خلال جولتي الأفريقيه كان التأثير العماني في شرق أفريقيا ماثلا للعيان، حيث سبق أن أشرت ذلك في أكثر من تقرير بعدما أسهبت عن الموروثات والعادات والتقاليد العمانية في جزر هذه القاره وانتشارها في المجتمع الأفريقي، وهو مبعث فخر لنا في ذلك.
أما في هذا التقرير سأسهب عن زيارتي إلى قصر (بيت العجائب) في زنجبار والذي أسميته فخر العرب ولم لا ؟ وهو الذي شهد أحداثا كثيره على مر التاريخ، هذا القصر الذي أبقت عليه الأيام كي يكون فخرا لنا على مر السنين، وهل له مثيل كي لا نفخر به سوى ما خلفه أولئك العظام من الأجداد؟، هذا القصر الذي سأحدثكم عنه ولا أراني قد حدثتكم عنه بشيء قبل ذلك بعد ما بت معجبا بعظمة وحسن بنائه.
كنت حينها في جزيرة (زنجبار) بعد ما أخذني هذا التيه من المشي من مكان يقال له (درجاني) حيث بت أمشي مترنما وسط فصول من الأزمنه ووسط أزقه نحو أبنيه قد طواها الزمن، هذه الأزمنه نحو مبان وهي عامره بساكنيها حتى اليوم وبعض منها أصبح اليوم حديثا يروى بعد ما كان يقطنها عرب عمان ومنهم من هجرها عند عودتهم إلى أرض الوطن والتي لم يتبق منها سوى تلك الأطلال من الأنقاض التي فيها ما يبعث على الآسى لولا يد الحفاظ التي صانتها من عاديات الزمن ومن أثر العيون في وجه الأرض لما بقي منها شيئ، هذا المشي بين أزقة هذه البيوت بلغ بي عند أحد الأبراج لقلعه محاذية نحو قصر مهيب وفخم وهو في نظري في طليعة الأنصاب التي أقيمت في ذلك الوقت وتخليدا لذكرى أبطالها العظام وهم من أخرجوه بتلك الجودة والمتانة والروعة، إن ذلك بالطبع بات مبعثا للفخر والإكبار حيث بنى العظماء قصورهم الفخمه مقابل الشواطئ (كبيت المرهوبي وقصر المتوني وبيت الراس) وغيرها حيث دائما ما تقع العين بين الخمائل القريبة من هذه القصور بعدما جعلت على أكمل ترتيب.
إن هذا القصر عرف باسم (بيت العجائب) وهو بالطبع بات أعجوبه في زمانه وهو بمثابة القصر الرسمي للسلطان (برغش بن سعيد بن سلطان) والذي تم بناؤه عام 1883 حيث يعتبر الابن السابع للسلطان سعيد بن سلطان بعد ما تولى الحكم في أكتوبر عام 1870 م والذي ينسب له الفضل في بناء وتطوير البنى التحتيه وتطوير شبكات المياه والمباني الحكوميه الضخمه ومن ضمنها هذا القصر حيث يمكن رؤية اسم من قام بتشييد القصر على لوحة معدنيه عند مدخله.
كنت حينها أحدق بين أرجاء هذا القصر المهيب بعد ما دهنت أركانه وأعمدته باللون الأبيض حيث ألفته قصرا باهيا مهيبا بشرفاته ذات الأقواس البديعة وأبوابه الفخمه ذات النقوش الجميله وهو بات من آيات الفن الرفيع، كما أن المبنى ليس له نظير في سائر (زنجبار) وفي أفريقيا قاطبه وهو آية في الجمال والمكان والسعة، هذا المبنى بتاريخه الذي طواه كان لمجد رجف به الزمان وذلك كي يقف بنو الإنسان دهشا من عظم المواد التي جلبت وبنيت به هذا القصر.
أمام هذا القصر وقفت وقفه مستغرقا في تفكير ومتأملا هذا البناء ببنائه الشامخ الرفيع الذي بني خلال تلك الحقبه الزمنيه الفاصله من التاريخ حيث ما لبثت أن لمعت لمعة من النور في عينيّ بعد ما سرت في داخلي نشوه نحو معايشة تلك الحياه الأزليه لحياة الأسلاف.
هذا الوقوف استرجعت فيه الذكريات حيث يستوقف الفكر بني الإنسان ويحير النظر كيف لهذا البناء أن يصمد منذ ذلك الدهر إلى هذا اليوم وبناء هذا اليوم لا يكاد أن يصمد لفترة من الزمن؟ ، هذا القصر وكأنما بات يطلب منا أن نرعى حرمته، إنها أمم انزاحت بعد ما تشكلت حضارات إثر حضارات هي في الأساس مآثر لأجداد وأمجاد العظام ممن رحلوا عنا وهي من تبقى وتحكي للأجيال عما صنعه أولئك العظام.
عندها قررت أن أدخل إليه من خلال بابه الكبير حيث تشتبك الأرواح فتكسو المكان جلالا ووقارا وأنت تدخل قصرا منيعا بعد ما تحطمت وتناثرت كثير من القصور بحطامها ولم يبق منها شيئ إلا ما كتب له النجاة، هذا الوقوف والتأمل قد زاد المكان رهبة بعظمة هذا البناء الذي أقف عليه بأعمدته البيضاء وبابه الفخيم الذي ما زال يفتح لزائريه، كما أن حجم باب الدخول فخم للغايه وهو منقوش بنقوش أنيقه وزخارف منحوته ببراعة فائقه حيث يؤدي إلى مدخل البهو السلطاني، أما عند مدخل عتبة بابه يوجد سلم كبير تحرسه أسود نحاسيه ومدفعان، أما مدخله فهو واسع حيث كان يقف السلطان في ذلك الوقت عند عتبة هذا الباب عند استقبال ضيوفه بعد ما تطلق المدفعيه طلقاتها وتقوم بعزفها السلام الوطني لجزيرة (زنجبار) للضيف بعد ما يقوم السلطان بالترحيب بضيوفه ويودعهم بعد مصافحتهم على حدة عند مغادرتهم القصر.
إن هذا القصر بات أول مبنى في زنجبار بأكملها تصله الكهرباء حيث استخدمت فيه المصاعد الكهربائيه وأثناء دخول الزائر إليه يفاجأ بمكان رحب وواسع تحيط به الغرف من كل الجوانب حيث يتجلى الجمال والإبداع في بنائه، ومن يصعد عبر السلالم التي تتوسطه فهي تحير الألباب بشكلها الجميل وتدخل في النفس العجب العجاب والذي يصلك إلى حجرات الأدوار الأخرى، وهي التي تفضي إلى الشرفات المطلة ناصية البحر حيث يمكن رؤية بعض الأروقة بعد ما قامت على عدد من صفوف العمد في الداخل والخارج وهي تسند سقفا طويل الشكل وعلى هذا النحو تكون طبقه من السقف في الأعلى ومن تحته يتوالى صف من الصفوف وهي حافله بالدعائم وكل عمود يشبه الأول في الشكل بعد ما أحاطت كل أرجاء القصر بدءا من الدور الأول إلى آخر دور.
كنت أجول بين ردهات أجنحة الحجرات مرهف السمع ومتوقد الحس وسط صمت عميق مطبق عليّ مستمعا إلى خطوات المشي نحو سياح دخلوا للتو، كنت أتفرس جدران كل الحجرات ومن حجره إلى حجره أخرى وهي ترتسم بحيويتها ولم يؤثر بها عامل الزمن بالشيخوخه، هذه الغرف باتت تطل على منظر البحر.
إن هذه الحجرات تكاد تكون معظمها خاويه حيث لم يبقوا منها شيئا فقد نهبت ما نهب أثناء ثورة 1964 م وما تبقى منها بعض الحلي والقلادات وسيارة آخر سلطان تسلم الحكم، أما في الدور الثاني فوقع بصري على سيرة تلك الأميرة العربية السيدة (سالمة) منذ ريعان شبابها إلى آخر مرحلة من مراحل حياتها.
كنت مستمرا في استكشاف هذا القصر نحو كل صغيره وكبيره بعد ما تحطمت كثير من الأمواج على مر التاريخ بعد ما قذفها ذلك البحر المائج بتموجات الزمان حيث ما حسبت أننا في الخارج كنا نملك القصور بفنها وعظمتها سوى من خلال هذه الزياره فقراءة كتب التاريخ شيء ومعايشة الأمكنه واقعيا فذلك شيئ آخر، هذه الزيارة والتي لا يمكن أن تمحى من ذاكرتي بعد ما ترك لنا العظماء فنا باهرا لا يموت من قصور وقلاع وحصون في ذلك الوقت عندما كنا إمبراطورية يحسب لها ألف حساب وهم من كانوا سادة البحار.
نعم كنا سادة البحار هي حقبه طويت من إعصار كنا له حيث رجف له أهل المشرق والمغرب في ذلك الوقت، عندها انتقلت إلى المبنى الملحق بالقصر وهو قصر الحكم حيث خصص جزء منه للحكم والجزء الآخر للعائله وهو يقع بمواجهة الشاطئ، هذا المبنى الملحق بالقصر توجد به التحف وغيرها من المقتنيات حيث يمكن رؤية شجرة عائلة ألبوسعيد حكام عمان وزنجبار والتي تبدأ من الإمام أحمد بن سعيد إلى جلالة السلطان قابوس المعظم، إلى جانب لوحات زيتيه لسلاطين ألبوسعيد الذين حكموا الجزيره بعدما خلدوا مجدا عظيما.
كانت أبرز هذه اللوحات للسيد سعيد بن سلطان (سلطان زنجبار)، أما في الطابق العلوي فتوجد صور باقي السلاطين بدءا من (ماجد بن سعيد وبرغش بن سعيد وحمد بن محمد بن سعيد وحمود بن محمد بن سعيد والسيد علي والسيد خليفه بن حارب) وغيرهم ممن تعاقبوا على الحكم في هذا الأرخبيل، ناهيك عن كثير من المقتنيات كخزانة الملابس وعدد من المرايا والخزف الصيني والتحف والكراسي والطاولات والأباريق وكثير من الغرف كغرفة السيدة سالمه بأثاثها وغرف السلطان والاجتماعات بأثاثها حيث كان السلطان يستقبل وزراءه ومستشاريه، هذه الشخصيات التي عاشت في تلك الحقبه قد كتب لها الخلود وأن تعيش تحت الثرى حيث تم دفنهم في المقبرة السلطانيه المجاورة للقصر وهي ما زالت صامدة حتى اليوم، هذه المقبره دفن بها أفراد العائله المالكه والسيدات كالسيده شريفه والسيده رقيه وبقية الساده، هذه الشخصيات قد أمست في ذمة التاريخ وصارت أسماء أصحابها ذكرى حياة الشهرة وحياة الخلود.
كل هذا التاريخ ما هو إلا عز بت أتأمله من تلك العظمه التي خلفها الأجداد، هي كنوز من هذا الثراء حيث بتنا محظوظين في ذلك، وقد بات قلبي يخفق فرحا بعد ما أخذتني هذه النشوه من مجد تليد حيث لم ألبث أن أهتف طربا حتى أتى من ترك يده على كتفي حيث أيقظني من سباتي ومن الخيال الذي أنا فيه حيث تلعثم لساني. إن ما أشاهده شيئا من الماضي حتى أيقنت أنه لم يبق إلا هذا الإرث من مجدنا الغابر وهو الشاهد على ذلك، نعم لقد تلاشى كل شيء من تلك التي كانت تسمى (أندلس العرب) في أفريقيا بما فيها من عز وسلطان وما بقي فقط هذا القصر وبعض الفتات هنا وهناك.
لقد عرفنا من خلال قراءتنا للتاريخ أنه لا يمكن لأي أمه كانت قد وصلت إلى مراتب من المدنيه دون أن تترك بصمتها من فن لأي أثر وهو وليد كل مدنيه وحضاره كي يبقى أبد الآبدين كي يحكي عن أمة غابرة.
هذا هو التاريخ لا يرحم، فكم من أمم لحضارات كانت في أووجها بعد ما زاع صيتها إلى أن أطاحت بعروشها ثورات وانقلابات حيث قامت في مقام مكانها كواكب أخرى وهي تكون لها نفس تلك النهايات والمصائر حتى تأتي أمم أخرى، هذا هو التاريخ اليوم بات يروى في الألسن والكتب وما بقي منه يكون أطلالا ورسومات تحكي للدهر عن تاريخ أمة ما لبثت أن كانت هنا يوما ما، تلك الأطلال والأنصاب منها ما صانته يد الحفاظ من عاديات الزمن ولولاها لما بقي منها شيء .

خالد بن سعيد العنقودي
كاتب ورحال عماني
[email protected]