محمود عدلي الشريف*
من المعلوم الذي لا ينكره عاقل على وجه البسيطة أن الجنس البشري قد خلقه الله تعالى من صلب آدم، فقد رَوَى أَبُو مُوسَى ـ رضي الله عنه ـ عَنِ النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَنَّهُ قَالَ:(إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ مِنْ قَبْضَةٍ قَبَضَهَا مِنْ جَمِيعِ الْأَرْضِ فَجَاءَ بَنُو آدَمَ عَلَى قَدْرِ الْأَرْضِ، مِنْهُمُ الْأَحْمَرُ، وَالْأَسْوَدُ، وَالْأَبْيَضُ، وَبَيْنَ ذَلِكَ، وَالسَّهْلُ وَالْحَزَنُ، وَالْخَبِيثُ، وَالطَّيِّبُ، ثُمَّ بَلَتْ طِينَتُهُ حَتَّى صَارَتْ طِينًا لَازِبًا، ثُمَّ تُرِكَتْ حَتَّى صَارَتْ حَمَأً مَسْنُونًا، ثُمَّ تُرِكَتْ حَتَّى صَارَتْ صَلْصَالًا، كَمَا قَالَ رَبُّنَا، تَبَارَكَ وَتَعَالَى،كذا في (الكامل في التاريخ 1/ 27)، وعليه فالبشر جنس واحد، يرجع أصلهم إلى أب واحد وأم واحدة، وهذا قوله تعالى:(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)(النساء ـ١)،والمعنى:حْذَرُوا أَيُّهَا النَّاسُ رَبَّكُمْ فِي أَنْ تُخَالِفُوهُ فِيمَا أَمَرَكُمْ ـ به ـ وَفِيمَا نَهَاكُمْ ـ عنه ـ فَيَحِلَّ بِكُمْ مِنْ عُقُوبَتِهِ مَا لَا قِبَلَ لَكُمْ بِهِ، ثُمَّ وَصَفَ ـ تَعَالَى ذِكْرُهُ ـ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ الْمُتَوَحِّدُ بِخَلْقِ جَمِيعِ الْأَنَامِ مِنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ، وَعَرَّفَ عِبَادَهُ كَيْفَ كَانَ مُبْتَدَأُ إِنْشَائِهِ ذَلِكَ مِنَ النَّفْسِ الْوَاحِدَةِ، وَمُنَبِّهُهُمْ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ جَمِيعَهُمْ بَنُو رَجُلٍ وَاحِدٍ وَأُمٍّ وَاحِدَةٍ، وَأَنَّ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَأَنَّ حَقَّ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ وَاجِبٌ ، وُجُوبَ حَقِّ الْأَخِ عَلَى أَخِيهِ، لِاجْتِمَاعِهِمْ فِي النَّسَبِ إِلَى أَبٍ وَاحِدٍ وَأُمٍّ وَاحِدَةٍ، وَأَنَّ الَّذِي يَلْزَمُهُمْ مِنْ رِعَايَةِ بَعْضِهِمْ حَقَّ بَعْضٍ، وَأَنَّ بَعْدَ التَّلَاقِي فِي النَّسَبِ إِلَى الْأَبِ الْجَامِعِ بَيْنَهُمْ، مِثْلَ الَّذِي يَلْزَمُهُمْ مِنْ ذَلِكَ فِي النَّسَبِ الْأَدْنَى، وَعَاطِفًا بِذَلِكَ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ، لِيَتَنَاصَفُوا، وَلَا يَتَظَالَمُوا، وَلِيَبْذُلَ الْقَوِيُّ مِنْ نَفْسِهِ لِلضَّعِيفِ حَقَّهُ بِالْمَعْرُوفِ، عَلَى مَا أَلْزَمَهُ اللَّهُ لَهُ، فَقَالَ تعالى:(الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ)يَعْنِي: مِنْ آدَمَ ـ حيث ـ أُسْكِنَ آدَمُ الْجَنَّةَ، فَكَانَ يَمْشِي فِيهَا وَحْشًا لَيْسَ لَهُ زَوْجٌ يَسْكُنُ إِلَيْهَا فَنَامَ نَوْمَةً، فَاسْتَيْقَظَ فَإِذَا عِنْدَ رَأْسِهِ امْرَأَةٌ قَاعِدَةٌ، خَلَقَهَا اللَّهُ مِنْ ضِلْعِهِ، فَسَأَلَهَا: مَا أَنْتَ؟ قَالَتِ: امْرَأَةَ، قَالَ: وَلِمَ خُلِقْتِ؟ قَالَتْ: لِتَسْكُنَ إِلَيَّ..(جامع البيان للطبري 6/ 339)، وقوله:(وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً) أي: تعرّف إلى العقلاء على كمال القدرة، بما ألاح من براهين الربوبية ودلالات الحكمة، حيث خلق جميع هذا الخلق من نسل شخص واحد، على اختلاف هيئتهم، وتفاوت صورهم، وتباين أخلاقهم، وإن اثنين منهم لا يتشابهان، فلكل وجه في الصورة والخلق، والهمة والحالة، فسبحان من لا حدّ لمقدوراته ولا غاية لمعلوماته.. (انظر تفسير القشيري "لطائف الإشارات1/ 312)، وتفصيل أولاد آدم فيه كلام كثير بين أهل العلم، ومنه:جاء في كتاب"المنتظم في تاريخ الملوك والأمم لابن الجوزي 1/217"، ولدت حواء لآدم أربعين ولداً من ذكر وأنثى فِي عشرين بطناً، قَالُوا: وكانت لا تلد إلا توأمين ذكراً وأنثى. وأول الأولاد: قابيل وتوأمته قليما، ويقال قيثما ـ في المختصر: قليمار، ويقال:(قيثمار)، وآخرهم عبد المغيث وتوأمته أمة المغيث، وعد مِنْهُم ابْن إِسْحَاق: قين وتوأمته، وهابيل وليوذا، وآشوث بنت آدَم وتوأمها، وشيث، وتوأمته ، وحزورة وتوأمها، ثُمَّ إياد وتوأمته، ثُمَّ بالغ ـ ويقال: باتح ـ وتوأمته، ثُمَّ أثاثي وتوأمته، ثُمَّ توبة وتوأمته، ثُمَّ بنان وتوأمته، ثُمَّ شبوبة وتوأمته، ثُمَّ حيان وتوأمته، ثُمَّ ضرابيس وتوأمته، هدز وتوأمته، ثُمَّ نجود وتوأمته، ثُمَّ سندل وتوأمته، ثُمَّ بارق وتوأمته، وَكَانَ الرجل مِنْهُم ينكح أي أخواته شاء إلا الَّتِي ولدت مَعَهُ، فإنها لا تحل لَهُ، يقول ابن الجوزي: إجماع الأمَّة على أنَّ آدم كان ينكح ولده أيَّ ـ واحدة من ـ أخواته شاء، إلَّا التي ولدت معه فإنَّه لا تحلُّ له، احتياطًا منه في الفروج، ونظرًا لذوات المحارم، ومراعاة للنسل، فإنه كان قليلًا، وما فعل ذلك إلَّا لضرورة عدمه، فلما كثروا حَرُم ذلك، وكان آدم إذا شبَّ الغلام زوَّجه جارية البطن الآخر، وزوَّج جارية هذا البطن غُلامَ البطن الآخر، وكان الغلام يتزوَّج أيَّ أخواتِه شاء إلا توأمته التي وُلِدت معه، فإنَّها لا تحلُّ له، وذلك لأنه لم يكن لهم نساء يومئذٍ إلَّا أخواتهم وأمُّهم حوَّاء ،وكان قابيل صاحب زرع، وهابيل صاحب غنم، فقرَّب قابيل ميرة من طعام من أردأ زرعه، وأَضمر في نفسه وقال: ما أُبالي أتُقُبِّل منِّي أم لا؟ بعد أن لا يتزوَّج هابيل أختي، وقرَّب هابيل كبشًا سمينًا من خيار غنمه ولبنًا وزبدًا، وأضمر في نفسه الرِّضى بالله تعالى، فوضعا قربانهما على الجبل، وكانت القرابين إذا كانت مقبولة نزلت نارٌ بيضاء من السَّماء فأكلتها، وإذا لم تقبل لم تنزل النار وأكلتها السِّباع والطيور،وقام آدم يدعو، وقيل: كان غائبًا بمكة، فنزلت النار فأكلت الحَمَل والزُّبد واللبن، ولم تأكل من قربان قابيل شيئًا لأنه لم يكن زكيَّ القلب، وكان هابيل زكي القلب، قال ابن عباس: فلم يزل الكبش يرعى في الجنَّة حتَّى فدي به إسماعيل، قال فذلك قوله تعالى:(إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا)(المائدة ـ 27)، وقال مجاهد: ولما تقبِّل قربان هابيل بقي في نفس قابيل، وأضمر له السُّوء.