يقول ابن خلدون في مقدمته الشهيرة: " الانسان مدنيّ بطبعه اجتماعي بفطرته" لذا لا بدّ أن يلتقي بني جلدته وأن يتعامل معهم في البيع والشراء ويتعاطى معهم في السفر والترحال ويرافقهم في العمل والعلم وسائر العبادات وغيرها من ضروريات الحياة. لكن هل هذا القول صواب في ظلّ ما نشاهد اليوم من ممارسات ونزاعات وإشكاليات وصراعات بين الأفراد في المجتمع؟. بيد أننا نقول كذلك بأنه من الطبيعي أن يحدث سوء تفاهم في أمر ما أو وجهات نظر مختلفة لقضية، عندئذ نفسح المجال لعدم التفاهم فيما بيننا ونتفق على الفهم الخاطيء لحوارنا فنظهر سلوكاً مشيناً في ردّة أفعالنا، ممّا يؤدي أن نخضع لعبوديّة الانفعال والتشنج عند حدوث موقفا سلبيا ما، فنترك له المجال أن يهزأ بمشاعرنا ويزلزل كياننا فنخرج عن لياقتنا في التعامل وأدبنا في السلوك، فنبدو وحوشا شرسة تنقضّ على فريستها بكيل الاتهامات وطرح وابل من السب والشتم القذر الذي لا يليق ومقام الإنسان في هذه البسيطة.
نتمسك اليوم كثيراً بمفهوم الزعل فنظهر ردّات فعل غريبة حين نغيّب العقل والتفكير في ما يظهر فيه من نتائج تنتهي بالخصام والشقاق والقطيعة التي تصل بصاحبها إلى حدّ الهلاك، فهل جبل الانسان وفطر على الشقاق والضيق والتعصب؟ أم أنه يسلك بذاته ويهبط بها إلى مرامي الدناءة؟ فيبدو إنسانا في شكله وهيئته وفي دواخله بعيدا عن الانسانية ولا يمت اليها بأدنى صلة رحم فما يظهره في أثناء النقاشات وسوء الفهم من عوارض سلوكية منحطة نقول ونؤكد بأن ضررها الأول يعود عليه متراكما طوال الدهر فيأكل شرها ويجني شوكها عندما يبلغ من العمر عتيّا إن حالفه الحظ ولم يصب بأذاها في فترة شبابه وهو سبب تفشي أمراض العصر فاختلط حابل الأكل والغذاء بحابل السلوكيات فنتج عنه أمراضا ترافق صاحبها بقية حياته.
عندئذ يحق لنا القول: " لقد جنت براقش على نفسها" ففي كل ردة فعل سيئة تدمير لخلايا العقل الباطن، وفقدان لريح الجسم، وطلب عاجل للعلل والأسقام التي تنتهي بعاقبة وخيمة تترك صاحبها في مهب ريح قاسية على أثرها يفقد كل شيء جميل في الوجود كل ذلك لأننا لا نملك ثقافة ردود أفعال ايجابية تجاه أخطاء الآخرين فلا نحتمل أخطائهم، ونعمد على تدمير صحتنا حين تبدو انفعالاتنا واضحة شاهرة سيف العنف والسلوك العدائي لمن أخطأ في حقنا ولو كان تافها..!! والعجيب في الأمر أننا نصنع الأخطاء ونبحث عنها بل نتقصاها ونتصيدها ونفتعل ردات فعل شائنة بقراراتنا إزاءها، فتعكر صفو راحتنا لتؤثر على سعادتنا وأدوارنا في الحياة العلمية والعملية.
إنّ المشكلُ الحقيقيّ يكمن في التفكير القاصر لكثير منا حينما يجمع المواقف السلبية ويخزنها في ذاكرته ويعتقد بأنها ستصبح سلاحاً فتاكاً في مواجهة قادمة بينه وبين خصمه فيفكر كيف يواجه خصمه ؟ وكيف يستطيع أن ينقض عليه بكلمات جارحة بذيئة؟ وللأسف الشديد ردات فعل الآخرين حيال هذه المواقف والتصرفات لا تنمّ عن عقل ناضج ولا فكر واسع فكما يقال بأنهم " يزيدون الطين بلة" فيأججون مشاعرهم ويواجهون الموقف بذات القذارة والدناءة دون تفكير في النتيجة ولا اكتراث بما سيؤول عليه الوضع من بناء لهرم الزعل وتوطيدا للشحناء والتباغض..!!
ونلحظ اليوم بيننا من يجيد فنون الزعل ويمتلك ثقافته فيعرض أيّما إعراض عن صاحبه أو أخيه أو زوجه فيصبح ممن وصفوا في الحديث الشريف بأنه: " إذا خاصم فجر" فيبقى مستمتعا بالخصام دون تأنيب لمشاعر، أو استيقاظ لضمير، متناسيا توجيه الرسول الكريم في معنى الحديث أنّ مدة الهجر لا تتجاوز ثلاثة أيام ومن يبدأ بالسلام يصبح الخيّر والكيّس عن صاحبه، وبيننا اليوم من يتفنن في تمديد الهجر ليصل الى سنوات عديدة فكيف يقضي سائر عباداته وهو يحمل في قلبه الحقد على صاحبه؟ أليس الهجر من الفحشاء والمنكر؟ وفي ذلك يقول الرسول الكريم من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له. ويؤكد الله تعالى في كتابه العزيز قائلا: "إنّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر". إنّ مدد الهجر الطويلة بين الأفراد في المجتمع تبثّ سموما تنتشر في سائر الجسد؛ فيستمد منها الطغيان والعصيان والفشل في الحياة، فتفقد على أثرها ابتسامة يحتاجها
الأبناء والأصحاب يستعينون بها في طلب العلم ونجاح العمل وبقاء الأمل فلا تحرمهم من السعادة بسبب تعاسة الزعل وثقافته البائسة.
على كل حال نوجه بإعادة تكوين جديد لعقولنا وممارسات لبقة في التعامل مع ثقافة الحوار وتهيئة أخرى لسلوكياتنا وتصرفاتنا الحياتية وردّت فعلنا الغاضبة إزاء تصرفات الآخرين لنعمل معاً على تقزيم فكرة الزعل وردمها، ومواجهتها بأساليب أكثر لياقة وعلميّة من سطحية التفكير والردود الدونيّة المفضية الى التعاسة، فلنبادر اليوم القضاء على هذه الأفكار الهدامة من ثقافة الزعل المخيبة للآمال، ولنحيي ابتسامة في البيت وفي الشارع وفي المساجد وفي مواقع العلم هذه الابتسامة تعمل على التطوير والعلم، وهدم هوّة الجهالة في نفوسنا فلا نتشبه بمالك الحزين الذي يشدو لحنا مطربا شجيّا تعجب له النفوس وترتاح له القلوب وهو ينزف دماء مثخنة بالجراح فلا شيء في هذه الدنيا الفانية يستحق أن تنزف له دماءك. أما آن الأوان أن نعي بأن ثقافة الخصام غزو للأفكار التطويرية وهدم للعلاقات الانسانية وفي ذلك فليتفكر أولو الألباب.

خلفان بن محمد المبسلي
[email protected]