د. أحمد مصطفى أحمد:
كلما استمر الغموض حول فيروس كورونا (كوفيد-19) المسبب للوباء الذي يواجهه العالم تكثر تفسيرات نظرية المؤامرة، والتي تبدأ من أنه خدعة لترهيب البشر إلى أنه سلاح بيولوجي أطلقه من يريدون التحكم في العالم. وبين المؤامرتين المتطرفتين أطياف من تفسيرات المؤامرة تنتشر كل يوم تقريبا، طالما ما زال العلم لم يسبر بعد غور أسباب الوباء وسبل احتوائه. ولسنا هنا بصدد استعراض مؤامرات الفيروس المتعددة، التي تعكس استسهالا بشريا طبيعيا للحصول على الإجابات الحاسمة في الأمور المعقدة. صحيح أن غياب اليقين العلمي يوفر فرصة لمثل تلك التفسيرات، بل وأيضا للأسف يفتح الباب للخرافة والدجل، لكنه ليس مبررا لأن نتوقف عن إعمال العقل والمنطق السليم فيما نرى ونسمع.
المهم أن بين نظريات المؤامرة تلك تفسيرا مثيرا حقا، وإن ظل طبعا شططا لا أساس له. ذلك التفسير الذي يريح البعض يكتسي بمسحة تفترض المنطق كما في تحقيقات الجرائم: البحث عن هدف. وبغض النظر عن طريقة تطور الفيروس أو مصدره، تقول تلك المؤامرة إن الفيروس تم إطلاقه ونشره بهدف تدمير النظام الاقتصادي العالمي القائم وتطوير نظام عالمي جديد. وكعادة كل المؤامرات، هناك جماعة خفية تقف وراء الوباء هي العائلات الثرية في العالم التي كانت تحتكر القوة الاقتصادية عبر شركات عائلية هائلة عابرة للقارات. والغاية طبعا هي أن تستعيد تلك العائلات (أو الشخصيات في بعض نسخ المؤامرة) قوتها بإعادة تشكيل الاقتصاد العالمي بما يخدم مصالحها.
وللوهلة الأولى تبدو هذه النظرية التآمرية وكأنها تمزج بين تفسيرات مؤامرات الاستخبارات من ناحية والاستنتاج شبه المنطقي من ناحية أخرى؛ أي نصف تلفيق ونصف حقيقة تقريبا، كما يحدث غالبا من قبل السياسيين في حملاتهم التي تستهدف حشد الرأي العام باستخدام أنصاف الحقائق وتغليفها وتعليبها وطرحها على أنها حقائق. مسألة أن هناك أشخاصا أو عائلات أو قوى أو حتى دول تقف وراء نشر الفيروس المسبب لوباء لا تختلف كثيرا عن مؤامرات الفيروس الأخرى والخرافات التي تنتشر بين الفئات التي تريح عقلها. إنما الجزء المتعلق بالهدف، أي تطور نظام اقتصادي عالمي جديد فيبدو على عواهنه متسقا مع استنتاجات أغلب الناس بأن "ما بعد وباء كورونا لن يكون كما قبله"، وليس الاقتصاد استثناء من ذلك. ومع أن احتمال حدوث تغيير جذري في العالم ونظمه، بما فيها الاقتصادية، ليس أكيدا تماما إلا أن الاقتصاد العالمي سيتغير بالطبع.
يظل التفسير المشار إليه من باب خرافة المؤامرات بالتأكيد، وإن كان الاقتصاديون يختلفون حول شكل التغيرات في النظم الاقتصادية ما بعد الوباء، إلا أن أحدا لا يستنتج احتمال العودة للوراء كما تقول نظرية المؤامرة. ورغم أن احتمال التغير الجذري يظل ضعيفا، لكن تغييرات كثيرة حدثت بالفعل وبعضها سيستمر معنا لوقت طويل. وهناك فرصة لأن تؤدي تلك التغييرات التي ستدوم إلى تطور النظام الاقتصادي العالمي. وبعيدا عن تفسيرات المؤامرة، يمكن تفنيد بعض تلك التصورات عن التغير المتوقع في النظام العالمي. مثلا، هناك من يرى أن تجربة الصين وبعض الدول المماثلة لها في التعامل مع الوباء هي نموذج يحتذى وبالتالي يرجح أن يتحول العالم شيئا فشيئا باتجاه نظام اقتصادي يجمع ما بين الرأسمالية والاشتراكية. وهناك آخرون يرون أن أزمة الوباء أظهرت أهمية دور الدولة وضرورة أن تكون مسيطرة أكثر وبالتالي يتوقعون موجة تأميم لقطاعات اقتصادية وتعزيز دور الدولة المركزية.
وهناك من يرى أن دول العالم لم تعالج الأسباب الجذرية للمشاكل في النظام الاقتصادي العالمي في الأزمات السابقة على مدى العقود الأخيرة وأن أزمة الوباء ستؤدي بالضرورة إلى علاج حاسم لتلك العلل المتجذرة في النظام. وطبعا هناك من يرى أن أزمة الوباء وفرت فرصة لتطور كبير في النظام الاقتصادي العالمي ليصبح أكثر مرونة ووقاية من الصدمات، وهو ما كان يجب العمل عليه منذ سنوات، إلا أن أزمة الوباء جعلت معالجة التطور حالة حادة. والأرجح أن كل هذه التقديرات ـ التي لا علاقة لها بمؤامرات الفيروس بالطبع ـ بها قدر من الصحة، لكنها لا تقدم تصورا محددا لما سيكون عليه شكل النظام الاقتصادي العالمي ما بعد الوباء. وأتذكر هنا كتاب المفكر المصري الراحل دكتور فؤاد مرسي بعنوان "الرأسمالية تجدد نفسها"، وكيف أن المنطق يجعلنا نستند إلى تجارب الماضي في استخلاص تقديرات المستقبل.
ولعل ذلك هو ما يحدث الآن بالفعل، بدون مؤامرة ولا خرافة ولا سحر، ولم تكن أزمة الوباء الفيروسي سوى عامل محفز قوي للدفع باتجاهه. ليس بالضرورة أن يعني تطوير الرأسمالية نفسها أن نكون حاليا في مرحلة انتقال هائل من نمط اقتصادي إلى آخر، بل ربما تطور الرأسمالية المالية التي تسيدت على الصناعية والزراعية بعملية "تضفير" مع نمط تكنولوجي لنشهد شكلا من "الرأسمالية الرقمية" ـ إذا جاز التعبير. وليس طرح المصطلح متأثرا بما شهدناه مع الوباء من أهمية التكنولوجيا الرقمية في الحفاظ على قدر معقول من النشاط البشري. فالقطاع المالي منذ سنوات هو أكثر القطاعات استفادة من كل تطور رقمي توفره التكنولوجيا الجديدة. وطبعا يظل ذلك تصورا من بين تصورات تقدير ما سيكون عليه العالم بعد وباء كورونا، لكن بالتأكيد ليس كما تقول مؤامرات الفيروس.