مُساعد المدعي العام / ناصر بن عبدالله الريامي

معلومٌ بأن الفصل في الدعاوى القضائية، ابتدائيةً كانت أم استئنافية، يُعد أمرًا في غاية الخطورةِ والحيوية، فبموجبِه تتقرر حقوق لبعض الأطراف، وبموجبه أيضًا تحجب الحقوق نفسها عن البعض الآخر.

من هذا المنطلق، أوجد المشرع طرقًا قانونيًا، تجيزُ لكل من يعتقد، من أطراف الدعوى، أن الحكم لم يكن منصفًا في حقِه، أن يطعنَ في الحُكم، ليصار بموجب هذا الطعن إلى إعادة المحاكمة. ويكون الطعن بلجوء الشخص إلى المحكمة الأعلى درجةً، يطلب فيه مراجعة حكم محكمة أدنى درجة.

معلوم أيضًا بأن الطعن يكون أما وفق الطرق العادية (معارضة، واستئناف) أو الطرق غير العادية (النقض أو طلب إعادة النظر).

هناك طريقة أخرى لمراجعة الأحكام، تعرف بالطعن لمصلحة القانون، أو نفعًا للقانون، وفق الأنظمة القضائية المقارنة. هذه الطريقة تعد أيضًا من طرق الطعن غير العادية/ الاستثنائية، أوجدها المشرع لضمان تحقق الاستقرار في الأحكام بين المحاكم. ويمكن أن نشير إلى مضمون هذا الطعن بإيجاز، بأنه هو ذلك الطعن الذي يرفعه المدَّعي العام إلى المحكمة العليا، ويهدف منه تحقيق المصلحة العامة، المتمثلة في حرصه على عدم مخالفة المحاكم للقانون، وضمان وحدة تفسيره.

ومما يميز هذا الطعن، أن المدعي العام غير مقيد في طعنه بالمواعيد المقررة قانونًا للطعن، وإنما له أن يرفعه في أيّ وقت، بعد فوات المواعيد المقررة قانونًا للطعن.

السؤال الذي يفرض نفسه في هذا المقام، يكمن في الآتي:"ألا يتعارض هذا الحق ومبدأ استقرار الأحكام في مواجهة الخصوم؟ للإجابة على هذا التساؤل، سنضع الواقعة الافتراضية التالية:

أولاً ـ من حيث الوقائع:

سنفترض هنا بأن الواقعة تتمثل في التالي بيانه:

1 ـ أحال الادعاء العام المتهم (س. ص) الى المحكمة الابتدائية، المختصة مكانيًا، بتهمة إعطاء شيكات دون مقابل، فأصدرت المحكمة حكمها القاضي حضوريًا بإدانة المتهم بجنحة إعطاء شيكات دون أن يقابلها رصيد كافٍ ومعاقبته عنها بالسَّجن ستة أشهر والغرامة خمسمائة ريال عُماني للحق العام، وعدم الاختصاص بنظر الدعوى المدنية، والإحالة إلى المحكمة المختصة، وقدرت للمحكوم عليه عند طلبه الاستئناف كفالة شخصية ومالية قدرها ألف ريال لوقف العقوبة السجنية مؤقتاً لحين صيرورة الحكم الصادر بها نهائياً ما لم يكن محبوساً لسبب آخر.

2 ـ لم يرتضِ المحكوم عليه بالحكم فاستأنفه أمام محكمة الاستئناف بصحار، التي قضت بقبول الاستئناف شكلاً، ورفضه موضوعاً وتأييد الحكم المستأنف.

3 ـ وبتاريخٍ لاحق، أصدر الادعاء العام قراراً قضائياً بمصادرة مبلغ الضمان (عشرة آلاف ريال عُماني) لتخلف المحكوم عليه عن جلسة النطق بالحكم، استناداً إلى نص المادة (66) من قانون الإجراءات الجزائية.

وللتوضيح: نشير هنا إلى أن بعض المتهمين يتّجهون إلى عدم حضور جلسة النطق بالحكم، ليتسنى لهم الهروب من تنفيذ الحكم، حال صدور حكم بالسجن. فأوجد المشرع في قانون الإجراءات الجزائية المادة (66)، التي تقرأ على النحو الآتي: "إذا تخلف المتهم، بغيرِ عذرٍ مقبول، عن تنفيذ أحد الإلتزامات المفروضة عليه، يصبح الضمان المالي ملكًا للدولة بغير حاجة إلى حكم بذلك، ويرد الضمان المالي بأكمله، إذا حفظت الدعوى، أو لم يصدر حكم بالإدانة".

4 ـ لم يلقَ القرار القضائي الذي أصدره الادعاء العام قبولاً لدى المحكوم عليه، فتظلم منه أمام المحكمة الابتدائية المختصة مكانيًا، والتي أصدرت قرارًا قضائيًا بعدم قبول التظلم، لعدم الاختصاص.

وللتوضيح حول هذه النقطة، نشير إلى أن المشرع لم يوجد في القانون جهة رقابية على قرارات المصادرة التي يصدرها الادعاء العام بالمخالفة لأحكام المادة (66) من القانون.

5 ـ وحيث لم يحز القرار القضائي الصادر من المحكمة الابتدائية قبولاً من المتظلم؛ فطعن عليه بالاستئناف أمام محكمة الاستئناف المختصة مكانيًا، والتي قضت في جلستها العلنية بقبول الاستئناف شكلاً، وفي الموضوع بإلغاء الحكم المستأنف، والقضاء مُجددًا بإلغاء قرار الادعاء العام بمصادرة مبلغ الضمان المالي.

6 ـ كان في متناول الادعاء العام أن يطعن في حكم محكمة الاستئناف أمام المحكمة العليا، للخطأ في تطبيق القانون، إلا أنه لم يفعل.

7 ـ فهل يجوز للمُدّعي العام، والحال كذلك، أن يطعن أمام المحكمة العليا للخطأ في تطبيق القانون، أم أن ذلك سيتعارض مع ما يعرف بـ"مبدأ استقرار الأحكام في مواجهة الخصوم".

ثانياً ـ من حيث القانون:

8 ـ تشير مقتضيات المادة (265) من قانون الإجراءات الى أن للمدعي العام الطعن في الأحكام، بعد فوات المواعيد المقررة، إذا انطوى الحكم على مخالفة القانون أو تطبيقه، وذلك في الحالتين الآتيتين:

أ ـ الأحكام التي لا يجيز القانون للخصوم الطعن فيها.

ب ـ الأحكام التي فوت الخصوم ميعاد الطعن فيها أو نزلوا فيها عن الطعن أو رفعوا طعناً قضى بعدم قبوله.

9 ـ كما أوضح المشرع صراحةً، في المادة (267) أن:"لا يترتب على الحكم الصادر في الطعن لمصلحة القانون أي أثر، إلا إذا صدر لصالح المحكوم عليه أو المسؤول عن الحق المدني".

ثالثاً ـ من حيث التطبيق:

10ـ إن المادة (267) المشار إليها في الفقرة (6) أعلاه، يستفاد منها ما مؤداه أن الطعن لمصلحة القانون ليس له أثر الا إذا صدر الحكم لصالح المحكوم عليه.

11ـ الثابت وفق المعطيات المتقدمة يشير إلى أن محكمة الاستئناف أخطات حينما ألغت قرار الادعاء العام المتعلق بمصادرة مبلغ الضمان المالي، لانتفاء السند القانوني الذي يُبيح لها بسط رقابتها على أعمال الادعاء العام في هذا الخصوص. فمع الأخذ في الاعتبار أن المشرع ترك الأمر لمطلق تقديرات الادعاء العام، كان ينبغي على المحكمة الاستئناف أن تقف عند الحدود التي رسمها القانون، مثلما فعلت المحكمة الابتدائية برفضها الطلب المقدم من المحكوم عليه، لعدم الاختصاص.

12ـ ليس ذلك فحسب، وإنما خالفت محكمة الاستئناف أيضاً ما هو مستقر عليه في قضاء المحكمة العليا، من أن الاستئناف لا يكون في القرارات القضائية، وإنما في الأحكام فقط.

13ـ وعليه، كان ينبغي على الادعاء العام، فور صدور حكم الاستئناف أن يطعن فيه أمام المحكمة العليا للخطأ في تطبيق القانون، أما وكون الادعاء العام قد فوت على نفسه الأجل القانوني للطعن، فإن لجوئه بعد ذلك إلى الطعن لمصلحة القانون، لا يمكن ـ بحالٍ من الأحوال ـ أن تثمر عن سحب ميزة اكتسبها المحكوم عليه، وفق مقتضيات المادة (267) من قانون الإجراءات الجزائية.

14 ـ ترجمة للمقتضى القانوني الوارد في المادة (267)، وقفنا على سابقة قضائية، اتجهت فيها المحكمة العليا في الطعن رقم:(1/2017م)، بتاريخ 14 فبراير2017م، إلى عدم قبول الطعن موضوعًا لمصلحة القانون، مُسببة حكمها بأن الطعن لمصلحة القانون يجب أن يكون لصالح المحكوم عليه.

رابعاً ـ من حيث الرأي:

15 ـ يتفق الادعاء العام، في هذا المقام، مع ما أوردته المحكمة العليا في حيثيات حكمها المشار إليه أعلاه، من حيث أنه، وعلى سبيل الفرض الجدلي بوجود شائبة الخطأ في الحكم؛ لكان مـن الأولى علـى الادعــاء العــام الطعــن فيــه بطريــق النقــض العــادي، خــلال الأجــل المقــرر قــانونــاً؛ أمــا وأن فــوَّت علــى نفســه الأجــل، فــلا يجــوز، مــن بعــد ذلــك، الطعــن بمقتضــى المــادة (265)، وإلاّ لأصبــح للادعــاء العــام الحــق في الطعن في أي وقت شاء، دون التقيد بمواعيــد الطعــن، ودونما التقيد بالشروط التي نص عليهــا المشــرع في المادتيــن (265، 267)، وهــو ما يتعارض ومبدأ استقرار الأحكام في مواجهة الخصوم.

16 ـ ترتيبًا على ما تقدم، وبالبناء عليه، نرى بأنه لا جدوى من الطعن في هذه الحالة لمصلحة القانون، ذلك لأن النتيجة والثمرة المبتغاة والمتمثلة في نقض حكم محكمة الاستئناف الذي ألغى قرار الادعاء العام المتعلق بمصادرة مبلغ الضمان المالي، ليست في مصلحة المحكوم عليه، فلن يترتب على الحكم أي أثر وفق المادة (267) من قانون الإجراءات الجزائية.