د. أحمد مصطفى أحمد:
ربما هذا لا يفاجئ العمانيين أنفسهم، لكنه كان الملمح الرئيسي الأسبوع الماضي في أغلب وسائل الإعلام العالمية التي تابعت وفاة باني نهضة عمان الحديثة جلالة السلطان قابوس بن سعيد ـ رحمه الله ـ وتولي جلالة السلطان هيثم بن طارق الحكم: تلك السرعة والسلاسة التي انتقلت بها السلطة في السلطنة. عزز ذلك الملمح الصورة الدولية لسلطنة عمان باعتبارها "واحة سلام في منطقة مضطربة"، وهي الصفة التي تلحظها في أغلب ما كتب عن عمان في الإعلام الأجنبي في الأيام الماضية. صحيح أن العمانيين ومن يقيمون في السلطنة أو يزورونها لديهم صور أخرى كثيرة يتذكرون بها النهضة العمرانية والاقتصادية ومشروعات التطوير في البلاد في عهد السلطان الراحل، لكن صورة السلطنة الخارجية لا تقل أهمية عما أنجز وترسخ في البلاد. مرة أخرى، قد يرى العمانيون ومن عرف عمان وشعبها أن تلك الصورة أمر طبيعي وتعكس الطبيعة المسالمة الخيرة لشعب السلطنة، لكن بالنسبة لبقية العالم كانت مبادئ السياسة الخارجية التي أرساها السلطان الراحل ـ رحمه الله ـ سببا في وصف كثيرين لعمان بأنها "سويسرا الشرق".
وليس القصد في التشبيه ما حبت به الطبيعة سويسرا فحسب، فالطبيعة في السلطنة لا تقل جمالا وروعة، مع اختلاف الجغرافيا والمناخ، وإنما بالأساس موقف سويسرا من السياسة الدولية الملتزم بالحياد الإيجابي، والنأي عن المحاور والأحلاف، والتركيز على العلاقات التي تفيد البشر، وتحديث القوانين باستمرار بما يضمن تميزها في مجالات الاستثمار. وإذا كانت سويسرا ضمن قارة هادئة نسبيا سياسيا وأمنيا، فإن السلطنة بوضعها الجغرافي في قلب منطقة تعج بالصراعات والاضطرابات التي لا تكاد تهدأ حتى تندلع تتفوق في حيادها وسياستها الخارجية المتوازنة على سويسرا. ولم تكن العقود الماضية فترة نهضة اقتصادية واجتماعية في السلطنة فحسب، بل سيجت تلك النهضة بسياسة خارجية دعمت خطط التطور الاقتصادي والتحديث والنمو في السلطنة وعبر شراكاتها التجارية والاقتصادية والاستثمارية مع المنطقة والعالم.
هذا هو النهج الذي يواصله قائد السلطنة الجديد وقد أرسيت أسسه بصلابة ومتانة ضمنت البناء عليه نحو مزيد من الاستقرار والأمن، ودفع عجلة التنمية المحاطة بسياج من التعاون مع المنطقة والعالم والخالية من أي توترات ومشاكل. بالطبع لم يكن إرساء تلك الأسس والوصول إلى هذه النتائج سهلا، وربما كانت مصاعبه بقدر المصاعب التي تواجه عملية التنمية في الداخل العماني. لكن ما شهد به العالم أجمع من حكمة ورصانة السلطان الراحل ـ طيب الله ثراه ـ أوصلت عمان إلى هذه المكانة التي بلا شك ستزداد مع السلطان الجديد. ولا يبالغ المرء في القول بأن العالم ينتظر من سلطنة عمان دوما أن تحافظ على دورها هذا بل وتزيده، لما له من مردود إيجابي على الأمن والسلم العالمي، وعلى خفض حدة التوترات في المنطقة، وتعزيز التعاون من أجل التنمية المستدامة.
منذ سبعينيات القرن الماضي، وقبل ذلك حتى، يلجأ الجميع عندما تشتد الأزمات في المنطقة إلى مسقط ـ في أغلب الأحيان سرا لا علنا ـ ليس فقط للتوسط بين الفرقاء، ولكن أيضا لتقديم المشورة التي يعرف كل الأطراف أنها تخلو من أي سعي لمصلحة أنانية، وإنما تستهدف صالح كل الأطراف والمنطقة والعالم.
لا شك أيضا في أن للسلطنة مصلحة في ذلك، فأمن الإقليم والمنطقة والعالم والعلاقات الجيدة بين الجيران والمحيط القرب والأوسع تعزز فرص التعاون الاقتصادي والاستثماري، وتبادل الخبرات من أجل تحسين فرص التنمية. ولطالما كانت سلطنة عمان بموقعها الاستراتيجي على مياه الخليج والمحيط وقربها من شبه القارة الهندية، إلى جانب ارتباطها الجغرافي والثقافي بمنطقة الخليج وبقية العالم العربي حلقة تواصل على مر القرون. ومع تعقد النظام الدولي بعد الحربين العالميتين في القرن الماضي ازدادت أهمية هذا الدور من بلد تلتقي فيه نهايات خطوط عدة تجارية واستراتيجية. وضاعف من أهمية توازن السياسة الخارجية العمانية ما تشهده المنطقة منذ العقدين الأخيرين من القرن الماضي وحتى الآن، فدرهم الحكمة في سوق الحكماء يساوي درهما، لكنه في موقع آخر يعج بالتجاذب والانفعال أحيانا يساوي قنطارا.
ربما لا تحظى السلطنة بتغطية واسعة في الإعلام الأجنبي، وذلك أحيانا أمر إيجابي لأن ما يصنع الأخبار هو المشاكل والأزمات. ولأن أغلب جهودها الدبلوماسية في القضايا الشائكة تكون محمية بكتمان يضمن نجاحها لا تجد اسم السلطنة في العناوين في الإعلام الدولي إلا قليلا. لكن الاهتمام الإعلامي الأسبوع الماضي مثل نقطة انطلاق ربما لزيادة إبراز صورة السلطنة عالميا، طبعا ليس بما يضر بنهجها الدبلوماسي الفريد في سياستها الخارجية، ولكن بما يعكس النهضة الداخلية التي شهدتها وستستمر، وكذلك كوجهة سياحية فريدة تتميز بما لا تجده في غيرها. وليس كل الإعلام شرا في النهاية، بل إن التغطية الإيجابية لتراث عمان الثقافي والحضاري وميزاتها السياحية قد يفيد أيضا في دعم سياسة التنمية الاقتصادية والاستثمار والحياد الخارجي.
هذا التصالح مع النفس ومع الآخر، والحفاظ على علاقات طيبة مع الجميع، والنأي عن المشاحنات التي تهدد الأمن والاستقرار، جزء أساسي في مسيرة نهضة عمان التي بناها المغفور له بإذن الله جلالة السلطان قابوس، وتستمر المسيرة مع جلالة السلطان هيثم بن طارق بشقيها التنموي الداخلي والخارجي.