دمشق " الوطن"
وصفها نزار قباني أنها حمل خارج الرحم، وأسماها أحمد عبد المعطي حجازي بالقصيدة الخرساء وهي التسمية التي كان الناقد بسام ساعي قد أطلقها عليها في ثمانينيات القرن الماضي، في حين يؤكد فايز خضور أنها غيمة وافدة من أوروبا في مطلع القرن العشرين، وقد استلطفها البعض، ورّوج لها البعض الآخر .أما الشاعر نزار بريك هنيدي في توصيفه لقصيدة النثر والوقوف على الأسباب التي تدفع الشعراء الشباب للإقبال عليها، بيّن وهو أحد المشاركين إلى جانب الدكتور راتب سكر في ندوة كاتب وموقف التي أقيمت مؤخراً في المركز الثقافي العربي بدمشق تحت عنوان "الشعر السوري الراهن" بإدارة الإعلامي عبدالرحمن الحلبي أن قصيدة النثر كانت ومازالت موضوعاً شائكاً في ساحتنا الأدبية، مشيراً إلى أنه عندما تمّت ترجمة قصيدة النثر - وأدونيس هو أول من ترجمها - أخذ الناس بالتسمية لا بالمضمون، لذلك تبدو قصيدة النثر الأوروبية مختلفة عن مفهومنا لها، ولذلك فإن النصوص النثرية الأوروبية لا تُكتَب كما نكتبها نحن بل كنصّ نثريّ خالص دون أن يدّعي أحد أنها تنتمي لدائرة الشعر كما نفعل نحن، مشيراً إلى أن الكاتب يلجأ إلى قصيدة النثر حينما يحسّ بالانفصام بينه وبين المجتمع، مؤمناً بأنها قصيدة لا رسالة لها، وأنها مجرد زفرة أخيرة للشاعر قبل أن يوقّع عقد طلاقه مع العالم والمجتمع، ولذلك يؤمن هنيدي أن ما يُكتَب في أدبنا العربي، والسوري تحديداً تحت ما يسمى قصائد نثرية هي قصائد تفعيلة دون أن ينكر أن لهذه القصائد معجبيها. ولأن الإيقاع عنصر أساسيّ في الشعر وفي كل مجالات حياتنا فإن قصيدة النثر بمعناها الحقيقيّ برأيه تعتمد بشكل من الأشكال على الإيقاع الذي يتم خلقه من تضافر أصوات الحروف والمعاني والصور.
وأوضح الدكتور هنيدي وهو الذي كتب قصيدة النثر واعتُبِرت قصيدته الشهيرة "الصخرة" من أهم قصائد النثر العربية، بأنه لا يتنكّر لهذه القصيدة، ويراها تمثّل حالة خاصة في كتابة القصيدة وهو قد يكتبها حينما يتوفر المناخ الملائم لولادتها.

الغنى والتنوّع
وحول واقع المشهد الشعري السوري أشار الدكتور هنيدي في البداية إلى أن الشعر هو صوت الجوهر الإنسانيّ، فالشاعر هو المعبّر عن الجوهر الأصيل للإنسان، وجميع الشعراء منذ هوميروس، مروراً بامرئ القيس والمتنبي، وانتهاءً بشعراء اليوم يشتركون في هذه المهمة النبيلة ، مؤكداً أن سوريا تشهد إبداعاً شعرياً تشارك فيه أجيال ذات تجارب مترسخة إلى جانب أجيال جديدة تجرّب حظها، مبيناً أن المشهد الشعريّ الراهن شديد الغنى والتنوّع، تتجاور فيه الأجيال والمدارس بكل أشكالها، وتتفاعل مع بعضها لتخلق مشهداً شعرياً يعجّ بالأسماء والنتاجات وبمواقف نقدية متعددة اتجاهها، مشيراً إلى الدور الكبير الذي يمكن أن يلعبه الإعلام في تسليط الضوء على التجارب الشابة وتقديم المواهب الحقيقية من خلال الصفحات الثقافية في الصحف التي يجب أن تحرص على تقديم ما هو حقيقيّ لتوجيه المواهب بالاتجاه الصحيح.
أما ظاهرة تزايد عدد الشباب الذين يكتبون الشعر ويصدرون مجموعات شعرية فقد رآها أمراً طبيعياً حيث الشعر كان ولا يزال قادراً على استقطاب الشباب التواقين للتعبير عمّا يجول في دواخلهم، بالإضافة إلى ميلهم للتعبير عن عواطفهم شعراً، ولذلك لا غضاضة في أن يجرب الجميع ما يظنونه شعراً ليستمر بعضهم في كتابة الشعر وهؤلاء تُغربَل كتاباتهم بفعل الحركة النقدية، مبيناً أن إقبال الشباب على كتابة الشعر أمر إيجابيّ، فيكفي هؤلاء أنهم لم ينجرفوا وراء المتع الجديدة واتخذوا من كتابة الشعر متعة لهم، وهم وإن لم يتحولوا إلى شعراء فيما بعد سيكونون متذوقين له وقارئين جيدين للأدب. من هنا يجب رعايتهم وتشجيعهم وتوجيههم باتجاه الطريق الصحيح، موضحاً في الوقت ذاته أن تزايد عدد الشباب الذين يجربون كتابة الشعر لا يعني بالضرورة تزايد عدد الشعراء الحقيقيين.

القصيدة المنمنمة
وعن قصيدة الومضة التي يعتبرها البعض استراحة المحارب (الشاعر) الذي يكتب في القضايا الكبرى يلتفت إليها وكأنه يريد أن يلتقط أنفاسه فيها، هي عند هنيدي تسمى قصيدة المنمنمات وقد كتبها إلى جانب القصائد الطوال بعد أن انعطف إلى هذا الشكل المقنَّن، مشيراً إلى أن القصيدة القصيرة موجودة منذ القِدم، وتراثنا العربيّ عرف المقطّعات والبيت المفرد، ولم ينكر أن هذا النوع من الشعر قد اختلفت حوله الآراء، فهناك من يقول لا وجود إلا للقصيدة القصيرة، وهناك من يعدّ كاتبها شاعراً غير حقيقيّ لأن الحقيقيّ هو الذي يكتب القصيدة الكلاسيكية، موضحاً هنيدي أن قصيدة المنمنمة التي يكتبها هي شكل آخر مختلف عن قصيدة الومضة وقد أراد من خلال شكلها أن يقدم جميع العناصر المكوّنة للشاعرية الشعرية بأقوى زخم لها على صعيد الخيال والصورة، وبرأيه إذا كانت قصيدة الومضة هي إضاءة لفكرة فإن القصيدة المنمنمة هي تكثيف لجميع العناصر الشعرية.
وختم الدكتور هنيدي كلامه مؤكداً أنه كشاعر يخلق قصيدته ولا يتطلع إلى أن يصور الواقع، فقصيدته ـ كما أكد - ليست مرآة للواقع بل هي عالم مختلف يختلقه كشاعر بنفسه.

الشاعر لا يخون ذاته
واستغرب الدكتور راتب سكر من قلق الجميع حول زيادة عدد الشعراء، في حين ليسوا كذلك مع ازدياد عدد العازفين على الكمان أو الجيتار مثلاً، ورأى أن تزايد عدد الشعراء يتناسب مع ازدياد عدد السكان، مشيراً إلى أن الساحة يجب أن تكون مفتوحة للجميع، والنقد الحقيقيّ كفيل بتقييمهم، مؤكداً أن القلق يجب أن يكون مبرَّراً إذا ابتعد الناس عن الظواهر الفنية والأدبية، ومبيناً أن الشعر ليس رخيصاً ليكون في متناول الجميع إنتاجاً وتذوقاً، يُستهلَك دون بذل جهد ثقافيّ، والكمّ الكبير من الشعراء ما هو إلا لأن معظم الكمّ الوافر من الشعراء يسترخصونه فيتعاطونه، ولأن سكر يتفق مع أدونيس حين يقول أن قصيدة الشاعر هي الشاعر نفسه يرى أن القصيدة هي لسان حال صاحبها، وهو ليس مجرد ناقل، والشاعر الجديد عندما يكتب عن الواقع بمعناه التاريخي أو الأسطوري يكتب عن ذاته، لأن الشاعر لا يخون ذاته لكنه يحّول الواقع بدلالاته إلى قناع لهذه الذات الحاضرة في كل صورة من صوره الشعرية.
وعن قصيدة النثر قال إن وجودها أمر طبيعي كاختلاف الآراء حولها خاصة وأن قواسم مشتركة تجمع بين الأشكال الشعرية كلها من حيث البناء الفني، معترفاً أن له تجارب متعددة في قصيدة النثر إلا أنه ينزع أكثر باتجاه قصيدة التفعيلة حيث مكوّناتها تنسجم مع طموحه وتوقه لبناء وجود بديل.
وفي سياق الندوة ألقى الشاعران نزار بريك هنيدي وراتب سكر مجموعة من القصائد التي اختاراها من مجموعة دواوين لهما.