وهبة الزحيلي :

يختلف الفقهاء كثيراً في فهم النص الشرعي لاختلافهم في القواعد الأصولية أو لاختلافهم في القواعد الفقهية

وحول ما قدم من بحوث واوراق عمل كانت لنا هذه القراءة في بحث بعنوان
مفهوم الخلاف النوعي من منظور شرعي) للأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي عميد كلية الشريعة ورئيس قسم الفقه الإسلامي بجامعة دمشق سابقاً عضو المجامع الفقهية فقد تناولنا سابقاً موضوع بيان الاختلاف والخلاف عند الفقهاء وظاهرة الخلاف بين الفقهاء عبر الماضي واليوم نواصل الموضوع..

مناهج أئمة المذاهب الثمانية في الاجتهاد

وفي هذا الباب يشير الشيخ الدكتور وهبة الزحيلي قائلاً : يحسن إيراد منهج كل إمام من أئمة المذاهب في الاجتهاد بإيجاز، ليعرف مدى إعمال النص أو الأخذ بالرأي بحسب المصادر التي اعتمدوا عليها، ولأن معرفة ذلك تبين منشأ الاختلاف وأسبابه وطريق التعامل معه.
منهج الإمام عبد الله بن إباض (86 هـ)
وإليه عادة تنسب الإباضية، وهو مذهب فقهي سني، كالمذاهب الأربعة، فهم الخوامس. والمؤسس الحقيقي للمذهب جابر بن زيد (93 هـ).
وأركان الشريعة في هذا المذهب خمسة : الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، والاستدلال : وهو اسم لنوع خاص من الأدلة، وهو ما ليس بنص، ولا إجماع، ولا قياس. ويشمل أربعة أصول هي: استصحاب حال الأصل، والاستقراء، والاستحسان، والمصالح المرسلة، ولهم عناية خاصة بالمصالح المرسلة بعد المالكية.
ثم شرع من قبلنا، والعرف، ومفهوم المخالفة.
فتكون مصادرهم أحد عشر مصدراً، والحق عندهم التوقف في حكم الأشياء قبل الشرع، فتصير المصادر عشرة فقط.
ـ منهج الإمام زيد بن علي (122 هـ)
وإليه تنسب الزيدية في اليمن.
وأصول هذا المذهب كغيرهم من أهل السنة، وهي ستة : الكتاب، والسنة، والقياس، ويدخل في القياس: الاستحسان ، والمصالح المرسلة، ثم يجيء بعد ذلك العقل، فما يقرر العقل حسنه يكون مطلوباً، وما يقرر العقل قبحه يكون منهياً عنه، وذلك إذا لم يوجد أي سبيل من سبل الاستدلال غيره.
ـ منهج الإمام جعفر الصادق - جعفر بن محمد (148 هـ)
وإليه تُنسب الشيعة الجعفرية أو الإمامية.
وأصوله أربعة : الكتاب، والسنة، والعقل، والإجماع.
ولم يأخذ الإمام جعفر بمنهاج القياس، بل كان يأخذ بالمصلحة أو العقل حيث لا نص، وبهذا كان الإمامية كغيرهم في الأخذ بالكتاب والسنة والعقل والإجماع، لكنهم لا يأخذون بالقياس، فقال أئمتهم: إن الشريعة إذا قيست مُحِقَ الدين. ولا يقبلون من الأحاديث النبوية إلا ما صح منها من طريق أهل البيت عن جدهم، أي ما يرويه الصادق عن أبيه الباقر، عن أبيه زين العابدين، عن الحسين السِّبط، عن أمير المؤمنين علي عن رسول الله
(ويرون أن باب الاجتهاد لا يزال مفتوحاً، بخلاف جمهور المسلمين).
منهج الإمام أبي حنيفة (150 هـ) في الاستدلال
اعتمد الإمام أبو حنيفة على مصادر سبعة في استنباط الأحكام بهذا الترتيب وهي :
ـ الكتاب (القرآن) وهو مجموع النظم والمعنى، وهو ينبوع الشريعة.
ـ السنة النبوية : وهي الأحاديث المتواترة، والمشهورة، والآحاد (وهي مقدمة على القياس مطلقاً، وإرسال الحديث يقبل من الصحابي والتابعي وتابع التابعي).
ـ فتوى الصحابي على التخيير من آرائهم ، فما لا مجال فيه للرأي، بل لا يثبت إلا بالنقل، فإنه كان يقلدهم ولا يخالفهم، وما للرأي فيه مجال فكان يخالفهم.
ـ الإجماع : وهو اتفاق المجتهدين من الأمة الإسلامية في عصر على الحكم في أمر من الأمور، فهو أصل من أصول فقه أبي حنيفة.
ـ القياس : وهو بيان حكم أمر غير منصوص على حكمه بأمر معلوم حكمه بالكتاب أو السنة أو الإجماع، لاشتراكه معه في علة الحكم.
ـ الاستحسان : وهو تسعة أعشار العلم : وهو أن يعدل المجتهد عن أن يحكم في المسألة بمثل ما حكم به في نظائرها، لوجه أقوى يقتضي العدول عن الأول. فمرة يأخذ أبو حنيفة بالقياس، وأحياناً بالاستحسان.
ـ العرف : وهو دليل حيث لا يوجد دليل شرعي، وهو ما تعامل به المسلمون.
منهج الإمام مالك بن أنس (179 هـ)
مصادر اجتهاد الإمام مالك أحد عشر مصدراً بالترتيب الآتي وهي : الكتاب، والسنة، وفتوى الصحابي، الإجماع، عمل أهل المدينة، القياس، الاستحسان، الاستصحاب، المصالح المرسلة، الذرائع سداً وفتحاً، العادات والعرف، لكن فتوى التابعين عنده ولدى أكثر العلماء ليست حجة في الشرع باعتبار قوله سنة منقولة. وهذه المصادر جعلت الشيخ مصطفى الزرقا يجعل الإمام مالك من مدرسة الرأي، خلافاً للشائع من أنه من مدرسة الحديث ورئيس تلك المدرسة.
منهج الإمام الشافعي (241 هـ )
أصول الإمام الشافعي خمسة هي الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، وقول الصحابي. وأبطل الاستحسان والمصالح المرسلة. وهو يفسر الشريعة تفسيراً مادياً على الظاهر، لا على الباطن.
منهج الإمام أحمد بن حنبل (241 هـ)
أصول الإمام أحمد ثمانية وهي الكتاب ، والسنة، والإجماع، وفتاوى الصحابة، والقياس، والاستصحاب، والمصالح المرسلة، والذرائع.
ويلاحظ أن أكثر الفقهاء أخذاً بالذرائع مالك وأحمد، وأقل الفقهاء أخذاً بها أبو حنيفة والشافعي. وقد أجمعوا على منع ما يؤذي جمهور المسلمين، وعلى أن ما يكون سبيلاً إلى الخير والشر، ويكون في فعله فوائد للناس، لا يكون ممنوعاً كغرس العنب، فإنه يؤدي إلى عصره وتخميره.
منهج الإمام داود الظاهري (270 هـ)
وأتباعه الظاهرية.
وأصولهم ثلاثة: الكتاب، والسنة، وإجماع الصحابة، ولا يعملون بالمرسل والمنقطع، خلافاً للمالكية والحنفية والحنابلة، ولا بشرع من قبلنا، ولا بالذرائع، ولا بمذهب الصحابي، ولابن حزم الذي شهر المذهب الظاهري في الأندلس بكتاب المحلى، له كتاب بعنوان: ملخص إبطال القياس والرأي والاستحسان والتقليد، والتعليل (تعليل النصوص) بتحقيق الأستاذ سعيد الأفغاني.
أسباب الاختلاف الفقهي وقواعده وأمثلته
وحول اسباب الاختلاف الفقهي وقواعده يقول الشيخ وهبة الزحيلي :
يمكن حصر أسباب الاختلاف الفقهي بثلاثة أنواع :
ـ طبيعة النص الشرعي في العربية.
ـ أسلوب فهم النصوص.
ـ مصادر الخلاف فيما لا نص فيه
طبيعة النص الشرعي في اللغة العربية :
مرجع الاختلاف في أحوال النص من قرآن أو سنة ثلاثة أمور :
ـ النقل والرواية.
ـ النسخ.
ـ الإباحة والتوسع.
أما النقل والرواية : فيشمل اختلاف القراءات القرآنية، ورواية الحديث النبوي وطريق نقله.
فما يتعلق باختلاف الأحكام الفقهية بسبب اختلاف القراءات المتواترة محصور في 37 موضعاً، أغلبها في العبادات، وأحكام الأسرة، وبعضها في المعاملات، وبعضها في الحدود والجهاد، وبعضها في الأقضية.
من أمثلتها في العبادات قراءة (وأرجلكم) في آية الوضوء (المائدة : 5/6)بفتح اللام أو بكسرها. يدل الأول على وجوب غسل الرجلين في الوضوء، وهو مذهب أهل السنة، المؤيد بالأحاديث المتواترة بإيجاب الغسل. وقراءة الكسر تدلّ على وجوب مسح الرجلين، وهو مذهب الشيعة الإمامية، والمروي عن ابن عباس وأنس بن مالك.
ومن أمثلتها في المعاملات آية :( وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَ فِي أَمْوالِ النّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ (الروم: 30/39)، فعل ( آتَيْتُمْ) بالمد في قراءة الجمهور يدل على أن الربا أخذاً وعطاء حرام، وعلى قراءة ابن كثير ومجاهد وحُميد بغير مدّ ((أتيتم)) يدل على أن فعل الربا حرام.
فعلى القراءة الأولى : يكون الربا الحرام هو المذكور في آية سورة البقرة : وَحَرَّمَ الرِّبا (البقرة: 2/275). وعلى القراءة الثانية يكون الربا قسمين: حلال، وحرام، قال عكرمة : الربا ربوان: ربا حلال، وربا حرام.
فأما الربا الحلال: فهو الذي يُهدي لغيره، ليثاب ما هو أفضل منه، ليس فيه أجر، وليس فيه إثم، وهو الذي لا يربو عند الله، ولا يؤجر صاحبه، ولكن لا إثم عليه، وهو هبة الثواب (الهبة بعوض).
وعلى قراءة ((أتيتم)) يحرم أي ربا أو زيادة، لأن فعل الربا حرام، وبه أخذ الإمام مالك سداً للذرائع، وللنهي عن هدية المِدْيان.
وما يتعلق برواية الحديث وطريق نقله : مثل حكم المتعة: والمتعة: الزواج المؤقت بغير ولي ولا شهود، أباحها الشيعة الإمامية لأن النبي ( رخّص فيها في بعض الغزوات الحربية: عام أوطاس ثلاثة أيام، وفي عمرة القضاء، وفي خيبر، وفي فتح مكة خمسة عشر يوماً، وفي موقعة تبوك، قال الترمذي : إنما كانت المتعة في أول الإسلام.
وحرَّمها جمهور أهل السنة على التأبيد، لما رواه أحمد والشيخان عن علي رضي الله عنه : (أن رسول الله ) نهى عن نكاح المتعة، وعن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر.)
ورواية لمسلم في النهي عنها في فتح مكة، ورواية أحمد وأبي داود : أن النبي ( نهى عن نكاح المتعة في حجة الوداع.
ورواية أحمد ومسلم في النهي عنها مؤخراً في عام أوطاس. أي إن المتعة نسخ حكمها عند جميع الأئمة، وأجمعوا على تحريمها إلى يوم القيامة.
ومثل : الزيادة على القرآن بخبر الواحد. الحنفية لا يعملون به، لأن ذلك مانع من صحته، فهو خبر ظني لواحد، والكتاب قطعي، ولا تقبل الزيادة على الكتاب إلا بحديث متواتر أو مشهور.
وذهب الجمهور إلى أن الزيادة على الكتاب بخبر الواحد بيان له.
ومثل : عدم معرفة الراوي بدلالة الحديث:
ذكر ابن تيمية عشرة أسباب لترك الحديث وهي ما يأتي:
ـ من لم يبلغه الحديث.
ـ من لم يثبت عنده الحديث.
ـ اعتقاد ضعف الحديث.
ـ التزام شروط خاصة في الأخذ بالحديث.
ـ نسيان الحديث.
ـ عدم المعرفة بدلالة الحديث.
ـ اعتقاد عدم دلالة الحديث.
ـ اعتقاد وجود المعارض للحديث.
ـ اعتقاد معارضة الحديث لغيره.
ـ معارضته بما يدل على ضعفه أو نسخه أو تأويله.
أسلوب فهم النص :
يختلف الفقهاء كثيراً في فهم النص الشرعي، لاختلافهم في القواعد الأصولية، أو لاختلافهم في القواعد الفقهية.

حسبنا هذا اليوم وللقراءة بقية ..