[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/aliaklahersan.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]علي عقلة عرسان[/author]

القدس: "تنزيه الله تعالى"، والبيت المطهَّر، ومَطْهَر من الذنوب، وبَرَكَة؛ هكذا نجد معانيها في لسان العرب المحيط. وهي مدينة "يبوس" التي خططها وأنشأها وأقام فيها اليبوسيّون منذ عام ٣٢٠٠ ق.م تقريبا، وهم بطنٌ أو فخذ من العرب الكنعانيين.. وأسسوا وبنوا فيها حصنهم المعروف باسم "صهيون، أي الأرض المرتفعة أو التل في اللغة الكنعانية"، وسكنوها وانتسبوا إليها ونسبوها إليهم ولم يغادروها أبدا.. وهي "أور سالم، أو أورشليم بلفظ من يقلب السين شينا"، هكذا سَمَّاها العرب الكنعانيون في وقت لاحق.
لقد بقي العرب في القدس كما بقوا في فلسطين. وعاشت قبائلُهم في المدينة المقدسة التي تكلمت "شَفَةَ" كنعان وحمَلتها على مَرِّ التاريخ ومنها قبائل: "لخم وجذام وعاملة وكندة وقيس وكنانة، وكذلك بطون من قضاعة والقَيْن وبنو كلب وجرم وبنو عذرة... إلخ".
إنها مدينة من مدن العرب العموريِّين ـ أي الغربيين، والكنعانيون من العرب الغربيين أشقاء العرب الشرقيين في أرض الرافدين، وقد أقاموا حضارتهم في بلاد الشام من أرض العرب في الألف الرابعة قبل الميلاد، بعد أن خطا أجدادهم القدماء خطوات على طرُقِها ابتداء من بداية الاستقرار الحضاري النَّطوفيَّ ـ نسبة إلى سهل نطوف قرب أريحا ـ في الألف العاشرة قبل الميلاد وحتى عصر الكتابة والتاريخ.
وارتبط اسم القدس بالكنعانيين وباليبوسيين العرب من بين الكنعانيين، أولئك الذين غَلَبهم على محيطها يشوعُ بن نون في القرن الثالث عشر قبل الميلاد ولكنه لم يستطع أن يدخل المدينة، ولا أن يجتث أهلها من المنطقة، ولا أن يحوّلهم عن ديانتهم وعباداتهم الوثنية، ولا أن يغلُب على حضارتهم بهمجيته الرعوية؛ على الرغم من المذابح الفظيعة التي ارتكبها وأشهرها المذبحة في أريحا من فلسطين، تلك التي يحفل بها سفره، "سفر يشوع في التوراة"، إذا صح ما رُوِي فيه من تاريخ كتب له وعنه.
ولم يستطع أن يجتثَّهم منها خلفُه اللاحق داود الذي دخل قلعة اليبوسيين بعد أكثر من مئتين وخمسين سنة من عهد يشوع، دخلها في بدايات الألف الأولى قبل الميلاد، وبقي اليبوسيون في مدينة الآباء والأجداد العرب ولم يمكِّنوه من دخولها كلِّها.. واستمروا واستمر أحفادُهم إلى يوم الناس هذا مع العرب الآخرين الذين وفدوا إليها وسكنوها ودافعوا عنها ومزجوا كل ذرة تراب من ترابها بعرَقهم ودمهم وأعطوها هويتهم وحملوها هوية، وأعطوا من دخلها ثقافتهم وانتماءهم وديانتهم.. ومن بين أولئك يهود أخذوا عنهم تلك العبادة الكنعانية الوثنية بصورٍ مختلفة ولمددٍ مديدة يوم دخلوا فلسطين.
بقي الكنعانيون العرب الذين أعطوا العالم الأبجدية 1400 إلى 1200ق.م ـ إذ إن الأوغاريتيين الفينيقيين هم جزء من الكنعانيين ـ هم أهل الحضارة وأهل الديار وأهل السيادة في معظم مدن بلاد الشام في زمن دويلات المدن ذاك. واستمر صراعُهم مع اليهود بعد دخولهم أرض الشام، ولم يستطع الغزاةُ أن يبسطوا سيطرتهم على المنطقة ولا أن يقدموا لها معطى ثقافيا خاصا أو حضاريا عاما ـ ففاقد الشيء لا يعطيه ـ كما أنهم لم يستطيعوا أن يشكلوا فيها حضورا بارزا حتى على الصعيد العسكري إلا في زمن داود وسليمان (1000 - 923 ق.م) اللذين تهيأ لهما ذلك الحضور العسكري بعد أن سيطر داود على قلعة أو حصن "صهيون" اليبوسي، وتهيأت لهما بعد ذلك الزمن قوة من خلال اعتمادهما على جيوش وحاميات خاصة كثرتها الفاعلة من عرب أوصلوا سليمان إلى ما كان له من ملك، واعتمد عليهم في حمايته وبسط سلطته وتوسيع دائرة نفوذه؛ وكانوا بالنسبة لـه "كما الحرس البريتوري بالنسبة لأباطرة روما"، و"قد ساهموا بالنصيب الأكبر في حفظ عرشه".
ويمثِّل عصرُ داود وسليمان "العصر السياسي لمملكتي "إسرائيل ويهوذا موحَّدتين في مملكة" لم تدم أكثر من خمسة وسبعين عاما، ولم يكن ليتسنى لهما ذلك لولا صراعات العرب الكنعانيين الداخلية حيث دخل عرب من العرب في "خدمتهما"، وخاضوا معارك تحت رايتهما ضد عرب آخرين!؟ وما أشبه الأمس باليوم وبما نرى أنه قائم وقادم من زمن على القدس وأمة العرب!؟
وسليمان هو الذي يُنسب إليه بناء الهيكل الأول في القدس، بناه ـ إن صح أنه بناه أصلا ـ على أنقاض قلعة اليبوسيين: "حصن صهيون ـ أي الأرض المرتفعة باللغة الكنعانية" كما أسلفت، معتمدا على مساعدات حيرام ملك صور الفينيقي ـ الكنعاني وعلى الفنيين والبنائين السوريين الذين أرسلهم هذا الأخير إليه، إذ لم يعرف اليهودُ البدو الهمج فنا ولا حضارة، وخير ما أنتجوه في عصور "إبداعهم الفني القديم؟!" عجلا نحاسيا له خوار مزعج يثير السخرية والفزع ولا يحرِّك حسا جماليا ولا يوطِّن في النفس قيمة أو رهبة أو قداسة هو عجل السامري الذي حطمه موسى.
وجد يهود في يبوس ـ القدس، مدينة العرب التي سيطر يهود داود وسليمان، ولكنها لم تصبح مدينة يهودية أبدا؛ ولم تكن كذلك في يوم من أيام التاريخ على الإطلاق. كان لليهود، بعد زوال ملك سليمان نوعٌ من الحضور الكهنوتي الخاص بين الديانات الوثنية التي للكنعانيين العرب المقيمين فيها والمحيطين بها والمتواصلين معها والفاعلين في تيار حياتها وعمرانها، وكان لليهود ما يشبه الحكم الذاتي في الشؤون الدنيوية فقط، ولم يكن لهم سيادة فيها.. ولم يكُونوا ـ حتى في أوقات "عزِّهم" ـ من دون شريك في السيادة على المدينة؛ وكان نفوذهم يتقلَّص ويزداد لكنه لا ينهي سيادة الآخرين وحضورَهم وفاعلية ذلك الحضور.
وفي عام (721 ق.م) حطَّم الآشوريون "مملكة إسرائيل" ومركز ثقلها القدس، وعُدَّت المدينة ـ الدولة أو الدولة ـ المدينة، منتهية الوجود من حيث الاعتبارات السياسية والواقعية. وقد غير الآشوريون التكوين السكاني للمدينة، حيث أخذوا كثرةً من اليهود منها ومما حولها ونقلوهم إلى أجزاء من مملكتهم، وأحضروا من تلك الأجزاء، من أرض العراق حاليا، سكانا إلى القدس عاشوا فيها مع العرب حيث بقوا فيها وذابوا في تكوينها الاجتماعي والثقافي.
وأعاد الكلدانيون، بقيادة "نبوخذ نصّر" وزعامته الكرَّة على القدس وبقايا اليهود فيها عامي 597 ق.م و587 ق.م فدمروا المدينة تدميرا شبه نهائي، بما في ذلك هيكل سليمان ـ هذا إن وجد على رأي بعض الباحثين ـ وسبى "نبوخذ نصّر" معظم سكان القدس اليهود. وبعد هذا السبي تفرق اليهود في الأمصار، واستمر الوجود العربي في القدس، مدينة العرب العريقة، من دون انقطاع لوجودهم فيها حيث تكاثر فيها الأدوميون وسواهم من العرب الذين بقيت القدس بالنسبة لهم مركزا تجاريا ومدينة الآباء والأجداد ومرجعا روحيا. وتحمّل أولئك ظروف العيش الصعب أحيانا بسبب من الطبيعة أو تقلبات الأحوال والدول والسياسات والحروب التي كانت تنشب في مسار الصراع بين كبار ذلك العصر، لا سيما الفراعنة والفُرس.
وحين قرر ملك الفرس "كورش الثاني" إعادة يهود من سبي بابل، وسمح ببناء الهيكل من جديد في القدس، كان ذلك على حساب السكان العرب الأصليين في كثير من الحالات، أولئك الذين تعرضوا لغزو يهود ومذابحهم أيام يشوع وشاؤول، ثم تعرضوا للمآسي التي جرَّها عليهم حكام يهود بسبب توتير اليهود للعلاقات والمعاملات مع الدول الكبرى آنذاك، مما جرّ على القدس وعلى سكانها العرب الآلام والويلات.
ودافع السكان العرب في القرن السادس قبل الميلاد عن مدينتهم ضد حركة الاستيطان الجديدة التي رعاها الفُرس (كورش ثم داريوس) ولكنهم لم يتمكنوا من منع ما أرادته الامبراطورية الفارسية المنتصرة في العراق والغازية لأرض الشام ومصر، تلك التي كانت تشبه على نحو ما امبراطورية الأميركيين من آل بوش ـ وترامب المنتصرة ـ المستبدة بعد حرب الخليج الثانية وتدمير العراق وأفغانستان، والمتقدمة بوقاحة إلى الشام في العقد الأخير من القرن العشرين والعقد الأول من هذا القرن!!
توطَّن يهود في القدس من جديد ولم يشكلوا أكثرية سكانية فيها، ولم تكن لهم سيادة عليها إلا من خلال ذيليَّتهم وتبعيَّتهم للفرس واستقوائهم بهم على الآخرين. ولم يبنوا الهيكل الثاني، بعد هيكل سليمان إلا في عام 515 ق.م ـ هذا إذا صحت الواقعة أصلا ـ وكانوا يتلقون مساعدات كثيرة ليستوطنوا ويصمدوا وليحققوا ما يريدون؛ وكان أكبر سندٍ لهم يهودُ بابل ـ ومنهم من كان في القصر الامبراطوري الفارسي على ما يشبه اللوبي الصهيوني اليوم في البيت الأبيض ومجلسي الكونجرس الأميركيين ـ وكان أولئك يُمِدُّونهم بالمال والرجال على شكل هجرات استيطانية في ذلك الوقت!؟ أفلا يشبه أولئك صهاينة "إيباك" لجنة الشؤون الأميركية ـ "الإسرائيلية" اليوم في الولايات المتحدة الأميركية ـ ذلك "اللوبي" الذي يؤمِّن المال والسلاح والدعاية والحماية السياسية والعسكرية والمهاجرين من اليهود الخَزَر الذين يأتون من أوروبا الشرقية ومما كان يسمى "الاتحاد السوفييتي" سابقا للاستيطان في القدس وفلسطين؟!
حقق اليهود بعض ما يريدون في القدس أيام الفرس فقد أعادوا توطين عدد كبير منهم فيها، ولم يحققوا في الوقت ذاته أكثرية ساحقة واستقلالا سياسيا بل كانوا سلطة ذيليَّة للفرس الساسانيين.. وازداد جشعُهم وفجورُهم وتطاولُهم في مراكز من الامبراطورية، الأمر الذي كاد يرفع الغطاء الفارسي عنهم؛ ولكن عهد الإسكندر المقدوني كان قد أزِف، وقدِم الإسكندر إلى فلسطين في طريقه إلى مصر عام (332 ق.م تقريبا)، ولم يكن صعبا على كهنة يهود وساستهم أن يقفزوا من حضن الفرس إلى حضن اليونان، كما قفزوا في عصرنا هذا من حضن أوروبا إلى حضن الولايات المتحدة الأميركية، فهم يتقنون هذه اللعبة ويستفيدون منها في المراحل والعصور كلها. وكان أن حماهم الإسكندر واستمالهم، وعلى الرغم من ذلك فإنهم لم يحصلوا على سيادة مطلقة في القدس وإنما على نفوذ من خلال الكهنة والعلاقة مع الحكام.. نفوذ قد يفوق ما لسواهم من نفوذ لكنه لا يلغي وجود الآخرين وتأثيرهم وشراكتهم في القرار في تلك المرحلة من عمر القدس.
وبقي العرب يتحرَّقون لمراكزهم وللسيطرة على مدينتهم لكنهم لا يملكون القوة والوحدة والبرنامج ليصلوا إلى ما يريدون الوصول إليه؛ فقد كان "لدوَلِهم=دويلاتهم، دول المدن" المحيطة بالقدس، ولمراكز نفوذهم التجاري وقوتهم فعلٌ غير منسق وتطلعاتٌ وآمال لا تحقق مشروعيتها أو لا تجسد تلك المشروعية بوحدة موقف ورؤية. ربما كان الجهل بالتاريخ وعدم اللجوء إلى التأريخ، "التدوين"، أحد أهم العوامل التي غيَّبت الوعي بالهوية وبالانتماء العربي الواحد في تلك الفترة، وربما كان من أسباب ذلك أيضا: التنازع وتوزُّع الولاء على الامبراطوريات والقوى، وربما كان عدم اللجوء إلى الاهتمام بالمكتوب المؤرَّخ والبناء الفكري والأدبي عليه لتقوم في الذاكرة والوجدان العربيين جذور عميقة وصلات حوادث ومحاكمات، وقوة ضبط وربط، وفعل هادف يستعيد القوة ويعيد الحق بالقوة لأهل الأرض والحضارة.. من أسباب ذلك.
لقد كان العرب يتطلعون إلى القدس ويرون إلى ما يجري فيها من دمشق أو من البتراء أو من مُؤاب أو من عَمُّون أو من غزة حيث كان يتمركز فلسطينيون، لكن العرب آنذاك لم يفلحوا في تقديم مشروع ناضج يمكِّنهم من حسم ما يعاني منه عرب القدس، وما كانوا يعانون هم منه من أفعال اليهود التي كانت تتسم بالعدوان والفظاعة والتآمر والنفاق ومحاولات السيطرة!! وما أشبه اليوم بالأمس حتى ليصح طرح السؤال: هل يعيد التاريخ نفسه، مشروعا!؟! على أنه، رغم ذلك، لم يتحقق لليهود في القدس أكثر من حضور الكهانة في مدينة لم يعد لهم فيها سيادة بالمعنى العلمي للكلمة أو حتى بالمعنى الذي لها في ذلك التاريخ. لقد أفلح الأنباط لمدة من الزمن في رفع الروح المعنوية لعرب القدس خاصة وعرب فلسطين عامة، ولكنهم لم يحققوا حسما للموضوع الذي يبدو أنه لم يكن مُثارا بالحِدَّة التي نعيشها نحن اليوم، وإن كان موجودا في جوهر الصراع ودورته التاريخية بين الأقوام والعقائد والسياسات والمصالح في المنطقة.
في العهد السلوقي الذي ورث العهد الإسكندري وأكمله أو طوَّره، استمر لليهود حضور في القدس وكان لهم فيها كما يقول المؤرخون "نوع من دولة ـ هيكل" لا أكثر؛ وتوارث كهنتُهم ذلك الدور الذي انحصر في أسرة، ولكن لم تسر الأمور لصالحهم حسب الهوى والمصلحة. وينبع ذلك دائما من طبيعتهم العنصرية المتعالية، وتكوينهم العدواني الشرير، وممارساتهم الخارجة على القانون والشرائع والقيم والأخلاق.. فقام أنطيوخوس السلوقي بنهب الهيكل الثاني عام (169 ق.م)، ويقال إن ذلك حدث بتواطؤ مع الكاهن اليهودي الأكبر؛ وقد وصل الكهنة وسائر المتنفذين من اليهود إلى درجة من السوء أخذ معها الفساد يتأكَّلهم.