يقول القرطبي : فيه عدة مسائل، الأولى: قوله تعالى:(وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي ..) (هود ـ ٤٥)، أي من أهلي الذين وعدتهم أن تنجيهم من الغرق ، وقال علماؤنا: وإنما سأل نوح ربه ابنه لقوله (وأهلك) لما كان عنده من أهله،يدل على ذلك قوله:(ولا تكن مع الكافرين) أي: لا تكن ممن لست منهم، لأنه كان عنده مؤمنا في ظنه، إذ محال أن يسأل هلاك الكفار، ثم يسأل في إنجاء بعضهم، وكان ابنه يُسر الكفر ويظهر الإيمان، فأخبر الله تعالى نوحاً بما هو منفرد به من علم الغيوب، أي علمت من حال ابنك ما لم تعلمه أنت، وقال الحسن: كان منافقاً، ولذلك استحل نوح أن يناديه، والثانية:(قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ..) (هود ـ ٤٦) أي: ليس من أهلك الذين وعدتهم أن أنجيهم، وقيل: الولد قد يُسمّى عملاً كما يُسمّى كسباً، كما في الخبر (أولادكم من كسبكم)، ذكره القشيري، والثالثة: في هذه الآية تسلية للخلق في فساد أبنائهم وإن كانوا صالحين، وروي أن ابن مالك بن أنس نزل من فوق ومعه حمام قد غطاه، قال: فعلم مالك أنه قد فهمه الناس، فقال مالك: الأدب أدب الله لا أدب الآباء والأمهات، والخير خير الله لا خير الآباء والأمهات، وفيها أيضاً دليل على أن الابن من الأهل لغة وشرعاً، ومن أهل البيت، فمن وصى لأهله دخل في ذلك ابنه، ومن تضمنه منزله، وهو في عياله، فسمى جميع من ضمه منزله من أهله(تفسير القرطبي: 9/ 45).
والخلاصة: أنّ القرآن قد بيّن أن الذرية أو الأبناء على نوعين، الأول: ذرية طائعة بارّة بالوالدين، والثاني: ذرية شقية وعاقة للوالدين، أما الصنف الأول فيتمثل في مواقف الأنبياء كنوح وإبراهيم ويحيى وعيسى وإسماعيل ويوسف عليهم وعلى نبينا (أفضل الصلاة وأتم التسليم) من دعاء لهما ولين جانب في القول لهما واعتراف بالجميل لهما، وغير ذلك من أنواع البر والإحسان إليهما، وأما الصنف الثاني فهو موقف ابن نوح، وهروبه من أبيه وعدم السماع والطاعة لأبيه، فكان من المغرقين (التفسير الموضوعي للقرآن الكريم ونماذج منه ص: 141)، ومن هنا نعلم أنه مهما كان الندم، فلابد أن يجري القلم، إنها حكمة الله التي تخرج الحي من الميت، كذا تخرج الكافر من المؤمن، فسبحان الله .. سبحوا بحمده دوماً.
إسماعيل بن إبراهيم:وننتقل بك ـ عزيزي القارئ ـ مع إبراهيم الخليل ـ عليه السلام ـ حيث كان رسولاً عظيماً، لا يقل مقدارا عمن سبقه من الأنبياء والمرسلين ـ عليهم السلام ـ ولا من تبعه، وما أقصد من وراء ذلك أنه لابد أن قد أحسن تربية أولاده كباقي الأنبياء والمرسلين، فإذا كان المبدأ في التربية الحسنة مبدأ واحداً ، وعلى الرغم من ذلك اختلفت السلوكيات ، وهذا هو أهم سبب من الأسباب التي دعتني لاختيار هذا الموضوع ، فلا يشك عاقل في حسن تربية الأنبياء والمرسلين لأولادهم ، وتنشئتهم على أحسن نشأة وأخلاق، ولم لا؟ وهم الذين يربون الأمم بكاملها، أو بعثوا لتربية الأمم، أفيعجزهم أن ينشئوا أبنائهم على أحسن نشأة،فإذا كان الحال كذلك، وهو كذلك، فلماذا اختلفت سلوكيات أبنائهم وأفعالهم، بين الحسن والسيئ، وبين الإيمان والكفر، وبين الشفقة والغلظة، وبين الرخمة والفظاظة، وقد تدبرنا في بداية هذه السلسلة قصة ابني آدم، وفور أن اختلفا، هدد هابيل أخوه بقوله:(لأقتلنك) يا الله!! لم يقل له لأغضبن منك،أو لأخاصمنك، أو لأضربنك، أو لأسبنك، أو لأشكونك لأبيك، أو لأصممن على رأي حتى النهاية، أو لأجددن القربان مرة أخرى، أو لأحتكمن إلى أخواتنا البنات لنخيرهن بيننا،أو لأبنين بينا يكون أجمل من بيتك حتى أكون أنا أحق بأختي منك، أو لأكررن الطلب على أبي حتى يوافق، أو لأدعون الله ليل نهار حتى يستجيب لي، أو لأبتهلن إلى الله راجيا أن يهب لي أختي وحدي ولتكون آية للناس ..الخ.
انظروا ـ إخوة الإيمان ـ إلى كل هذه الحلول، ولا شك أن هناك غيرها الكثير والكثير، هل كان ابن آدم غافلا عنها، بمعنى أنها لم ترد في باله أصلاً، إم هل كانت هذه الحلول مطروحة أمام عينيه، وقد ألقاها بين يديه فكره، وهو لم يلقي لها بالاً، أم أن الأمر فور عرضه خرج عن سيطرته، ولكن إذا كان الأمر فور عرضه خرج عن سيطرته وفقد أعصابه، ألم يكن لديه من خيار إلا القتل؟ ما الذي دفعه إلى ذلك ولم يكن قد رأى قتيلا بشريا قبل ذلك، هذا هو السر في ضرب هذا المثل في القرآن الكريم.