تميَّز الكتابُ العزيز بِسِمَاتٍ ليست لغيره من الكتب السماوية، واختص بخصائصَ صارت وقفًا عليه، تميِّزه، وتجعله دائمًا متفردًا عن كلِّ ما نزل من كتب سماوية وعن كل ما يُكتَب في أيِّ كتاب يصدر من بني البشر؛ بوصفه كتابًا سماويًّا ربانيًّا تحمل كل ألوان البلاغة، وكل أصناف البيان، وكل أطياف الفصاحة، وتجد الكلمة بتشكيلتها الصوتية، وتجاور حروفها، واصطفافهاعلى هيئة خاصة، وبضبط معين تعطيك دلالاتٍ واسعة، ومعانيَ جمة، وقيمًا إيمانيةً راقيةً، ولندخلْ مباشرة إلى تلك النماذج لنرى كم تعطي مثل تلك التشكيلات الصوتية بترتيب حروفها، واختيار بِنْيَتِها الصوتية، وتغييراتها الصرفية الكثيرَ والكثيرَمن الدلالات المشحونة، والمعاني المكنونة، والقيم السامية، والأخلاقيات العالية، يقول الله تعالى: ).. لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ( (التوبة ـ 57)، حيث بدأت تلك الآية الكريمة بحرف الشرط غير الجازم (لو) الذي يفيد امتناع حصول الجواب لامتناع حصول الشرط، فهو حرف امتناع لامتناع، ومعنى هذا أن ما يريدونه لن يتحقق، أو هو في عداد المستحيل، إلا أنهم يبحثون عنه هربًا من قدرهم المحتوم، فهم يركبون كلَّ صعب، ويدخلون في كل طريق مستحيل، بحثا عن مهرب أو مكان يختبئون فيه، ولكنْ، ولات حين مهرب، وليت الوقتَ وقتُ فرار، والفعل (يجدون) فعل يفيد اليقين، وهو من أفعال التحقق واليقين، وكما يقال: ليس مع العين أين؟ لكنْ هو فعل داخل في إطار (لو) التي تفيد الامتناع المؤبد، وورد بصيغة المضارع حتى يفيد استمرارَ بَلِّ رِيقِهم في أن ينقذهم أحدٌ، أو يجدوا أيَّ طريق للخروج مما هم فيه من فزع، ووجف، ووجل، أو تحسُّسِ سبيل للحياة والنجاة، ولكنْ، أنَّى لهم ذلك؟!، وتنكير لفظ (ملجأ) هنا يفيد حيرتهم ودورانهم هنا، وهناك، وهنالك، وقَطْعهم الطرق لهثا وراء الخروج مما هم فيه من الخوف، كما أن حروف كلمة (ملجأ) غريبة، ففيها الميم الشفوية، وفيها اللام الخارجة من جوانب الفم، وفيها الجيم الشجرية التي تضرب في سقف الحنك، وفيها الهمزة الحنجرية، بمعنى أن الكلمة بحروفها وتشكيلتها الصوتية بيَّنت الحيرة التي تمثلت في حيرة الحروف، فهي في الفم وعلى الشفتين (في الميم)، وتصل مرة أخرى إلى الحنجرة (في الهمزة) وفي أعلى السقف (ممثلة في الجيم الشجرية) وتزداد الحيرة عندما يدور اللسان في جوانب الفم (ممثلاً في نطق اللام) كل ذلك يفعله اللسان لاهثا باحثا عن أيِّ مخرج ، فهو يبدأ من بداية أعضاء النطق (الحنجرة) إلى نهاية الأعضاء (الفم)، ويتلعثم في أعلى السقف، ثم يعود إلى جوانب الفم، باحثاً متحيراً، فالكلمة بحروفها بيَّنتْ حيرة هذا الشخص، أو هؤلاء الشخوص وراء الخروج من جُبنهم وخوفهم، فلا يستطيعون فكاكا ولا فرارا، فهم حبيسو الفم، مهما فعلوا فلن تخرج حروفهم خارج أفواههم، ثم تأتي كلمة (أو) التي تفيد الشك، أو الحيرة،أو التردد، ثم تأتي بعدها كلمة: (مغارات)؛ لتبين مدى ما وصلوا إليه من البحث داخل الأرض، فإن حرف المد الألف الذي تكرَّر ، فإنه يُشعرك بمدى السرعة في النزول والهبوط، وكأن طائرة خَرَّتْ من السماء من أعالي الارتفاعات وبسرعة هائلة، والراء القويَّة مع التاء التي ترتطم بالأرض.
كما أن الإظهار في نطق التنوين (مغاراتٍ أو..) يشعرك هذا التشكيل الصوتي للكلمة بشعور مرعب يبيِّن فيه مقدار سرعة هؤلاء، فَهُمْ إنْ وجدوا فرجة ولو كانت بعيدة جدًّا بُعْدَ الغين من الألف، وبعد الراء من الألف، وطول المسافة التي يقطعها صاحبها باحثا لاهثا، ينبض قلبه بأسرع ما يكون النبض، وتتوالى دقَّات قلبه سريعة، وأنفاسه المتتابعة الحرَّى، ويأتي جمع (مغارة) ليبيِّن كَمْ عانى وقاسى، وتعب، ومضى غير لاوٍ على شيء، وجرى، وتكفَّأ، وقام ثانية، ووقع.

د.جمال عبدالعزيز أحمد
جامعة القاهرة بكلية دار العلوم بجمهورية مصر العربية.
[email protected]