مقدمة:
قال فرانسيس فوكوياما في مقال له في الأميركان أنترسيت إن العديد من المؤسسات السياسية الأميركية في حالة تداع اليوم . إن التداعي السياسي يعني أن عملية سياسية محددة (وأحيانا مؤسسة حكومية) قد اصابها الوهن ولم تعمل بالشكل المطلوب نتيجة للجمود الفكري وتنامي قوة بعض الجهات السياسية التي تحول دون الإصلاح وإعادة التوازن.
ـــــــ
يضيف فوكوياما "إذا درسنا بعناية التاريخ الأميركي بالمقارنة مع بعض الديمقراطيات الليبرالية الأخرى، نلاحظ ثلاث خصائص بنوية أساسية في الثقافة السياسية الأميركية، بغض النظر عن فعاليتها وتطورها في السابق ، أصبحت تمثل مشكلة كبيرة في الوقت الحاضر:
الأول هو أن القضاء والسلطة التشريعية (بما في ذلك الأدوار التي يقوم بها الحزبين الجمهوري والديمقراطي ) تلعب دورأ أكبر في الحكومة الأميركية على حساب السلطة التنفيذية. أن عدم ثقة الأميركيين المتأصلة بالحكومة يؤدي الى طرح حلول قضائية لمشاكل إدارية. مع مرور الوقت أصبح الأمر مكلفا وغير فعال في معالجة المشاكل الإدارية. والثاني هو زيادة أعداد جماعات المصالح والضغط التي أدت الى تشويه العملية الديمقراطية وتراجع قدرة الحكومة على العمل بشكل فعال وكذلك أدى الى نمو المحسوبية بشكل غير مسبوق. الثالث هو أنه في ظل ظروف الاستقطاب الأيديولوجي في بنية الحكم الاتحادي، تحول النظام الأميركي القائم على الضوابط والتوازنات، والمصمم أصلا لمنع ظهور سلطة تنفيذية مهيمنة، تحول الى فيتوقراطية ( وهو عجز حكومي بسبب عدم قدرة المؤسسات على إتخاذ القرارات والعمل بشكل فعال نتيجة للإفراط في أستخدام الفيتو في العمل المؤسساتي). أصبح النظام ديمقراطيا اكثر من اللازم ومنح بعض الجهات القوة للوقوف بوجه التعديلات التي تطال السياسة العامة.
بعدها يتحدث فوكوياما عن إحدى المؤسسات الأميركية ( إدارة الغابات ) وكيف كان إنشاؤها في بداية القرن يعتبر خطوة متقدمة اعتبرت تجسيدا للدولة الأميركية الجديدة حيث قبل إقرار قانون بندلتون في عام 1883، كانت المناصب العامة في الولايات المتحدة تمنح للأحزاب السياسية على أساس المحسوبية، الا أن الكثيرين يعتبرون اليوم إدارة الغابات مؤسسة بيروقراطية عفا عليها الزمن وتكلف دافعي الضرائب مبلغا كبيرا من المال من أجل تحقيق أهداف مشكوك فيها. وطالب هؤلاء بإلغاء هذه المؤسسسة ، خاصة بعد حرائق يلوستون في عام 1988، والتي أتت على ما يقرب من 800 الف فدان من الغابات واستغرق إخمادها عدة أشهر . المفارقة الكبيرة أن الأدارة التي أعتبرت نموذجا لتطور الدولة الأميركية الحديثة، أصبحت اليوم مثالا لتأكل تلك الدولة وتراجعها .
قصة إدارة الغابات في الولايات المتحدة ليست حالة معزولة لكنها نموذج لحالة عامة من التدهور السياسي؛ وقد وثق المتخصصون في الإدارة العامة تدهورا مطردا في أداء الحكومة الأميركية لأكثر من جيل واحد. في نواح كثيرة، تحولت الحكومة الأميركية من هيئة نشيطة وفعالة يعمل بها موظفون أختيروا على أساس الكفاءة والجدارة الى كيان وهن لأيواء قدامى المحاربين . فبدلا من تعيين خريجي الكليات الراقية ، يستحوذ المحاربون القدماء على 45% من الوظائف في الدوائر الفيدرالية ، كما أوصى بذلك الكونجرس.
لماذا تتداعى المؤسسات ؟
في كتابه " النظام السياسي في المجتمعات المتغيرة "، استخدم صموئيل هنتنجتون مصطلح التداعي او الانحطاط السياسي" لتفسير حالة عدم الاستقرار السياسي في العديد من الدول المستقلة حديثا بعد الحرب العالمية الثانية. يقول هنتنجتون أن التحديث الاجتماعي والاقتصادي يسبب مشاكل للنظم السياسية التقليدية، مما أدى إلى تعبئة الفئات الاجتماعية الجديدة التي لم تستطع المؤسسات السياسية القائمة استيعاب مشاركتهم. أن الانحطاط السياسي حدث بسبب عدم قدرة المؤسسات على التكيف مع الظروف المتغيرة. وبالتالي فإن الأنحطاط السياسي وفي نواح كثيرة شرط من شروط التنمية السياسية: يجب أن يتنحى القديم من أجل إفساح المجال للجديد. ولكن التحولات يمكن أن تكون فوضوية وعنيفة للغاية، اذا لم تتوفر الضمانة للمؤسسات السياسية القديمة بالتكيف بشكل مستمر وسلمي مع الظروف الجديدة.
ان هذا النموذج هو نقطة انطلاق جيدة لفهم أوسع للتداعي السياسي بشكل عام. وكما قال هنتنجتون فإن اهم وظيفة من وظائف المؤسسات المستقرة والمهمة والمتكررة في نمط سلوكها هي تسهيل العمل الجماعي. عند عدم وجود مجموعة من القواعد الواضحة والمستقرة نسبيا، فإن على البشر التفاوض من جديد على كل شيء جديد. هذه القواعد تختلف باختلاف المجتمعات والعصور بسبب العمق الثقافي الذي قامت عليه . ولكن القدرة على خلق تلك القواعد والالتزام بها ترتبط جينيا بالدماغ البشري. إن الميل الطبيعي إلى الألتزام بمجموعة من القواعد يؤدي بالمؤسسات الى الأستقرار وهو ما سمح للمجتمعات البشرية تحقيق مستويات غير مسبوقة من التعاون الاجتماعي مقارنة بالكائنات الأخرى.
الا ان الاستقرار الكبير للمؤسسات هو أيضا مصدر للتداعي السياسي. يتم إنشاء المؤسسات لتلبية مطالب ظروف محددة، ولكن الظروف تتغير وتفشل المؤسسات في التكييف . أحد الأسباب هو الجانب المعرفي: يبني الناس نماذج عقلية للكيفية التي يعمل بها العالم ويلتزمون بها، حتى مع وجود الأدلة المتناقضة. سبب آخر هو المصلحة الجماعية : تخلق المؤسسات مجموعة مفضلة من موظفيها تعمل على الحفاظ على سياسة الوضع الراهن ومقاومة محاولات الاصلاح .
من الناحية النظرية، فإن الديمقراطية، وبخاصة الديمقراطية الماديسونية (التي أنشأها جيمس ماديسون وتقوم على تقيد سلطة الأغلبية، الفصل بين السلطات، خلق الضوابط والتوازنات وتأسيس النظام الفيدرالي ) يجب أن تقلل من هيمنة تلك المجموعة من خلال منع ظهور مجموعة أو نخبة مسيطرة تستخدم قوتها السياسية ضد المجاميع الأخرى من خلال توزيع القوة بين مجموعة من مؤسسات الحكومة المتنافسة والسماح للمنافسة بين المصالح المختلفة في بلد كبير ومتنوع. لكن الديمقراطية الماديسونية كثيرا ما تفشل في أداء دورها المعلن . أن النخبة لها في العادة قوة ومعلومات أكبر تستخدمها لحماية مصالحها . إن الجمود الإدراكي أو المعتقدي قد يمنع مجموعة أجتماعية من الدفاع عن مصلحتها الخاصة. على سبيل المثال، في الولايات المتحدة، كثير من الناخبين من الطبقة العاملة يدعمون المرشحين الذين يقدمون الوعود بخفض الضرائب على الأثرياء، على الرغم من أن مثل هذه التخفيضات الضريبية ستحرمهم من العديد من الخدمات الحكومية الهامة.
وعلاوة على ذلك، للمجموعات المختلفة قدرات مختلفة في تنظيم الدفاع عن مصالحها. على سبيل المثال ، منتجو السكر ومزارعو الذرة يتركزون في مناطق جغرافية محددة ويركزون على أسعار منتجاتهم، على عكس المستهلكين أو دافعي الضرائب العاديين، المتفرقين جغرافيا والذين لا تشكل أسعار هذه السلع سوى جزء صغير من ميزانياتهم. أخيرا، ترتبط الديمقراطية الليبرالية عالميا باقتصاديات السوق، والتي تؤدي الى رابحين وخاسرين وتضخيم ما سماه جيمس ماديسون "قدرات مختلفة وغير متكافئة في اكتساب الملكية." هذا النوع من عدم المساواة الاقتصادية ليس سيئا في حد ذاته ، طالما أنه يحفز الابتكار والنمو ويحدث في ظل ظروف من المساواة في الوصول الى النظام الاقتصادي. الا انه يصبح مشكلة كبيرة ، عندما يسعى الرابحون اقتصاديا الى تحويل ثرواتهم إلى نفوذ سياسي غير متكافئ. يمكنهم القيام بذلك عن طريق رشوة المشرع أو الموظف على أساس شيء مقابل شيء ، أو ما هو أكثر ضررا، من خلال تغيير القواعد المؤسساتية لصالحهم - على سبيل المثال، بإغلاق المنافسة في الأسواق التي يهيمنون عليها بالفعل، و بالتالي إمالة الظروف لصالحهم تماما.
وبالتالي فإن التداعي السياسي يحدث عندما تفشل المؤسسات في التكيف مع الظروف الخارجية المتغيرة، سواء بسبب الجمود الفكري أو بسبب قوة النخبة الحاكمة لحماية مواقعهم ومنع التغيير. يمكن للاضمحلال أن يصيب أي نظام سياسي، سواء كان استبداديا أو ديمقراطيا. وبينما يتوفر للنظم السياسية الديمقراطية ، نظريا ، آليات التصحيح الذاتي التي تسمح لها بالإصلاح، الا انها تكون عرضة للاضمحلال من خلال إضفاء الشرعية على أنشطة جماعات المصالح القوية التي يمكن أن تمنع التغيير المطلوب.
هذا هو بالضبط ما حدث ويحدث في الولايات المتحدة في العقود الأخيرة، حيث أصبحت الكثير من مؤسساتها السياسية تعاني من الخلل بشكل متزايد. إن مزيجا من التصلب الفكري وقوة اللاعبين السياسيين المتحصنين يمنعان الإصلاح في تلك المؤسسات. وليس هناك ما يضمن أن الوضع سيتغير كثيرا دون صدمة كبرى للنظام السياسي.
الولايات المتحدة الأميركية.. دولة المحاكم والأحزاب:
أن الديمقراطيات الليبرالية الحديثة لها ثلاثة أجهزة للحكم: السلطة التنفيذية، والسلطة القضائية، والسلطة التشريعية. تستخدم السلطة التنفيذية القوة لفرض القوانين وتنفيذ السياسات؛ و تقوم السلطتان القضائية والتشريعية بتقييد قوة السلطة التنفيذية وتوجهانها صوب تنفيذ الاهداف العامة. وبسبب أنعدام الثقة وعلى مر التاريخ بالحكومة في الولايات المتحدة كانت الأسبقية دائما للسلطتين القضائية والتشريعية على السلطة التنفيذية. قال ستيفن سكورينيك إن السياسة الأميركية في القرن التاسع عشر أمتازت بكونها " دولة محاكم وأحزاب "، قام فيها القضاة وممثلو الاحزاب المنتخبون بأداء دور السلطة التنفيذية. بدأ إنشاء الحكومة المركزية الحديثة القادرة على اداء سلطاتها على كامل الدولة في ثمانيات القرن التاسع عشر ، وارتفع عدد موظفي الخدمة المدنية المؤهلين ببطء من خلال الأتفاق الجديد الذي جاء بعد نصف قرن (الصفقة الجديدة أو الاتفاق الجديد أو نيو ديل (New Deal) هي مجموعة من البرامج الاقتصادية التي أطلقت في الولايات المتحدة بين عامي 1933 و 1936 وتضمنت مراسيم رئاسية أو قوانين قام بإعدادها الكونجرس أثناء الفترة الرئاسية الأولى لفرانكلين روزفلت . جاءت تلك البرامج استجابة للكساد الكبير وتركزت على ما يسميه المؤرخون الألفات الثلاثة وهي: "الإغاثة والإنعاش والإصلاح". وتشير تلك النقاط الثلاث إلى إغاثة العاطلين والفقراء، وإنعاش الاقتصاد إلى مستوياته الطبيعية، وإصلاح النظام المالي لمنع حدوث الكساد مرة أخرى.) . الا ان تلك التغييرات حدثت في وقت متاخر واكثر ترددا مقارنة بفرنسا، وألمانيا، والمملكة المتحدة.
رافق التحول إلى دولة إدارية أكثر حداثة نمو هائل في حجم الحكومة خلال العقود الوسطى من القرن العشرين. لم تتغير المستويات العامة للضرائب والإنفاق الحكومي كثيرا منذ سبعينيات القرن الماضي . على الرغم من رد الفعل العنيف ضد دولة الرفاهية التي بدأت مع انتخابات الرئيس رونالد ريجان في عام 1980، فان وهنا وتداعيا كبيرين شابا أداء تلك الحكومة المتضخمة. ويرجع ذلك إلى حد كبير الى ان الولايات المتحدة عادت من جديد الى "دولة المحاكم والأحزاب ، التي اغتصبت فيها المحاكم والسلطة التشريعية العديد من مهام السلطة التنفيذية، مما حول الحكومة الى هيئة غير متماسكة وغير فعالة.
كانت المحاكم في الولايات المتحدة تقوم بالمهام التي تقوم بها الحكومة في غيرها من الديمقراطيات المتقدمة ، مما أدى إلى انفجار في عدد القضايا المكلفة وإلى بطء اتخاذ القرار، وتنفيذ متناقض للقوانين . في الولايات المتحدة اليوم، أصبحت المحاكم أدوات بديلة لتوسيع الحكومة بدلا من أن تكون قيدا على الحكومة. حدث الشيء نفسه من قبل الكونجرس. أن جماعات المصالح، بعد أن فقدت قدرتها في إفساد المشرعين بشكل مباشر من خلال الرشاوى، وجدت وسيلة أخرى للسيطرة على المشرعين. جماعات المصالح هذه ارست ضغوطا لا تتناسب مع حجمها في المجتمع مما أضر بالضرائب والإنفاق ورفع مستويات العجز الشاملة من خلال قدرتها على التلاعب بالميزانية لصالحها. كما أنها قوضت نوعية الإدارة العامة من خلال الصلاحيات المتعددة الي أجبرت الكونجرس على دعمها.
كلا الظاهرتين، سيطرة المحاكم على الإدارة وانتشار نفوذ جماعات المصالح – أدت الى تقويض الثقة التي لدى الناس بالحكومة. إن انعدام الثقة في الأجهزة التنفيذية يؤدي إلى المطالبة بالمزيد من القيود القضائية على الإدارة مما يقلل من جودة وفعالية الحكومة. في الوقت نفسه، فإن الطلب على الخدمات الحكومية يدفع الكونجرس إلى منح صلاحيات جديدة للسلطة التنفيذية، والتي غالبا ما يكون من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، عليها الوفاء بها . كلتا العمليتين تؤديان إلى الحد من أستقلالية الحكومة مما يودي الى خلق حكومة جامدة غير مبدعة ومتفككة وتحكم بحرفية القوانين لا روحها . والنتيجة هي أزمة التمثيل، وفيها يشعر المواطن العادي أن حكومته المفترض ان تكون ديمقراطية لم تعد تعكس مصالحه وهي تحت سيطرة مجموعة من من النخب ومما يثير السخرية والغرابة السبب الاكبر وراء أزمة التمثيل هو نها بسبب الأصلاحات التي تهدف إلى جعل النظام أكثر ديمقراطية.
إحدى أهم نقاط التحول في تاريخ الولايات المتحدة في القرن العشرين هي قرار المحكمة العليا في العام 1954 في قضية براون و مجلس التعليم و القرار نقض القرار الصادر بحق قضية بليسي ضد فيرغسون في عام 1896، التي أيدت العزل القانوني. كان قرار براون نقطة الانطلاق لحركة الحقوق المدنية، التي نجحت في هدم الحواجز الرسمية أمام المساواة العرقية وضمان حقوق السود والأقليات الأخرى. إن نموذج استخدام المحاكم لفرض قواعد اجتماعية جديدة أستخدم في مناسبات عدة من قبل العديد من الحركات الاجتماعية الأخرى، مثل حماية البيئة وحماية المستهلك وحقوق المرأة . كان المحرك الأساسي في قضية براون هو الرابطة الوطنية لتقدم الملونين، وهي جمعية تطوعية خاصة رفعت دعوى جماعية مجلس التعليم في توبيكا في كنساس نيابة عن مجموعة من الآباء والأمهات وأطفالهم. كان لزاما ان تاتي المبادرة من مجموعات خاصة، لأن القوى المؤيدة للفصل منعت حكومة الولاية والكونجرس الاميركي من التحرك . واصلت الجمعية الضغط حتى اوصلت القضية الى المحكمة العليا. وحدث الشيء نفسه في قانون الحقوق المدنية وقانون حقوق التصويت ، حيث نجحت المبادرات الخاصة في الضغط على المحاكم لأصدار القرارات . مرت الدول الأوروبية بتغييرات مماثلة في الوضع القانوني للأقليات العرقية والإثنية والنساء في النصف الثاني من القرن العشرين. ولكن النتائج ذاتها في فرنسا، وألمانيا، والمملكة المتحدة، لم تتحقق من خلال المحاكم ولكن من خلال وزارة العدل التي عملت نيابة عن الأغلبية البرلمانية. كان الدافع وراء تغيير الحكم التشريعي هو الضغط الشعبي من الفئات الاجتماعية وسائل الإعلام ونفذت الحكومة التغيير وليس أحزاب خاصة تعمل بالتزامن مع نظام العدالة.
إن أصول النهج الأميركي يكمن في التسلسل التاريخي التي تطورت من خلاله السلطات الثلاث . في بلدان مثل فرنسا وألمانيا، جاء القانون اولا ، تلته الدولة العصرية ، وبعدها جاءت الديمقراطية. في الولايات المتحدة في الولايات المتحدة، جاء القانون أولا ، تلته الديمقراطية، وبعدها الدولة الحديثة. على الرغم من أن آخر هذه المؤسسات ظهرت في المرحلة التقدمية ( وهي مرحلة في عشرينيات وثلاثينيات القرن التاسع عشر أمتازت بالنشاط الأجتماعي والإصلاح السياسي) ومرحلة الإنفاق الجديد ، ظلت الدولة الأميركية دائما أضعف وأقل قدرة من نظيراتها الأوروبية أو الآسيوية. والأهم من ذلك أن الثقافة السياسية الأميركية ومنذ التأسيس قامت على أنعدام الثقة بالسلطة التنفيذية.
أدى هذا التاريخ الى ما أسماه روبرت كاغان بالقانونية المناوئة . بينما لعب المحامون دورا كبيرا في الحياة العامة الأمريكية منذ بداية الجمهورية، توسع دورهم بشكل كبير خلال السنوات المضطربة من التغيير الاجتماعي في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين . أصدر الكونجرس أكثر من عشرين قانونا للحقوق المدنية والبيئة في هذه الفترة، غطت قضايا متنوعة من سلامة المنتجات مرورا بصناديق المعاشات التقاعدية والسلامة والصحة المهنية.
لكن ما يجعل هذا النظام غير عملي جدا ليس التشريع في حد ذاته ولكن الطريقة القانونية جدا في التنفيذ. أقر الكونجرس تشكيل عدد من الوكالات الفدرالية الجديدة، مثل لجنة تكافؤ فرص العمل، وكالة حماية البيئة، والسلامة المهنية والإدارة الصحية ، ولكنه لم يكن على استعداد لتفويض هذه الهيئات بحق اتخاذ القرارات وتطبيقها كما هو الحال مع نظيراتها الأوروبية أو اليابانية. بدلا من ذلك سلم الكونجرس الى المحاكم مسئولية مراقبة و تنفيذ القانون . شجع الكونجرس متعمدا توسيع التقاضي الى أبعد حد من أي وقت من قبل الأحزاب ، والتي لم تتأثر كثيرا بالقرارات الصادرة .
على سبيل المثال وصف شيب ملنيك الطريقة التي أعادت فيها المحاكم الاتحادية كتابة الفصل السابع من قانون الحقوق المدنية عام 1964،بانها "تحويل قانون ضعيف يركز في الأساس على التمييز المتعمد الى تفويض جريء للتعويض عن التمييز السابق." فبدلا من توفير أدارة فيدرالية لديها قوة تنفيذ القانون ، يقول شون فرهنك " كانت الخطوة الرئيسية للجمهوريين في مجلس الشيوخ خصخصة وظيفة النيابة العامة. جعلوا من الدعاوى القضائية الخاصة نمطا سائدا في تنفيذ الفصل السابع، مما خلق محركا من شأنه، في السنوات القادمة، يولد أعدادا من القضايا لم يكن يتخيلوها " ارتفعت حالات تنفيذ القانون الخاصة من 100 قضية في نهاية الستينيات الى عشرة الاف قضية في الثمانينيات وأكثر من 22000 في أواخر التسعينيات.
وبالتالي، فان الخلافات التي يمكن حلها في السويد أو اليابان من خلال مشاورات هادئة بين الأطراف المعنية في الحكومة، تحل من خلال المحاكم في الولايات المتحدة. هذا له عدد من العواقب المؤسفة على الإدارة العامة، مما يؤدي حسب تعبير فرهنك، الى عملية يشوبها الغموض والتعقيد الإجرائي، والتكرار، واللانهائية وارتفاع تكاليف المعاملات." أي أن الحكومة أصبحت بعيدة عن التنفيذ لذلك لا يمكن محاسبتها .
إن زيادة عدد القضايا منح بعض الجماعات المستبعدة سابقا الفرصة والسلطة ، ولكنه ينطوي أيضا على تكاليف كبيرة من حيث نوعية السياسة العامة. كاجان يوضح هذا بقضية تنظيف ميناء أوكلاند في ولاية كاليفورنيا. خلال السبعينيات ، بدأ ميناء اوكلاند خططا لتنظيف الميناء تحسبا لسفن الحاويات الجديدة . كان يجب اقرار الخطة من قبل مجموعة من الوكالات الفيدرالية، بما في ذلك سلاح المهندسين بالجيش، ودائرة الأسماك والحياة البرية، ودائرة الثروة السمكية البحرية الوطنية، ووكالة حماية البيئة، فضلا عن نظرائها من دوائر ولاية كاليفورنيا. رفعت العديد من القضايا ضد خطط بديلة للتخلص من المواد السامة المكرية من الميناء ، وتسببت الخطط المتعاقبة بضياع الوقت وارتفاع التكاليف. كان رد فعل وكالة حماية البيئة ازاء هذه القضايا اتخاذ موقف دفاعي بديلا عن اتخاذ الإجراءات اللازمة. وضعت الخطة النهائية للشروع في أعمال الحفر عام 1994، أي بعد عشرين سنة ، بتكلفة نهائية فاقت عدة مرات التقديرات الأصلية. في حين نفذ توسيع مماثل في ميناء روتردام في هولندا في زمن بسيط جدا.
عندما تستخدم المحاكم كأداة للتنفيذ ، تحولت من أداة مقيدة للحكومة الى مجموعة من الآليات التي وسعت نطاق الحكومة بشكل كبير. على سبيل المثال، انتشرت برامج التربية الخاصة للأطفال المعوقين من حيث الحجم والتكلفة منذ منتصف السبعينيات نتيجة لتفويض واسع من الكونجرس في 1974. بني التفويض على نتائج سابقة توصلت اليها محاكم المقاطعات الفدرالية أن الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة لهم حقوق، وهي أصعب بكثير من مجرد مصالح تقايض بسلع أخرى أو تكون خاضعة لمعايير التكلفة والعائد.
الحرية والامتيازات
إن النهج القانوني اللامركزي للإدارة يتوافق مع ميزة بارزة أخرى في النظام السياسي الأميركي وهي انفتاحه امام تأثير جماعات المصالح. وهذه الجماعات تستطيع تحقيق ما تريد بواسطة الحكومة مباشرة. ولكن لديهم وسيلة أكثر فعالية وقوة وهي الكونجرس.
باستثناء بعض السفراء والمناصب العليا في الدوائر الحكومية، فإن الأحزاب السياسية الأميركية لم تعد قادرة على توزيع المناصب الحكومية إلى مؤيديها المخلصين. لكن مقايضة النفوذ السياسي بالمال حدث من خلال الباب الخلفي، بشكل قانوني جدا ومن الصعب القضاء عليه . تعرف الرشوة غير القانونية في القانون الاميركي بانها صفقة يقبل فيها السياسي او الحزب الخاص على نحو واضح شيء مقابل شيء آخر . يبدو أن القانون لا يغطي ما يسميه علماء الأحياء الإيثار المتبادل، أو ما يسميه عالم الأنثروبولوجيا بتبادل الهدايا. في الإيثار المتبادل، يقدم شخص منفعة لاخر دون توقع لمقابل ، واذا قدمت هدية لأحد وطالبته بهدية سيشعر بالاهانة ويرفض الهدية . عند تبادل الهدايا، لا يتحمل المتلقي اي عبء قانوني يجبره على تقديم حاجة أو خدمة وإنما هو التزام أخلاقي برد الجميل لاحقا بأي صورة من الصور .وهكذا تجري الأمور في جماعات الضغط الأميركية .
إن اختيار ذوي القربى والإيثار المتبادل هما ظاهرتان أجتماعيتان معروفتان .تضع الدول الحديثة القواعد المشددة والحوافز للتغلب على محاباة العائلة والأصدقاء، على سبيل المثال امتحانات الخدمة المدنية، و لوائح تضارب المصالح وقوانين محاربة الفساد و الرشوة .الا أن البشر ينجحون دائما في التغلب على تلك القوانين . الساسة لا يكافئون عادة أفراد أسرهم بالوظائف. ما يفعلونه هو الانخراط في السلوك السيئ نيابة عن أسرهم، وأخذ المال من جماعات المصالح وجماعات الضغط في امتيازات من أجل التأكد من أن أطفالهم يستطيعون الذهاب إلى المدارس والكليات الممتازة ، على سبيل المثال. ان الإيثار المتبادل متفشي في واشنطن، وهو القناة الرئيسية التي من خلالها نجحت جماعات المصالح في أفساد الحكومة . لورانس ليسيغ يشير " أن جماعات المصالح قادرة على التأثير على أعضاء الكونجرس ببساطة بالشكل القانوني من خلال التبرعات ورد الجميل . وأحيانا، يبادر المشرع بأرسال الهدية الى جماعات الضغط متوقعا الرد بعد أن يترك منصبه . كانت كثرة جماعات المصالح وجماعات الضغط في واشنطن مرعبة ، مع زيادة عدد الشركات التي لديها جماعات الضغط المسجلة من 175 في عام 1971 إلى ما يقرب من 2500 في الثمانينيات ثم اصبح الرقم 13700 ينفقون 3.5 مليار دولار في 2009 . يقول بعض المختصين أن هذه الأموال والأنشطة لم تحدث تغيرات مهمة في السياسة التي تطالب بها جماعات الضغط، وهو أمر يثير الأستغراب . في كثير من الأحيان، لا ينصب تأثير جماعات المصالح وجماعات الضغط على التحفيز لتشريع سياسات جديدة ولكن لجعل التشريعات الحالية أسوأ بكثير عما هو علية الان . كانت العملية التشريعية في الولايات المتحدة مبعثرة دائما بالمقارنة مع الدول ذات النظم البرلمانية والأحزاب . إن كثرة لجان الكونجرس التي تتداخل في صلاحياتها يؤدي غالبا إلى التضارب في العمل . إن هذه العملية التشريعية اللامركزية تنتج قوانين غير متماسكة وتشجع جماعات المصالح على التدخل ، وهذه الجماعات أن لم تكن قوية بما يكفي لتغير القوانين فانها على الأقل ستكون قادرة على حماية مصالحها الخاصة.
على سبيل المثال، تحول مشروع قانون الرعاية الصحية الذي قدمته إدارة الرئيس أوباما في عام 2010 إلى مسخ خلال العملية التشريعية نتيجة للتنازلات والأتفاقات الجانبية التي كان لا بد منها لتحفيز اهتمام جماعات المصالح من أطباء وشركات التأمين وصناعة الادوية . في حالات أخرى، تتدخل جماعات المصالح لمنع صدور تشريعات تضر بمصالحهم . ان أبسط أستجابة وأكثرها فعالية للأزمة المالية لعام 2008 ولعمليات الإنقاذ للبنوك الكبيرة كانت ستكون اصدار قانون لتحديد حجم المؤسسات المالية أو قانون يشدد على توفر رأس المال. لو كانت حدود الحجم موجودة، كان يمكن للبنوك التي تخاطر بشكل احمق أن تفلس دون إحداث أزمة شاملة وتتطلب خطة انقاذ حكومية. كان من الممكن كتابة قانون على شاكلة قانون جلاس ستيجال الذي صدر في فترة الكساد الاقتصادي الكبير وفي ورقتين فقط. ولكن هذا الاحتمال لم يخطر على بال أعضاء الكونجرس أثناء مناقشة موضوع التنظيم المالي، وظهر بديلا عن ذلك قانون دود-فرانك لإصلاح وول ستريت وقانون حماية المستهلك في مئات من الصفحات التي حوت العديد من التشريعات التي القت اعباء كبيرة على البنوك والمستهلكين .وبدلا من تحديد حجم البنوك، أنشأ مجلس رقابة الاستقرار المالي، الذي أوكلت إليه مهمة تقييم وإدارة المؤسسات التي تشكل المخاطر بشكل منتظم ، وهي خطوة في النهاية لا تحل مشكلة البنوك الكبيرة .على الرغم من أن أحدا لم يجد دليلا يربط تبرعات البنوك للحملات الانتخابية مع أصوات معينة لأعضاء محددين من الكونجرس ، الا اننا نستطيع القول أن جماعات ضغط البنوك كان لها تأثير قوي في منع وضع حل يقوم على تقليص حجم البنوك الكبيرة و مراقبة توفر راس المال .
يعبر المواطن العادي الأميركي عن ازدرائه لتأثير جماعات المصالح والمال على الكونغرس. إن الحديث عن تخريب العملية الديمقراطية أو اختطافها يشغل جانب واسع من الطيف السياسي . يعتقد حزب الشاي الجمهوري والليبراليين الديمقراطيين أن جماعات المصالح تمارس ضغطا كبيرا غير مبرر ، ونتيجة لذلك، تظهر استطلاعات الرأي أن الثقة بالكونجرس قد أنخفضت إلى مستويات متدنية جدا . قال ألكسيس دي توكفيل متحدثا عن النخب القديمة في فرنسا قبل الثورة، أنهم خلطوا الحرية بالامتيازات ، أي أنهم سعوا للحصول على الحماية من سلطة الدولة التي يطبق عليهم وحدهم وليس بشكل عام على جميع المواطنين. في الولايات المتحدة اليوم ، تتحدث النخب السياسية لغة الحرية ولكنها سعيدة جدا بالحصول على الامتيازات .
تحدث الخبير الاقتصادي مانكور أولسون عن الآثار الضارة لجماعات المصالح على النمو الاقتصادي والديمقراطية في كتابه " صعود وهبوط الأمم ". من خلال التركيز على التدهور الاقتصادي للمملكة المتحدة خلال القرن العشرين، يقول اولسون " في أوقات السلم والاستقرار، تميل الديمقراطيات الى زيادة جماعات المصالح. وبدلا من متابعة الأنشطة الاقتصادية التي تخلق الثروة، تستخدم هذه الجماعات النظام السياسي للحصول على فوائد خاصة . هذا الحديث السلبي حول جماعات المصالح يتناقض بشكل كبير مع حديث أخر أيجابي حول فوائد المجتمع المدني، أو الجمعيات التطوعية، لصحة الديمقراطية. قال توكفيل في كتابه الديمقراطية في أمريكا أن الأميركيين كان لهم ميل قوي لتنظيم الجمعيات الأهلية، لانها حسب رأيه كانت المدارس للديمقراطية لأنها تدرس الأفراد مهارات العمل الجماعي من اجل المصلحة العامة . إن الفرد لوحده يكون ضعيفا. الا ان التجمع لغايات مشتركة يمكن الافراد من عمل الكثير ، ومنه مقاومة الحكومات المستبدة . روبرت بوتنام استخدم المنظور نفسه في أواخر القرن العشرين ليقول ان الميل ذاته كان جيدا وسئيا على الديمقراطية . تحدث ماديسون عن فوائد جماعات المصالح. قال ان تنوع الجماعات في بلد كبير سيكون كافيا لمنع هيمنة أية واحدة من تلك الجماعات . قال تيودورلوي أن النظرية السياسية الجماعية أو التعددية في منتصف القرن العشرين تتفق مع ما قاله ماديسون في ان تنوع جماعات المصالح ستتفاعل بشكل جماعي لتحقيق المصلحة العامة، مثلما المنافسة في السوق الحرة تحقق المنفعة العامة من خلال ملاحقة الأفراد لمصالحهم الذاتية. لم تكن هناك أسباب تدفع الحكومة لتنظيم هذه العملية، لعدم وجود سلطة أعلى تستطيع أن تحدد المصلحة العامة من الاهتمامات الضيقة لجماعات المصالح. قرارات المحكمة العليا في قضية باكلي ضد فاليو والمواطنين التي ألغت بعض الحدود في انفاق الجماعات في الحملات الانتخابية ، اكدت التفسير الأيجابي لما أسماه لوي ليبرالية مجموعات المصالح.
كيف يمكن التوفيق بين هذه المواقف المتناقضة ؟ إن الطريقة الأكثر وضوحا هي محاولة التمييز بين منظمات المجتمع المدني الجيدة ومجموعات المصالح السيئة . ان منظمات المجتمع المدني الجيدة مدفوعة بالمشاعر، ومجموعات المصالح السيئة مدفوعة بالمصالح . قد تكون منظمة المجتمع المدني منظمة غير ربحية مثل تلك التي تسعى لبناء مساكن للفقراء أو تلك التي تطالب بتشريع سياسة تصب في الصالح العام . قد تكون مجموعة المصالح مجموعة ضغط تمثل صناعة التبغ أو البنوك الكبيرة، تهدف الى زيادة أرباح الشركات الداعمة لها . لكن هذا الفارق لا يصمد كثيرا ، لأن أعلان المجموعة من أنها تعمل من أجل المصلحة العامة لا يعني بالضرورة أنها تفعل ذلك . على سبيل المثال، أن مطالبة مجموعة طبية لديها علاقات عامة جيدة بالمزيد من الأموال لمكافحة مرض معين قد يؤثر على سلم الأولويات العامة لانه سيؤدي الى تحويل الأموال من الأمراض الأكثر انتشارا وضررا . كما ان جماعة معينة تهتم بمصالحها الخاصة لا يعني بالضرورة ان مطالبها غير شرعية أو يجب ان لا تمثل في النظام السياسي.
إن ابرز الحجج ضد كثرة جماعات المصالح ترتبط بالتمثيل المشوه. قال شاتشنايدر في كتابة " الشعب شبه المسيطر" أن الممارسة الفعلية للديمقراطية في الولايات المتحدة ليس لها علاقة بصورتها الشائعة في أنها حكومة "للشعب، من الشعب، من أجل الشعب"، وأشار إلى أن النتائج السياسية نادرا ما تتوافق مع أراء الأغلبية ، أن هناك مستوى منخفضا جدا من المشاركة والوعي السياسي، وأن القرارات الفعلية تتخذها جماعات مصالح صغيرة ." وهو يتوافق مع ما قاله أولسون، " ليس كل المجموعات قادرة بالمستوى نفسه على التجمع من اجل الصالح العام . ان جماعات المصالح التي تتسابق لجذب أنتباه الكونجرس لا تمثل الشعب الأمريكي كله وأنما تمثل الشرائح الأكثر تنظيما والاكثر يسرا في المجتمع الأميركي. هذا سيصب ضد مصالح تلك الشرائح غير المنظمة وهم في الغالب من الفقراء، وغير المتعلمين، أو المهمشين .
ظهور الفيتوقراطية
يحمي الدستور الأميركي الحريات الفردية من خلال نظام معقد من الضوابط والتوازنات التي وضعت عمدا من قبل المؤسسين لتقييد سلطة الدولة. كانت الريبة الشديدة من الحكومة والاعتماد على الأنشطة العفوية للأفراد كانت علامات فارقة للسياسة الأميركية منذ ذلك الحين.
أشار هنتنجتون الى ان الصلاحيات، في النظام الدستوري الأميركي، ليست موزعة وظيفيا عى السلطات بل انها تتكرر بينهم ، مما يؤدي ان تسلب سلطة بعض صلاحيات سلطة اخرى او تتصارعان على الهيمنة .إن الفيدرالية في كثير من الأحيان لا تفوض بشكل واضح و جلي صلاحيات الى دوائر محددة من الحكومة. بدلا من ذلك، فإنها تمنح الصلاحيات ذاتها الى دوائر عديدة حكومية من مستويات متعددة، وتمنح صلاحيات فيدرالية او على مستوى الولاية او المنطقة حول الموضوع نفسه. تحت هذا النظام من السلطة المتكررة وغير المركزية ، فان دوائر حكومية قادرة و بسهولة على منع بعضها البعض. وبالتزامن مع قوننة أو قوضننة ( جعلها قضائية أو قانونية ) السياسة والتأثير الكبير لجماعات المصالح، فأن النتيجة هي شكل غير متوازن من الحكومة يقوض آفاق العمل الجماعي الضروري – والذي يمكن تسميته نظام اللاهيمنة ( نظام غير فعال يعاني الجمود المؤسساتي والقطبية السياسية ).
لقد أصبح الحزبان السياسيان المهيمنان في الولايات المتحدة اكثر استقطابا من الناحية الأيديولوجية من أي وقت مضى منذ أواخر القرن التاسع عشر. كان هناك فرز جغرافي حزبي، حيث تحرك الجنوب نظريا من الديمقراطيين الى الجمهوريين ، وتلاشى الجمهوريون نظريا في شمال شرق البلاد. منذ انهيار ائتلاف الصفقة الجديدة ونهاية هيمنة الديمقراطيين في الكونجرس في ثمانينيات القرن الماضي، أصبح الحزبان اكثر توازنا و تبادلوا مرارا السيطرة على الرئاسة والكونغرس. هذه المنافسة الحزبية، إلى جانب المبادئ الحرة لتمويل الحملات الانتخابية غذيا سباق محموم للتمويل وقوض فرص التوافق بينهما . وقد زاد الطرفان أيضا التوازن من خلال سيطرتها، في معظم الولايات على إعادة ترسيم الدوائر الانتخابية، مما يسمح لهما لإعادة صوغ الدوائر الانتخابية لمنحهما فرصة اكبر في أعادة الأنتخاب . أن انتشار الأنتخابات التمهيدية، في الوقت نفسه، وضع اختيار مرشحي الحزب في أيدي عدد قليل نسبيا من النشطاء الذين يشاركون في هذه الانتخابات.
إن الاستقطاب ليس نهاية القصة. يفترض أن الصراع لا ينتهي في نظم السياسية الديمقراطية ؛ بدلا من ذلك، من المفترض أن يصل الطرفان الى حل سلمي وتخفيف حدة الصراع من خلال قواعد متفق عليها. والنظام السياسي الجيد هو الذي يشجع ظهور نتائج سياسية تمثل مصالح اكبر جزء ممكن من السكان . ولكن عندما يواجه الأستقطاب النظام السياسي الأميركي ( القائم على الديمقراطية الماديسونية والمراقبة والتوازن ) ستكون النتيجة مدمرة .
يجب على الديمقراطيات موازنة الحاجة إلى منح فرص كاملة للجميع للمشاركة السياسية مع الحاجة لأنجاز جميع الأمور . من الناحية المثالية، تتخذ القرارات الديمقراطية بالأجماع وبرضا جميع أفراد المجتمع . هذا هو ما يحدث عادة في الأسر، وفي المجتمعات القبلية . الا ان كفاءة اتخاذ القرارات بتوافق الآراء تتدهور بسرعة مع كبر المجموعات و تنوعها . وهكذا بالنسبة لمعظم المجموعات، يتم اتخاذ القرارات ليس بتوافق جميع الآراء ولكن بموافقة شرائح معينة من السكان. وكلما كان حجم المجموعة الضرورية لاتخاذ قرار اكثر صغرا ، كان اتخاذ القرار أكثر سهولة وكفاءة ، ولكن على حساب شراء المناصب على المدى الطويل.
حتى أنظمة حكم الأغلبية تحيد عن الديمقراطية المثالية، طالما انها قد تحرم ما يقرب نصف عدد السكان. في الواقع، في ظل التعددية، أو في ظل نظام الأنتخابات التي يفوز فيها من يحصل على عدد أصوات اكثر ، يمكن لأقلية قليلة من الناخبين أن تتخذ قرارات نيابة عن المجتمع. تعتمد هذه الأنظمة ليس على أساس العدالة بل لانها وسيلة تسمح لأتخاذ القرارات . تخلق الديمقراطيات اليات اخرى ، مثل قواعد إغلاق النقاش (تسمح بايقاف النقاش)، وقواعد الحد من قدرة المشرعين على تقديم التعديلات، ويسمى قواعد الارتكاسية، والتي تسمح باتخاذ القرارات في حالة عدم توصل المشرعين الى اتفاق.
إن منح الصلاحيات لمختلف اللاعبين السياسيين سيمكنهم من منع النظام من اتخاذ القرارات . في النظام السياسي الأميركي الكثير من هذه الضوابط والتوازنات، أو ما يسميه علماء السياسة "نقاط فيتو"، مقارنة بالديمقراطيات الأخرى المعاصرة، مما يرفع كلفة العمل الجماعي، وفي بعض الحالات تجعله مستحيلا . في فترات سابقة من تاريخ الولايات المتحدة، عندما كان هذا الحزب أو ذاك هو المسيطر ، كان دور النظام ينصب على أجبار الأغلبية على إيلاء مزيد من الاهتمام إلى الأقليات. لكن في ظل نظام حزبي أكثر توازنا وتنافسية بدأ بالظهور في ثمانينيات القرن الماضي، وصل النظام الى طريق مسدود.
في الولايات المتحدة، للكونجرس السلطة الأولى على الميزانية. يتقدم رئيس الدولة بمشروع الميزانية الذي قد لا يكون الميزانية التي ستظهر لاحقا .ليس للحكومة صلاحيات رسمية على الميزانية، وانما هي واحدة من جماعات الضغط لإقرار الميزانية التي تقدم بها الرئيس .تمر الميزانية بمجموعة معقدة من اللجان على مدى أشهر، وما يظهر أخيرا للتصديق عليه من قبل مجلسي الكونجرس هي نتاج عدد من الصفقات مع عدد لا يحصى من الافراد غير الحزبيين لتأمين دعمهم . إن هذه الطريقة في أقرار الميزانية تمنح جماعات الضغط وجماعات المصالح فرص كبيرة للمارسة تأثيرها . في معظم الأنظمة البرلمانية الأوروبية، فإنه لا معنى لمجموعة المصالح الضغط على عضو البرلمان ، لأن قواعد الانضباط الحزبي لا تمنح ذلك العضو الدور الكبير في التأثير على موقف قيادة الحزب. يستطيع رئيس لجنة قوي في الولايات المتحدة، ان يلعب دورا كبيرا لتعديل التشريعات، وبالتالي يصبح هدفا لجماعات المصالح والضغط .
إن احد اهم التحديات التي تواجه الديمقراطيات المتقدمة هو مشكلة عدم ثبات الالتزامات القائمة بدولة الرفاهية . تم التفاوض على العقود الاجتماعية الأساسية لدول الرفاهية المعاصرة القائمة منذ عدة أجيال مضت، عندما كانت معدلات المواليد مرتفعة، كانت معدلات العمر أقصر، ومعدلات النمو الاقتصادي قوية جدا . ان وفرة التمويل مكن جميع الديمقراطيات الحديثة من تأجيل المشكلة.
إن الميزانية ليست الجانب الوحيد الذي يجري التعامل معه بشكل مختلف في الولايات المتحدة. في الأنظمة البرلمانية، وضعت السلطة التنفيذية قدرا كبيرا من التشريعات . الوزارات مسؤولة أمام البرلمان، وبالتالي في نهاية المطاف مسؤولة امام الناخبين، من خلال الوزراء الذين يقودون الوزارات، ولكن هذا النوع من النظام الهرمي يمكن أن يتبنى نظرة استراتيجية بعيدة المدى لينتج تشريعات أكثر تماسكا.
مثل هذا النظام غريب تماما في الثقافة السياسية في واشنطن، حيث يحرص الكونجرس على حقه في التشريع – مما تسبب في ظهور حكومة كبيرة لا يمكن محاسبتها .أن لجان الكونجرس المتعددة في كثير من الأحيان تنتج برامج مكررة ومتداخلة أو تنشأ عدة وكالات لأغراض مماثلة. وزارة الدفاع الأميركية، على سبيل المثال، تعمل تحت 500 تفويض لتقديم تقرير سنوي إلى الكونجرس حول مختلف القضايا. هذه القضايا لا تنتهي أبدا، وتنفيذها يستهلك كميات هائلة من الوقت والطاقة. وقد أنشأ الكونجرس نحو 50 برنامج مستقل لإعادة تدريب العمال و 82 مشروع مستقل لتحسين نوعية المعلمين. وينقسم تنظيم القطاع المالي بين الاحتياطي الفيدرالي ووزارة الخزانة، لجنة الاوراق المالية والبورصات، والمؤسسة الاتحادية للتأمين على الودائع، وإدارة أتحاد الائتمان الوطنية ، لجنة تداول السلع الآجلة، وكالة تمويل الإسكان الاتحادية، ومجموعة كبيرة من المدعين العامين . ويشرف على الوكالات الفدرالية لجان الكونجرس المختلفة، وهم غير مستعدون للتخلي عن نفوذهم إلى نظام واحد أكثر تماسكا.
الفيتوقراطية هي نصف القصة في النظام السياسي في الولايات المتحدة. في جوانب أخرى، يمنح الكونجرس صلاحيات ضخمة للسلطة التنفيذية، والتي تسمح لهذه الأخيرة بالعمل بسرعة وأحيانا بقليل من المساءلة. وتشمل هذه الصلاحيات مجلس الاحتياطي الاتحادي، وكالات الاستخبارات والجيش، ومجموعة كبيرة من اللجان شبه المستقلة والهيئات التنظيمية التي تشكل معا الدولة الإدارية الضخمة التي برزت خلال الحقبة التقدمية والصفقة الجديدة.
بشكل عام يقدم النظام السياسي الأميركي صورة معقدة حيث تمنع فيه الضوابط والتوازنات الاغلبية من اتخاذ القرارات، ولكن هناك أيضا حالات عديدة منحت فيها صلاحيات خطيرة لمؤسسات لا يمكن مسآلتها .الا ان المشكلة الأكبر هي أن هذا التفويض للصلاحيات لا يكون دائما واضحا . فشل الكونجرس في كثير من الأحيان في واجبه في توفير التوجيه التشريعي الواضح لأداء مهام الوكالات ، وترك الأمر للوكالة نفسها في كتابة نصوص التفويض . وعندما يفعل ذلك كان يأمل في ان تتدخل المحاكم كلما أقتضى الأمر لتصحيح التجاوزات. وبالتالي تتشابك الفيتوكراسية وتفويض الصلاحيات.
في النظام البرلماني، يسيطر حزب الأغلبية أو الائتلاف على الحكومة مباشرة. يصبح أعضاء البرلمان وزراء لديهم السلطة لتغيير قواعد الأدارات التي يديرونها .يمكن حظر الأنظمة البرلمانية في حالة تشظي الأحزاب و كانت الأئتلافات غير مستقرة، كما كان الحال كثيرا في إيطاليا. ولكن عند توفر الأغلبية البرلمانية هناك تفويض مباشر للوكالات التنفيذية .
مثل هذا التفويض صعب التحقيق في النظام الرئاسي. ليس امام المجلس التشريعي الضعيف سوى نقل المزيد من الصلاحيات إلى السلطة التنفيذية المنتخبة . في ظل حكومة منقسمة، عندما يكون أحد الحزبين المسيطر على مجلس الشيوخ او النواب أو كليهما يختلف عن المسيطر على الرئاسة ، فإن تقوية الحكومة على حساب الكونجرس تصبح مسألة ترتبط بسياسة الأحزاب . ان تفويض المزيد من الصلاحيات للرئيس باراك أوباما هو آخر شيء يفكر به الجمهوريون في مجلس النواب اليوم.
تبدو الصورة مختلفة بعض الشيء بالنسبة للاتحاد الأوروبي. شهدت العقود الأخيرة زيادة كبيرة في عدد جماعات الضغط في أوروبا. في هذه الأيام تعمل الشركات والجمعيات التجارية، وجماعات حقوق البيئية والمستهلك وحقوق العمل تعمل جميعها على المستويين الوطني وعلى مستوى الاتحاد الأوروبي على حد سواء. ومع التحول من وضع السياسات بعيدا عن العواصم الوطنية إلى بروكسل، فان النظام الأوروبي بدأ يشبه الولايات المتحدة بطرق محبطة. قد تسمح الأنظمة البرلمانية الفردية في أوروبا بنقاط فيتو أقل مقارنة بنظام الولايات المتحدة القائم على الضوابط والتوازنات، ولكن مع العمل على الصعيد الاوربي الكبير ، تم إضافة العديد من نقاط الفيتو . هذا يعني أن جماعات المصالح الأوروبية قادرة على نحو متزايد بالتلاعب ، إذا لم يتمكنوا من الحصول على معاملة تفضيلية على المستوى الوطني، فإنها يمكن أن تذهب إلى بروكسل، أو العكس بالعكس. لقد أمرك (جعله أميركيا) نمو الاتحاد الأوروبي أوروبا في مسالة دور القضاء. على الرغم من أن القضاة الأوروبية اكثر تحفظا من نظرائهم الأمريكيين في التدخل في الأمور السياسية، الا الهيكل الجديد للقضاء الأوروبي، بمستوياته المتعددة والمتداخلة، قد زاد من نقاط الفيتو القضائية في النظام.
لقد تهالك النظام السياسي الأميركي مع مرور الوقت لأن نظاما للضوابط والتوازنات التقليدي قد توسع وزاد جمودا. في جو من الاستقطاب السياسي الحاد، فإن هذا النظام اللامركزي هو أقل قدرة على تمثيل مصالح الأغلبية ويعطي الدور الاكبر لآراء جماعات المصالح والمنظمات الناشطة التي لا تضيف شيئا الى الشعب الاميركي.
هذه ليست المرة الأولى التي يستقطب فيها النظام السياسي الأميركي ويصبح عاجزا . في العقود الوسطى من القرن التاسع عشر، لم يكن النظام قادرا على حسم امر مد العبودية الى الاقاليم ، وفي العقود الأخيرة من ذلك القرن، لم يستطع أن يقرر ما إذا كانت البلاد مجتمعا زراعيا او صناعيا . كان نظام الضوابط والتوازنات ونظام الاستقطاب الحزبي اللذان ظهرا في القرن التاسع عشر مناسبين لبلد زراعي معزول . الا انه لم يتمكن من حل الأزمة السياسية الحادة التي ظهرت بسبب مسألة تمديد العبودية، كما انه فشل في التعامل مع الاقتصاد القاري الذي ازداد ترابطا مع وسائل النقل والاتصالات الجديدة .
اليوم، تجد الولايات المتحدة نفسها من جديد محاصرة من قبل مؤسساتها السياسية. لأن الأميركيين لا يثقون بالحكومة، فانهم غير راغبين على منح تلك الحكومة الصلاحيات لاتخاذ القرارات، كما يحدث في الديمقراطيات الأخرى. بدلا من ذلك، يشرع الكونجرس قوانين معقدة تحد من استقلالية الحكومة مما جعل من عملية صنع القرار بطيئا ومكلفا. عندها لن يكون اداء الحكومة جيدا مما يؤكد عدم ثقة الناس بها. في ظل هذه الظروف، يتردد الأميركيون في دفع ضرائب أعلى، لأنهم يعتقدون ان الحكومة سوف تهدرها . ولكن من موارد مناسبة فأن الحكومة لا يمكن أن تعمل بشكل صحيح، أنها دائرة لاتنتهي .
هنالك عقبتان بطريق القضاء على التداعي السياسي الأولى سياسية . العديد من اللاعبين السياسيين في الولايات المتحدة يعترفون بأن النظام لا يعمل بشكل جيد ولكن مع ذلك لديهم مصالح قوية في إبقاء الأمور كما هي. لا يمتلك الحزبان الحوافز عن عدم الاعتماد على اموال جماعات المصالح والضغط ، وجماعات المصالح لا تريد نظاما لا يشتري فيه المال النفوذ . كما حدث في ثمانينيات القرن التاسع عشر ، يجب أن يظهر ائتلاف للأصلاح يوحد الجماعات دون حصة في النظام الحالي. ولكن تحقيق العمل الجماعي بين هذه الجماعات صعب جدا؛ أنهم بحاجة إلى قيادة وأجندة واضحة، لا من تلك الموجودة حاليا.
المشكلة الثانية هي مسألة الأفكار. وكان الحل الأميركي التقليدي للخلل الوظيفي الحكومي يقضي توسيع المشاركة الديمقراطية والشفافية. حدث هذا على المستوى الوطني في سبعينيات القرن الماضي ، على سبيل المثال، عندما طلب الإصلاحيون بانتخابات تمهيدية أكثر انفتاحا، وزيادة وصول المواطن إلى المحاكم، والتغطية الإعلامية على مدار الساعة للكونجرس، وحتى ولايات مثل كاليفورنيا وسعت استخدامها للمبادرات الانتخابية للالتفاف على الحكومات التي لا تستجيب . ولكن كما أشار بروس كين فإن معظم المواطنين ليس لديهم الوقت او الخلفية، ولا الميل إلى التعامل مع قضايا السياسة العامة المعقدة؛ إن توسيع المشاركة قد مهد الطريق أمام جماعات منظمة تنظيما جيدا من النشطاء لكسب المزيد من السلطة. إن الحل الواضح لهذه المشكلة هو وقف الإصلاحات الديمقراطية المستقبلية . لكن من يستطيع القول بالحاجة الى القليل من المشاركة والشفافية .
الخلاصة محبطة بناء على المرض السياسي المتأزم في البلاد وبناء على قلة فرص الإصلاح البناء ، فإن تداعي السياسة الأميركية ربما يستمر حتى تأتي بعض الصدمات الخارجية لتحفيز ائتلاف حقيقي للإصلاح ودفعه إلى العمل.