د.جمال عبدالعزيز أحمد*
.. والجملة اسمية:(وهو الغني الحميد) لتدل على ثبوت الوصف له ـ جلَّ جلاله ـ وعلى أزليته، واستدامته، فهما (أي: الغني والحمد) له بكمالهما ـ عز وجل ـ ثم تأتي الجملة الشرطية:(إن يشأيُذهِبكم ويأتِ بخلقٍ جديد)، هذا أسلوب شرط: فعلاً وجواباً:(إن يشأ يُذهِبكم) جاء الفعل بالمضارع المفيد للاستمرار، فذهابكم رهن مشيئته، وبقاؤكم وفق إرادته، و(إنْ) للشك أيْ: أنتم يمكن إفناؤكم في لحظة، وأنتم رُهَيْنُ أمرِه، وطُوَيْعُ إشارته، وجاء الضمير (كم) في (يذهبكم) بالجمع ليستوعب جميع البشر من لدن آدم (عليه السلام) إلى قيام الساعة، كما أنه كناية عن طلاقة القدرة، ومدى العظمة، والقوة، والقيومية لله عز وجل، وحذف مفعول الفعل:(يشأ) لتذهب النفس في تخيله، وتصوره كلَ مذهب،أيْ: إن يشأ فِعْلَ ذلك فَعَلَ، لا يقف أمام قدرته شيء، كما قال في آيات أُخر:(فسواها ولا يخاف عقباها)، والقلقلة في:(يذهبْكم) تبيِن خطورة الفعل، وأن السماءَ تُرَجُ رجًّا، والأرضَ تُبَسُّ بسًّا عند حدوثه، وتُقَلْقَلُ قلقلةً يذوبُ من هولها القلب، ثم يأتي المعطوف على الجواب:(ويأتِ بخلقٍ جديد)، والواو للترتيب والتعقيب هنا، فالذهاب يعقبه إتيانٌ، وحدوث، وأتت كلمة:(خلق) منكَرة موصوفة، أيْ: خلق كثير، يختلفون عنكم، وله سمات أخرى غيركم و(جديد) على وزن من أوزان الصفة المشبهة، التي تفيد الثبات، والاستمرار، والدوام، فهي بوزن (فعيل) والفعلان يدلان على سعة القدرة، وعدم إحاطة العقل بها، فالإتيان بخلق جديد أمر مستمر متواصل وهو يسير على الله عز وجل، يحدث بـ(كن)، ولا يتطلب علاجًا أو تعبًا.
فهو أسلوب شرط، ومعه أسلوب عطف، والأسلوبان قد بيَّنا ووضَّحا طبيعة القدرة الإلهية، وأنها تفعل ما تشاء، دون معقِّب:(لا يُسْأَلُ عما يَفْعَلُ)،ثم جاء التذييل الذي يفيض على هذه الدلالة جمالَها، ويوسِّدها كمالها، ويرسي جلالها:(وما ذلك على الله بعزيز) أيْ: وما فعله من ذهابكم، والإتيان بآخرين غيركم، والمجيء بخلقٍ جديدٍ هو أمرٌ سهلٌ ميسَّرٌ عليه، لا تعب فيه، وإنما يحدث كل ما ترونه في كونه بفعل أمر من حرفين هما أسرع حرفين ينطق بهما اللسان العربي الكاف، والنون، (بكن فيكون)، والأسلوب أسلوب نفي، وتوكيد بدخول حرف الجر الصلة (أي: الزائد):(بعزيز)، وقد أشار القرآن الكريم إلى الفعل باسم الإشارة:(ذلك) وهو اسم إشارة للبعيد، لبعد مكانة الفعل، وعدم قدرة أحد عليه إلا الله، واستعمل اسم الإشارة كذلك مقترناً بلام البعد، وكاف الخطاب، الذي يدل على منزلة المشار إليه، وبعد مكانه، ومقامه، وأنه لا ينهض به على تمامه إلا الله العزيز الحكيم، القوي المتين، القادر، القدير، المقتدر، الحق، الوكيل.
لكن جاء شبه الجملة:(على الله) ليبيِّن يُسْرَ الفعل، وسرعة تنفيذه، وسهولة حدوثه؛ لكونه صادرًا عن الله، وهو مالك الملك، ليس بعزيز عليه فعله، ولا بكبير حدوثه، ولا يتطلب منه وقتاً، ولا زمناً، و(عزيز) هنا منكَّرة لتشمل أيَ جهد مهما كان صغيراً، وهي كلك صفة مشبهة، فصِغَرُ الأمرِ وعدمُ تطلُّب مشقةٍ، ولا جهد هو شأنٌ خالصٌ لله، ومستمرٌ لجلاله، فعدم كون الأمر عزيزًا على الله يعني أنه يسير للغاية، فقد تضمَّنت الآية سرعة الحدوث، ويُسْرَ العمل على الله لكونه لا يستغرق لُحَيْظَاتٍ، فيذهب بالكون كله، ويستبدله بآخر وفق مشيئته، ورهن أمره، وقد دخلت الآيات عدة أساليب: إنشائية، وخبرية، اجتمعت كلها لرسم طبيعة القدرة الإلهية، وبيان صفاتها، وإظهار عظمتها، منها أسلوب النداء، وأسلوب الشرط، وأسلوب العطف، وأسلوب النفي، وأسلوب التوكيد، وقد دخلها الأسلوب الخبري الذي تمثل فيقوله تعالى:(أنتم الفقراء إلى الله)، وقوله سبحانه:(والله هو الغني الحميد)، وقوله ـ جل جلاله:(وما ذلك على الله بعزيز)، وقد تداخلت الأساليب بنوعيها: إنشائية وخبرية، وتآزرت في رسم شيء من قدسية الموقف، وعظمة الحاصل، وًبيَّنَتْ أن الله رؤوف بخلقه، رحيم بعباده، ينصحهم، ويرشدهم إلى ما ينفعهم، ويصلحهم، ويأخذ بأيديهم إلى طريق الإيمان، وسبيل الإحسان.
* جامعة القاهرة ـ كلية دار العلوم بجمهورية مصر العربية.
[email protected]