.. فالدرس الأول أن الاستعانة بالله تحصل وقتَ أن يتجهز المؤمن، ويستعد، ويتدرب، ويتمهر بكل سبل القتال، ثم يطلب الإغاثة من مولاه، وهي تتنزل فور رفع الأكف له ـ جلَّ جلاله ـ وتأتي غاية في السرعة، وشديدة في القوة، ثم يبين الله السببَ في إنزال تلك الملائكة، والسبب في سرعة هذه الاستجابة بقوله سبحانه:(وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)، وهنا أسلوب قصر باستعمال (ما وإلا)، فتلك الإغاثة، وذاك العمل من الله تعالى جاء بشرى لأهل الإيمان، واطمئنانا لقلوبهم في هذا الظرف العصيب، والزمن الرهيب، والموقف المضطرب الرعيب، وفيه كناية كذلك عن تأييد السماء لهم، وجملة: (تطمئن به قلوبكم) فيه مجاز عقلي علاقته الجزئية، حيث أطلق القلب ـ الذي هو مجمع الفرحة، ومتنزل الاستقرار، ومحل الاطمئنان ـ منزلة النفس كلها، أيْ:(ولتطمئن به نفوسكم وكلكم وأجسادكم)، فعبر بالجزء، وأراد الكل، ثم جاءت القاعدة التربوية الحاسمة، وهي:(وما النصر إلا من عند الله) أيْ: مهما اجتهدتم، وتدربتم، وسهرتم، والسماء لا تريد نصركم، فلن تُنصَروا، فالنصر بإذنه، وتحقيق الغنائم لا يكون إلا بمشيئته، فهو من باب قصر الصفة على الموصوف، قصراً حقيقياً، لا قصراً إضافياً، وكلُّ أساليب الآيات تدخل في إطار أبجديات العقيدة السليمة، وركائز الإيمان الحقِّ، وهو درسٌ آخر من الدروس التربوية المهمة هنا، حيث إن المتقدم لقتال العدو يجب أن يكون ذا عقيدة صحيحة، وصاحب تصور سليم، لا غبش فيه، ولا اضطراب، وأن الأمر لديه كله بيد الله، يُنزِله على من شاء، في أيِّ وقت شاء، وبأيِّ كيفية شاء، فَغُلَّتْ يدُ البشر، مهما تقدمت، وتدربت، وهو كناية كذلك عن وجوب الاطمئنان ـ في أثناء الحروب والقتال ـ على معية الله، وبَصَره بأهل الإيمان، ومعيته مع جنود الرحمن، وعنايته بهم، وعدم تركهم في أحرج لحظاتهم، وأنه دوما معهم. ثم يأتي تذييل الآية متناغمًا مع أولها، ومع سياق السورة بعامة بأسلوب التوكيد:(إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)، فهو الله الذي ثبتتْ سرمديةً عِزَّتُهُ، وتأكدت على الدوام حِكْمَتُهُ، فهو عزيز، لا يغلب، حكيم، يضع الشيء في نصابه، ويجعله في مكانه، فلا يعز عليه أيُّ شيء، ولا يعزب عن حكمته أي شيء في السموات ولا في الأرض، ولا يخفى عليه أمر في ملكه، وملكوته، ثم شرعت الآيات تبيِّن سعة عطاء الله، وواسع رحمته بأهل بدر ليلة الاستعداد للقتال، وما اختصهم به من تغشيتهم النعاسَ، لتستريح أجسامهم، وعقولُهم، وأذهانُهم، وقلوبُهم، وليكونوا قادرين على تحمُّل كل لحظات القتال بذهن متفتح، وعقل قوي راجح، ونفس قوية، قادرة على التحمل، والبأس، والقتال، كما نزل المطر ليسهل الأرض التي كانت رمليةً، تغوص فيها الأقدامُ، فلا يمكن لمقاتل أن يسرع فيها كرًا وفرًّا، بل كانت ستنغرس أقدامُهم في الرمال الصعبة، وسرعان ما يُقتَل، أو يُسلِّم رايته، ويستسلم، فأنزل الله تلك الليلة مطرًا يطهِّر به قلوبهم، ويثبت به أقدامهم، وفيه كناية عن الهيمنة التامة على الكون، والمعية الكاملة من الله تعالى لأوليائه، فقال ـ جل جلاله:(إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ) وبنظرة يسيرة نجد أن كلَّ الأفعال قد جاءت بالمضارع الذي يفيد الاستمرار، وكأن السماء عينٌ مفتوحةٌ عليهم، تحرسهم، وترعاهم، وتبصِرهم بكلِّ ما لدى العدو من خطط، واستعدادات، وتبيِّن المعية المستمرة من الله لعباده المؤمنين:(يُغشّيكم، يُنزّل، يُطهّركم، يُذهِب، يربِط، يُثبّت)، كلها أفعال مضارعة، تفيد الاستمرار، وتَوَاصُلَ المعية، وهو درسٌ آخر من دروس بدر: أن المؤمن لا يتركه الله أبدًا، وهو معه في كلِّ لحظة حرجة من لحظات الحياة، يرعاه، وينزِّل عليه رحمته، وتأييده، ويربط على قلبه، ويثبت فؤاده، ففيها كناية عن تواصل الرحمة، واستدامة المعية.