فهؤلاء بلغة العرب، وهؤلاء تتر لهم لغة أخرى، وهؤلاء كرج، وهؤلاء روم، وهؤلاء إفرنج، وهؤلاء بربر، وهؤلاء تكرور، وهؤلاء حبشة، وهؤلاء هنود، وهؤلاء عجم، وهؤلاء صقالبة، وهؤلاء خزر، وهؤلاء أرمن، وهؤلاء أكراد، إلى غير ذلك مما لا يعلمه إلا الله من اختلاف لغات بني آدم، واختلاف ألوانهم وهي حلاهم، فجميع أهل الأرض ـ بل أهل الدنيا ـ منذ خلق الله آدم إلى قيام الساعة: كل له عينان وحاجبان، وأنف وجبين، وفم وخدان. وليس يشبه واحد منهم الآخر، بل لا بد أن يفارقه بشيء من السمت أو الهيئة أو الكلام، ظاهراً كان أو خفياً، يظهر عند التأمل، كل وجه منهم أسلوب بذاته وهيئة لا تشبه الأخرى، ولو توافق جماعة في صفة من جمال أو قبح، لا بد من فارق بين كل واحد منهم وبين الآخر (انظر: تفسير ابن كثير ت سلامة 6/ 309).
وقد لفت القرآن الكريم هنا نظرنا لاختلاف الألوان من حولنا في أماكن وجودها وتنوعها، واختلافها، وقدرتها وتأثيرها على النفس، فالقدرة الإلهية التي أظهرت وجه هذا الكون بالصورة البديعة المذهلة التي تشتاق النفوس للمزيد من رؤيتها فكلما رأت من جمالها طمعت في المزيد، لما لها من إنبهاج في التكوين والظهور والرسم الإبداعي الرباني، ولما كان لون السماء واحداً، وألوان الأراضي يمكن حصرها، قال:(وألوانكم) أي: اختلافاً مع تفاوته وتقاربه لا ضبط له مع وحدة النسبة، ولولا هذا الاختلاف ما وقع التعارف، ولضاعت المصالح، وفاتت المنافع، وطوي سبحانه ذكر الصور لاختلاف صور النجوم باختلاف أشكالها، والأراضي بمقادير الجبال والروابي وأحوالها، فلو كان الاختلاف لأجل الطبيعة فإما أن يكون بالنظر إلى السماء أو إلى الأرض، فإن كان للسماء فلونها واحد، وإن كان للأرض فلون أهل كل قطر غير مناسب للون أرضهم، وأما الألسنة فأمرها أظهر (نظم الدرر في تناسب الآيات والسور 15/ 70) .. وللحديث بقية حول إبداع القدرة الإلهية في الألوان.

محمود عدلي الشريف
[email protected]