جوخة بنت علي الشماخية*
* كاتبة تربوية عمانية

الكتابة مرآة الحضارة، ولسان حال الناس، يراها ابن خلدون أنها " من عداد الصنائع الإنسانية " وهي صناعة بشرية راقية، بها يتواصل الناس، وينقلون مشاعرهم وأفكارهم، ويدونون تاريخهم وتراثهم، والكتابة فطرية لدى البعض، لا سيما الذين يمتلكون ذكاء لغويا، وهي مكتسبة لدى البعض الآخر، تنمو لديهم بالاطلاع والتدريب والممارسة.

تتنوع أشكال الكتابة حسب الهدف الذي يقصده الكاتب، والكتابة الإبداعية أحد هذه الأشكال، هذا الشكل الكتابي يُعنى بإنتاج نصّ أدبي جديد ومبتكر، يتميز بأصالة أفكاره، يختار له الأديب الجنس الأدبي الذي يراه مناسبا لترجمة تلك الأفكار، شعرا كان أو نثرا، وإن اختار النثر فسيجد أمامه العديد من الأجناس والأطياف الأدبية، فهناك الرواية، والقصة، والسيرة الذاتية، وأدب الرحلات، وغيرها، وعبر هذا النص تتضح خبرة الكاتب وقدراته اللغوية ومهاراته الكتابية.

تهدف الكتابة الإبداعية إلى إمتاع القارئ، ومشاركته خبراته وتجاربه الذاتية، حيث يقوم الكاتب بهندسة نصه، من خلال استغلال جميع مكونات العمل الأدبي الناجح، من أفكار، وعاطفة، وأحاسيس، وانفعالات، وخيال؛ ليخرج عمله بأسلوب أدبي رفيع؛ بغية التأثير في المتلقي، وجعله يتعايش مع الحدث، وقمة التأثير تكون حين يستطيع الكاتب أن يجعل المتلقي ينفعل لا إراديا، فيجد نفسه يبكي، ويضحك، يغضب، وتنفرج أساريره، ويقطّب حاجبيه، دون أن يشعر.

للكتابة الأدبية أساسيات لا بد أن يعرفها الكاتب ويتقنها، لتنعكس على عمله الأدبي، وقد طرح كل من سامح كعوش وباسمة يونس العديد من الأمور المهمة التي ينبغي على الكاتب أن يعرفها قبل البدء في الكتابة، وذلك عبر حلقة عمل " أساسيات الكتابة الإبداعية " التي نظمها اتحاد كتاب وأدباء الإمارات، ومما ذكراه في هذا الصدد "ضرورة معرفة اتجاهات الكتابة الإبداعية وأنواعها، وجماليات اللغة، وإمكانات التعبير، والنص الإبداعي وأنواعه، والنص التواصلي، والحقول الدلالية والمعجمية، وأنواع لمفردة، والمذاهب الأدبية المختلفة في الكتابة " إضافة إلى ذلك، من الضرورة أن يتعمّق الكاتب في السرد القصصي ومكوناته، وأساليب صياغة السياقات اللغوية، كل هذه الأساسيات مهمة للحكم على نجاح العمل الأدبي من عدمه، فليس كل من يقرأ الروايات يستطيع أن يصبح روائيا، وليس الذي يكثر من قراءة القصص يستطيع بسهولة أن يصبح قاصا كما يظن البعض.

لقد لوحظ مؤخرا وجود زخم غير معهود في الإنتاج الأدبي النثري، ولا سيما الرواية والقصة القصيرة، لدرجة أن البعض كأنه عقد عهدا مع نفسه على أن يكون له إصدار أدبي سنوي، خاصة في مواسم معارض الكتب. إن المطّلع على الإنتاج الروائي والقصصي في وقتنا الحاضر بعين فاحصة وناقدة يستطيع أن يصنّفه إلى أدب جيد وآخر غير جيد، وسيحكم بأن العديد منه لا يرقى بأن يسمي رواية أو مجموعة قصصية، لأسباب كثيرة، أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: خلو بعضها منالإبداع، فلا تجديد في الفكرة، ومعظم الأفكار مكرّرة، لا تحقّق المتعة والتشويق، كما أن هناك ضعفا وركاكة في اللغة، فمن خلال المفردات والتعبيرات المستخدمة تتضح ضحالة الحصيلة اللغوية لدى الكاتب، وعدم قدرته على توظيف البلاغة العربية رغم تنوّع جمالياتها وكثرة مجازاتها وكونها ركنا مهما من أسس الكتابة الأدبية، ناهيك عن أن بعض الكتابات المنشورة غير مدققة لغويًا، وبعضها يكاد يخلو من عنصر الخيال تماما، وإن كان هناك خيال فلا يكون مرتبطا ارتباطا منطقيا بالأحداث.

والسؤال المهم الذي أطرحه الآن: ما الأسباب التي أدت إلى انتشار أدب نثري تنقصه الخصائص الفنية للكتابة الأدبية؟ من وجهة نظري أن أول سبب هو غياب الحركة النقدية البنّاءة عن الساحة العربية، فلطالما كان النقد الهادف عنصرا أساسيا وراء نهضة الأدب وتهذيبه، وصقل تجارب الكتّاب الناشئين. الواقع يقول إن سلّمنا بوجود بعض النقد، فهو مجرد مجاملة للكاتب، واتفق مع ما ذكره الدكتور أحمد عبد الملك في حلقة عمل "أساسيات الكتابة الإبداعية" حول مساهمة أدوات التواصل الاجتماعي، وبعض مشاهير التواصل الإجتماعي في الترويج لأعمال جدّ متواضعة، قد لا تشكّل قيمة أدبية حقيقية، وهذا ما سمّاه بـ (خداع القارئ)، مما ساعد على ظهور أعمال لم يُحدد فيها الشكل العام للعمل الأدبي، هل هو رواية أم قصة أم سيرة ذاتية، ومن ضمن الملاحظات التي ذكرها أيضا، إنه يصعب على بعض الكتّاب كيف يخلقون شخصياتهم ضمن إطار الحبكة وتطوّر الحدث، فبكل سهولة قد تختفي شخصية ضمن الأحداث، دون مبرر مقنع، أما عن الأسلوب فهو أسلوب تقريري أو وعظي مباشر، لا يمتّ بصلة لفن كتابة الرواية أو القصة.

ومن الملاحظات الأخرى أيضا، أن بعض الكتّاب أصبحوا يهتمّون بالبهرجة الخارجية لعنوان الكتاب وغلافه الخارجي، أكثر من عنايتهم بمضمونه، وهذا يأخذنا إلى قضية الصراع بين الشكل والمضمون التي تناولها الأدباء والنقّاد منذ القدم.

والسؤال الثاني الذي يأتي تباعا بعد السؤال الأول، وهو: كيف يمكن أن نحدّ من انتشار الأدب النثري غير الجيد ؟

يكون ذلك بإعادة المجد للحركة النقدية في الوطن العربي، بحيث يقوم بها نقاد نخبة وأدباء بمعنى الكلمة، كذلك ينبغي أن يكون هناك تمحيص للعمل الأدبي قبل إعطاء الكاتب إذن النشر، على أن يشمل هذا التمحيص مراجعة العمل مراجعة فنية وفقا للجنس الأدبي الذي ينتمي إليه، والتأكد من تدقيقه تدقيقا لغويا قبل النشر، كما ينبغي توجيه الكتاب الناشئين إلى التقليل من النشر المتواصل والسريع، حتى يعطوا أنفسهم فرصة لاكتساب خبرات حياتية، والاطلاع والبحث عن أفكار جديدة، حتى يبدعوا، فلا تكون كتاباتهم نسخا تكرّر نفسها، مما يؤدي إلى طغيان الكم على الكيف، وتدريجيا يفقد العمل الأدبي جودته.

في الحقيقة - بشكل عام - نحن بحاجة إلى تصحيح مسار الكتابة الأدبية؛ لأننا نرغب في أدب راق، ولكي يتحقق ذلك لا بد من وجود ناقد واع وموضوعي، وقارئ مثقف ويقظ، لا يكون همه اقتناء الكتب ورصّها في أرفف مكتبته وحسب، وإلا لن نستطيع أن نضيف كتابات ذات قيمة لموروثنا الأدبي، وهذه سيسجلها التاريخ علينا.