د.جمال عبدالعزيز أحمد*
.. فبمجرد وصوله بدأ لسانُهُ، يصول، ويجول، وما توقَّف لسانُه، وما تردَّد، وما تزحَّرَ، وما اضطرب، فصاحبُ الحجةِ قويُّ القلب، رابطُ الجأش، فصيحُ اللسان، ثابتُ الجنان، سريعُ البديهة، قويُّ الشكيمة، لديه من الحجج ما يُفحِم به كلَّ مَنْ أمامه بهدوء، ورزانة، وتعقل، وتوقير، واستعمال الفعل:(قال) هنا هو أدخلُ في بيان قوة الحجة، وفصاحة اللسان، وعلوِّ الصوت، وهو دليل كذلك على التمكُّن، فالقاف من حروف التفخيم، وبعدها الألف الجوفيَة التي تعطيها أعلى درجات التفخيم، وتخرج الألف من الجوف دلالة على صدق القول، وعمْق تأصُّل الفكرة في النفس، واللام تخرج من جوانب الفم، أيْ: تملأ الفمَ، لأنها مقرَّرةٌ في الفؤاد، راسخةٌ في الضمير، ضاربة بأطْنابها في الذات، متشعِّبة في الروح، ثم أعقبها بما يدل على حبه، وحدبه، وخوفه على قومه، حيث نسبهم إليه بياء المتكلم:(يا قومِ) التي حذفت اجتزاءً بالكسرة التي على الميم قبلها، أو لعله أخفى ذاتُه تواضعَا منه، فحُذِفت الياء تواريًا، وحياءً من أن يذكر اسمه في موطن لا يجوز فيه التباهي بالنفس، ثم إن الفعل:(يسعى) يدل على أنه لم يسترحْ، وأنه واصل السيرَ الحثيث، والجريَ المتواصل، والمشيَ المستمرَّ؛ حتى يلحق بالنبي الذي سيُقتَل، ويمنعهم عن قتله، فبذل أقصى ما في نفسه من قوة، وقدرة، واحتمال، وصبر، فالمضارع (يسعى) يفيد الاستمرار والتواصل، ثم خاطبهم بأحبِّ ما يريدون، وهو (قومي)، لعلهم يعودون إلى عاطفة الترابط الاجتماعي، ويحنُّ الدم إلى أصله، ثم جاء بالجملة الأمرية التي غرضها النصح والإرشاد:(اتبعوا المرسلين)، فجاء بأهم صفة، وهي أنهم مرسلون من عند الله، ولم يأتوا بشيء من عند أنفسهم، فهم مرسَلون من الله، ويجب الاستماعُ إليهم، واتباعُ ما جاؤوا به، فذكرهم أنهم لا يبتغون مالا، ولا شهرة، ولا صِيتًا، ولا فخرًا، إنما هم مرسَلون بتكاليف ربانية، وتعليمات إلهية، تُصلِح أحوالَهم، وتغيِّر حياتَهم، وترفعُ من إنسانيتهم، وكرامتهم، والفعل:(اتبعوا) بوزن (افتعلوا) أي: اجتهدوا، وأخلصوا، وتنبهوا، وتيقظوا، ولا تضيعوا قولا لهم، ولا تعطلوا أهدافهم، ولا تضيعوا أعماركم بالبعد عنهم، والوقوف ضد مشروعهم الحضاري والعقدي والديني، ثم عاد فكرر الفعل:(اتبعوا) لأن الأصل أن الجَمال في الدين هو الاتباع، والجمالَ في الحياة هو الابتداع والتطوير، فكرَّرها ليضع أيديهم على قضية مهمة، وهي قضية الاتباع في الدين، وعدم الابتداع فيه، فقد خاب الناس وتراجعوا حضاريًّا عند ابتداعهم في الدين، واتباعهم غيرَهم في الدنيا، فلاهم اتبعوا دينهم، ولا هم أبدعوا وابتدعوا في دنياهم، فخابوا اتباعًا وابتداعًا، وهؤلاء المرسلون جاء في وصفهم ما يدفع إلى اتباعهم، وضرورة سرعة السير خلفهم:(اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ)، فهم لا يسألونكم مالا على هدايتهم إياكم، ولا يتقاضون منكم أجرًا، رغم تعبهم، وجهدهم، وتكرار تعليمهم، وبذل أوقاتهم، وتنكير (أجراً) ليشمل كل ما يمكن أن يكون أجراً: مالاً كان، أو جاهاً، أو عقاراً، أو طعاماً، والتعبير بالمضارع المنفي:(لا يسألكم) يفيد النفي القاطع، والمستمر لهم بأنهم قاموا بأعمالهم ابتغاءَ وجهِ ربهم، وما يريدون مدحًا، ولا يرتقبون من أحد ثناءً، ثم جاء بالجملة الاسمية التي تفيد الإقرار، والثبات، والدوام:(وهم مهتدون)، فهدايتهم دائمة، واستقامتهم مستمرة، وهم طائعون لله، لا يحيدون عن طاعته، ولا يزيغون عن كمال هدايته، وشامل طاعته، رغم أنهم لا يطلبون على أعمالهم مالاً، ولا أجراً ، فلِمَ التأخر، والنكوص، والصد عن سبيل الله؟!، فهو داعية مفوَّه، لَسِنٌ فصيح، أدار الحديث بشكل منطقي، لا عاطفي، وأوقفهم عند طبيعتهم، وبيَّن لم خطورةَ موقفهم بكلِّ إقناع، ومنطق مبين.
* جامعة القاهرة ـ كلية دار العلوم بجمهورية مصر العربية.
[email protected]