هنا، تناول سريع، ومقتضب للنصوص الفائزة بالمراكز الثلاثة الأولى في مسابقة المنتدى الأدبي للعام 2011 م : تسابيح الغياب لصالح الحاتمي، وبلل لعبد الناصر السديري واستغفار لعبد العزيز العميري، تحاول القراءة، ضمن ما تحاوله، معالجة العنوان كـ (عتبة أولى) للنص، وكـ(مدخل) :
تسابيح الغياب للحاتمي(1) :

إلحاق "تسابيح" المشرقة بـمفردة "الغياب" يرسم في النفس انطباعا بالاستغراق في التأمل، والسباحة الروحية، في دهاليز الغياب المظلمة، واسترجاع هادئ وشفيف لتفاصيل حكاية حلم آل إلى الذبول "قبل موعد قطافه، وإشعال شموع التسابيح في وجه هذا الأسود المتراكم في طبقات الروح، إثر انطفاء "قناديل الصبر"، ما يستدعي مفردات وأفعال من قبيل ( رتل ، زورق ، غنى ، يصلي ، ميلاد ، شباك ).
بيد أنه في حضرة هذا الانخطاف العشقي ، والتسابيح المبحرة في صلب الحكاية و" تجاويف العمر " نضع أيادينا على آذاننا جراء شوشرة بعض المفردات النشاز التي لا تتساوق مع هذا التدفق الحميم ، مفردات مثل (الصراخ ، يزأر ، منشار )
عطشى تجاويف العمر والصيف يزرعني جفاف
ما بل حلق الذاكرة يوم طلى وجهي ضجر
أي غياب هذا ؟!! ، الذي أخذ معه الغيمات الحبلى وامتص الماء وترك تجاويف العمر لنار العطش، لهيب صيف لا يزرع إلا الجفاف ، ولا نجني منه إلا وجوه الضجر المتجهمة، النابتة بوحشية وعناد!!
بيد أن فعل الماضي " طلى " فعل براني، فالطلاء طبقة دهان خارجي، أشبه ما تكون بالمكياج الذي يوضع على وجه الممثل ، ليعكس انطباعا ما، وحالة إنسانية معينة، وهو بلا شك لا يفلح في التعبير عن الموار الداخلي وعطش التجاويف.
الليل ميلاد التعب يفرش نصاله لي عزاف
والصبح شباك الجروح الساكبه بفم العمر
الليل ميلاد التعب .. والصبح شباك الجروح
هذا التماثل الزمني يفضي إلى تماثلات في التعب والجروح والمكابدة ، فالليل، في المحصلة ، لا يفضي إلا إلى ليل آخر بالمعنى المجازي ، ليل متعاقب ، ليل من خلفه ليل من خلفه ليل ، رغم هذه الضدية الأزلية بين ( الليل ، الصبح ) وهو ، لعمري ، تضاد خارجي وحسب ، حيث الليل والصبح يتآزران على الشاعر ، ( ميلاد التعب ، شباك الجروح ) ويوجهان نصالهما تجاهه ، ما يستدعي إلى الذاكرة بيت الشاعر الجاهلي " لامرئ القيس :
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي بصبح وما الإصباح منك بأمثل ِ
النص يحمل تسابيحه ، وانثيالاته ، وحمضه الخاص ، الذي يشي بشاعر يجيد الغناء "على زورق حزنه ، لو اشتغل على نصه بشكل متأن، والتفت إلى تناسل بعض التراكيب في النص بكثرة ما يفقد النص حركيته وتصاعديته، وارتباك بعضها الآخر على نحو : يفتح بأزار الهتاف: فليست الباء زائدة فحسب، بل تربك المعنى وتضعضعه .
هذا عدا استخدام الشاعر بشكل غير واع ومضلل لعلامات الترقيم .
بلل للسديري(2) :

أي بلل يخبئه عبد الناصر في هذا النص ؟

فتشت عن مفردة " بلل " في النص فلم أجد لها أي أثر !
ولكن وجدت الكثير من الماء الذي يترقرق تحت جلد القصيدة ، والعديد من المفردات المائية – إذا صح التعبير – فمفردة المطر على سبيل المثال ترد في أول بيتين ثلاث مرات، هذا عدا مفردات من قبيل: عطرك ، دمعك ، سحاب ، غسيل ، ذاب ، قهاويهم.
قبل أن نلج النص لا بد لنا من الوقوف عند العبارة التي صدر بها الشاعر نصه : " نحن كائنات تحطم الغد لتصل إلى الماضي " للروائي السعودي عبده خال ، حيث ثمة مسير عكس دورة الزمن أو ارتداد للوراء ، عودة إلى الماضي ، وقد تكون هذه العودة هي مكمن البلل ورقعته :

ذكرتك والفضاء غربة ذوات وهـ المطر عبّاب
وأنادي يا مطر بسّك تذكّرني ، تعنيني
بقايا ضحكتك،عطرك، وحتى صوتك المرتاب
يجي من ذاكرة هذا المطر لأبعد شراييني

يداهمنا البلل من أول كلمة في النص " ذكرتك " فالذكرى بلل ، جاء إثر بلل حقيقي هو المطر " وهـ المطر عبّاب " ، هذا الذي يمتلك قدرة عجيبة على تحريك القار والكامن في أعماق النفس البشرية بساديّة لا يملك الشاعر أمامها سوى الصراخ بحرقة " يا مطر بسّك تذكرني ، تعنيني " لينهمر إثر هذا المطر الحقيقي / الخارجي مطر آخر معنوي / داخلي ، يشكل بطانة النص الداخلية ، وصوغه الحزين .
هذا الاسترجاع الموجع، والنزف المؤلم ، الذي لا يجد الشاعر مناصا منه ولا مهربا، هو من يحدو به لأن يمط " ليت " التمني ، لعله يصبح فلاة ، لا ماء فيها ولا شجر، لا يحرك فيه مرور قافلة الذكرى ساكنا، ولا يبكيه حديث الأحباب :

وأنا يا ليت لو صدري فلاة وهـ الجروح أغراب
يمروني عطش ليلة ، حديث ٍ ما يبكيني

ولكن هيهات ، هيهات :

يقولون : الذي مرّك خطيئة هو بعد ما تاب ؟
وأنا أقول : العمر عكرة سنينه لو يخليني

استغفار للعميري(3) :

يبدو أن عبد العزيز كتب استغفاره هذا على خلفية صوت فيروز ، الملائكي ، الساحر ، ولهذا جاء استغفاره غنائية ، شجية ، تنساب من حنجرة ناي شفيف (غنت للصباح – جيتي انتي في الأغاني – من حذفك بسكتي حلم ويماااام – أدندن آخر ألحاني ) :
ما عرفتي
كل ما فيروز غنت للصباح
وأنا ماشي للجراح
جيتي انتي في الأغاني
تشعلين الحزن ثاني
وترحلي مثل السنين
وترحل أفراحي معاك
اللعبة الموسيقية ، الايقاع المتدفق الشجي ، الذي تتضافر معطيات عديدة في وفرته : القافية الداخلية ( الصباح / الجراح – الأغاني / ثاني – الريح / تطيح – ينام / الزحام / يمام ) ، التكرار ( تحت ظل الحزن يقراك بكفوفه للنجوم وما رجعتي / وظل يقراك بعيون الحالمين .. وما رجعتي – لا جديد / لا جديد – وأتذكرك / اتذكرك / اتذكرك .. )
كنت ألوّح .. مثل طفل راحت أمه للغياب
وظل متسمر على الباب ونسى .. تلويحته للريح
جف عمره وصارت سنينه تطيح
ظل شارد
تحت ظل الحزن يقراك بكفوفه للنجوم
وما رجعتي
وظل يقراك بعيون الحالمين .. وما رجعتي
لين وصله الضياع إلى الذنوب
من بين هذا اليتم والغياب الذي يقود في نهاية المطاف للضياع ..
وعلى خلفية الأم التي لم تعد ، يطل السياب ، في مطريته الخالدة ، وأنشودته الحزينة ، وحيدا ضائعا ..
وكما يتساءل بدر شاكر : " أي حزن يبعث المطر ؟ " فإن المطر في استغفار عبد العزيز يغسل الشوارع إلا من الحزن فإنه يؤججه :
كنت أشوفك
والمطر يغسل شوارعنا الحزينة
كانت الدنيا حزن
وأتذكرك
أتذكرك ..
إنه التناص بشكله الإيجابي ، والفاعل .
ثمة انسياب وتداع جعل من النص أشبه ما يكون بنسيج واحد ، يشجينا صوت تدفقه العذب :
لا تروحي
ليل مطرح يسأل الليلة عليك
والألم يعزف
على نغمة مفاعيلن إليك ..
كان أدعى للتدفق وعدم الاصطناع ، لو تخلى الشاعر عن السطر الرابع من هذه القطعة ، وكذلك السطر الثاني والثالث بعد القطعة العمودية .
لا أدري هل يبحث الشاعر هنا عن مخرج ما لخروجه من التفعيلة التي جاءت على ( فاعلاتن ) ودخوله في العمودي الذي جاء على ( مفاعيلن تتكرر أربع مرات في كل شطر ) ؟!! أم ماذا ؟
ان على الشاعر برهافته واستشعاره " ان يتوقع امتعاض القارئ الذي غالبا ما يشعر بالمهانة من جراء هذا التدخل .. في توجيه نظره الى زاوية محددة " ( 4 ) أو نقطة ما ، كان من الأولى تركها للقارئ يؤثثها بوعيه وألوان معرفته وخبرته القرائية ، دون اية وصاية ما .
كان من الأجدى أن يترك الشاعر للنص تدفقه الحميم كفلج ، راسما كيفما شاء خارطته على الورق ، وقانونه الخاص .
ومثلما ترك للدفق – كما هي عادته ، عبد العزيز ، في كثير من نصوصه – الخروج من التفعيلة إلى العمودي ، والعودة إلى التفعيلة ، حسب مقتضيات انزياحاته النفسية ، والتلوين الأدائي والشعري ، فهو ليس بحاجة إلى أن يقدم إلى جانب اعتذاره ( استغفاره ) العاطفي اعتذاره ( تبريره ) الفني لمريم صراحة ( الألم يعزف / على نغمة مفاعيلن إليك – رد ثاني لفاعلاتن ) وللقارئ ضمنا ، ليفسح لها – وله – قراءة النص ، بكل ما فيه من مسارات وتفرعات وأسرار وخبايا ومعطيات جوانية وبرانية .
يبدو أنه قلق الشكل ، وقلق المساءلة ، بل هو صراع عبد العزيز مع قارئه الافتراضي ، الذي دائما ما يسبب له مأزقا مع ورقته البيضاء .
ربما أصعب ما يواجهه المبدع اختيار عنوان عمله الفني ، كون العنوان أول عتبة يطأها القارئ ، بل جزء لا يتجزأ من العمل ، وهو من يمنحنا الضوء الأول والومضة الأولى ، وهو من يحدث لدينا الانطباع الأول . من هنا كانت هذه القراءة وهذا التتبع الذي حاول ألا يغفل هذه العتبة التي باتت مهمة في لعبة الولوج الى دهاليز النص وأروقته .
الهوامش :

(1) النص الفائز بالمركز الأول في مسابقة المنتدى الأدبي
(2) النص الفائز بالمركز الثاني في مسابقة المنتدى الأدبي
(3) النص الفائز بالمركز الثالث في مسابقة المنتدى الأدبي
(4) منى السليمية، الطبيعة في الرواية العمانية ، 2013 م ، الطبعة الأولى،بيت الغشام ، مسقط

حمود الحجري
[email protected]