«الوطن » بالتعاون مع الادعاء العام
إيمانا منهما بأهمية تثقيف المجتمع قانونيا ومعرفة الآثار المترتبة جزائيا على الأشخاص المخالفين لمواده وتوعية المجتمع وتثقيفه حتى لايقع أفراده تحت طائلة القانون بجهل أو عدم معرفة من خلال طرح قضية ومعرفة جوانبها القانونية وعقوبتها والآثار المترتبة عليها .

سعاد بنت محمد اللَّمكية

ضيفتنا لهذه السِّلسِلة، من الشّخصيّات العُمَانية الخالدة، هي المستشارة سعاد بنت محمد بن ناصر اللَّمكية، من حِلَّة الظاهر بولاية الرستاق، هي العُمانية الأولى ـ وفي الغالب الأعم، الأولى خليجيًا ـ في خوضِ غمار دراسة القانون والعمل في مجالاته المختلفة. اجتَررنا معها ذكرياتها مع القانون، وأهم محطّات الدراسة والعمل، فكان لنا وإياها هذا اللقاء التاريخي الذي آمل أن تجدونه مُمتعًا، كما وجدته كذلك.
سألنا ضيفتنا ابتداءً عن الدافع الذي عصَفَ بها إلى مهنةِ المصاعب والمشاكل، وعن الذي جذبها إلى دراسة القانون، تلك الدراسة التي كانت في حُكم المقصورة على الذكور دون الإناث، في فترة الخمسينيات من القرن الميلادي المنصرم، فجاوبتنا على النحو التالي:
(مَيلي إلى القانون وجد طريقه ابتداءً من ميلي ـ في فترة الطفولة ـ إلى قراءة الروايات البوليسية التي تزخر بتحقيقاتٍ مُعمَّقة، وتُجسِّدَ واقع المحاكمات، وما يثار فيها من اتهاماتٍ ومطالبات الادّعاء العام، من ناحية؛ ودفوع والتماسات وكلاء الدّفاع من ناحيةٍ أخرى. وفي مرحلةٍ لاحقة، تحوَّل هذا الميل إلى عِشقٍ جارفٍ، بعد أن التحقتُ لدراسة القانون في كلية ترينيتي العريقة بجمهورية إيرلندا؛ ثم تجذّر عشقي للقانون أثناء تدريبي المهني في مجال القضاء (الواقف والجالس)، في جمعية كينجز إنز (King’s Inns) الشهيرة في دبلن أيضًا، بجمهورية إيرلندا).
وقبل الخوض في تفاصيل مشوارها الدراسي والعملي، وعن سبب اختيارها لدراسةِ القانون في جمهورية إيرلندا، وما يتّصل بها من تفصيلاتٍ أخرى، آثرنا أن نستبقَ ذلك بحديثٍ عام عن نشأتها الأولى، انتهاءً بتكوينها القانوني، فكانت إجابة ضيفتنا على النَّحو التالي:
نشأتُ في أسرةٍ كبيرة، مكوّنة من سبعة عشرَ شقيقاً وشقيقة، وكان ترتيبي التاسع بينهم، من حيث التسلسل العمري. والدنا ـ رحمه الله ـ كان يُقدّر العلم تقديرًا لا مثيل له، في ذلك الزمان؛ ربما لكونِه ذاق حلاوته؛ إلا أن ظروفًا خاصة حالت دون تحقّق أمنيته لدراسة الطب مع ابني عمّته، الدكتور علي والدكتور ماجد، ابني سعيد بن سيف المعمري. فلقد بعثه والده ـ الصحافيّ المعروف، ناصر بن سليمان بن ناصر ـ إلى القاهرة في عام 1913م، لإكمالِ دراسته الابتدائية، واستمر كذلك إلى أن أعاده والده إلى زنجبار في عام 1920م، قبل أن يُنهي الثانوية العامة بأشهرٍ معدودة؛ وذلك بسبب ما وصله من خبر اعتزامه الزواج من فتاةٍ أوروبية. لهذا السبب، ولإشباع شغفه في العلم، سعى والدنا جاهدًا في تأهيلنا تأهيلاً عِلميًا راسِخًا، ولم يدّخرَ جهدًا ولا مالاً لأجل أن يرى أبناءه (ذكورًا وإناثًا) دونما تمييز، من حملة الشهادات الجامعية؛ فتحقَّق له ذلك فعلاً. وعلى صعيد شغفه الشَّخصي لمهنة الطب، فلقد قُدِّر له أن يرى خمسةً من أبنائه وقد أصبحوا أطباءً لامعين.
ورغم إيمان والدي بأهمية الدراسة النظامية، فلقد كان مُؤمنًا أكثر بأهمية التأهيل الديني أولاً، لذلك ما كان يُسجِّل أحدًا من أبنائه للتعليم الابتدائي؛ إلا بعد أن يختم القرآن الكريم؛ وعادة ما كان ذلك يتم في ربيعنا التاسع أو العاشر. وعليه، وبعد أن ختمتُ القرآن، الحقني والدي إلى أرقى مدرسة خاصة في زنجبار ـ كما هو حال بقية إخوتي ـ وهي مدرسة القديس جوزيف للراهبات (St. Joseph Convent School)، وفي عام 1954م، بعثني إلى القاهرة للدراسة، وللالتحاق بأختي الكبرى شريفة، التي كانت تدرس الاقتصاد في الجامعة الأمريكية، فسكنت وإياها في منزل ابنة عمة والدي، العمّة نعيمة بنت سعيد بن سيف المعمرية، التي كانت تعمل مُعلمة في مدرسةٍ ثانوية؛ فالتحقتُ بالمدرسةِ الأمريكية للبنات في شارع غمرة، لدراسةِ المرحلة الإعدادية، وبسبب تخرج شقيقتي شريفة في عام 1956م، وعودتها إلى الأهل في زنجبار، آثر والدي أن يبعثني إلى دبلن بجمهورية إيرلندا، حيث يدرس شقيقاي ناصر وحارث الطب. في دبلن، التحقت بدايةً بكلية الاسكندرية (Alexandria College)، التي أكملت فيها الدراسةِ الثانوية بعد سنتين. وفي عام 1959م، التحقت بأعرق جامعات إيرلندا لدراسةِ القانون، وهي جامعة ترينيتي كوليدج العريقة (College Trinity)، التي تأسّست في أواخر القرن السادس عشر، وتحديدًا في عام 1592م. دراسة القانون في إيرلندا تحتّم على الدارس أن يختار منذ البداية بين تخصّصين اثنين: (Barrister)، أو (Solicitor). التخصص الأول هو الذي يؤهلك لتكون قاضيًا أو عضوًا للادعاء العام، أو محامٍ للدفاع مترافعًا في المحاكم؛ أما الثاني فيؤهلك لتكون مُحاميًا للاستشارات القانونية فقط. أنا اخترت التخصّص الأول، الأمر الذي حتّم أن تتزامن دراستي، بعد السنة الثانية، والتدريب العملي المهني في مؤسسة قانونية لا تقل عراقةً من الجامعة، وهي جمعية كينجز إنز (The Honorable Society of King’s Inns )، التي تأسَّست في القرن السادس عشر أيضًا، وتحديدًا في عام 1547م.
خلال فترة دراستي في إيرلندا، سكنتُ في سكنٍ للراهبات، المشهور بالصرامةِ والانضباط، والمعروف اختصارًا بـ(YWCA)، أو (Young Women’s Christian Association)، أيِّ (الجمعية النسوية للمسيحيات اليافعات). عُدت فور تخرجي إلى زنجبار لتبدأ حياتي العملية هناك، مرورًا بدار السلام، فمسقط، ثم أبوظبي، انتهاءً بمسقط ثانيةً، حتى إحالتي إلى التقاعد في عام 2011م.
ما هي الصعوبات التي واجهتك خلال سنوات الدراسة؟ خاصةً من الناحيتين الاجتماعية والثقافية؟
الصعوبة الاجتماعية تمثلت في البعد عن الوالدين، خاصةً وأن الوضع المادي ما كان ليسمح لوالدي أن يبعث لي ولإخوتي تذاكر سفر للعودة إلى زنجبار لقضاء الإجازات الصيفية، سيَّما وأننا كنا ثلاثة إخوة ـ في وقتٍ واحد ـ ندرس على حسابه الخاص في إيرلندا (ناصر وحارث وأنا)؛ وبعد أن تخرج ناصر وحارث، التحق بي شقيقاي للدراسة الجامعية، لمك أولاً في سنة 1959م، ثم عبدالله في سنة 1961م. وجود أشقائي من حولي، خفّف عليّ الكثير من الإحساس بالغربة؛ كما كُنا نستغل الأجازات في العمل كمباشرين في المطاعم وفي المصانع، وفي محلات بيع الآيس كريم والحلويات .. وغيرها الكثير من الأعمال التي كانت مُتاحة للطلبة؛ لنُؤمِّن لأنفسِنا ولو جزءًا يسيرًا من مصاريف الإعاشة، وذلك تخفيفًا للعبء على والدنا. رحم الله أبانا، فلقد جاهَدَ كثيرًا ليُسَلِّحنا بالعلم النافع، ويُهيء لنا مُستقبلاً مُشرِقًا. كما أن والدتنا أيضًا، المرحومة آسية بنت سعيد بن عبدالله الخروصية، ساهمت معه في وقفته النبيلة تلك، بكل ما كانت تملك من أراضٍ ومزارع ومصاغٍ ذهبية. وحيث إن مِهنة المحاماة لم تكن آنئذٍ من المهن التي خاضتها المرأة في إيرلندا بعد ـ وغالبًا في أوروبا قاطبةً ـ فلقد كنتُ الفتاة الوحيدة في دراسة القانون، في دفعتي، وسط مجموعة من الشباب الذكور؛ وهو ما شكّل لي نوع من الحرج بدايةً، وصعوبة ثقافية، إن جاز التعبير؛ إلا إنني سُرعان ما تجاوزتها، بفضلِ الله تعالى أولاً، ثم بفضلِ ما تمتعت به، منذُ نعومة أظفاري، بالقدرة على مواجهة الناس، أيًا كانت مكانتهم ومشاربهم، والتحدث أمامهم بطلاقة، ودونما خجل.
ذكرت أنكِ التحقتِ بكليةٍ تُعنى بتأهيل ِمن ستسمح لهم بالمثولِ أمام المحاكم. فهل الحصول على شهادة القانون غير كافٍ لذلك، كما هو الحال في أنظمتنا العربية؟
فعلاً، مجرد الحصول على شهادة في القانون، في النظام الإنجليزي وكذا الإيرلندي، غير كافٍ لممارسة المهنة. ففي النظام الإنجليزي، يلتحق خريج القانون ببرنامج خاص، لمدة سنة كاملة، للحصول على شهادة مهنية؛ أما في جمهورية إيرلندا، فالوضع يختلف قليلاً، حيث تتزامن الدراستين، النظرية والعملية، في السنة الثانية قانون، وهو ما يختلف كُليًا عن الوضع في دولنا العربية. لذلك، فلا يكون خريج القانون مُؤهلاً للجلوسِ على منصَّةِ القضاء، ولا لتمثيل الاتهام، ولا الدفاع، في ساحات المحاكم؛ ما لم يكُن مُسجَّلاً مُعتمدًا من إحدى الجمعيَّات العريقة لتأهيلهم ليكونوا بلقب (باريستور) (Barrister)، مثل (جمعية كينجز إنز) في جمهورية إيرلندا، التي تشرفت بنيل شهادتي المهنية منها، وهي الشهادة المعروفة بـ(باريستور أت لو)، أو (Barrister-at-Law)؛ أو من إحدى الجمعيات الأربعة المعتمدة في إنجلترا، وهي:(جراي إنز، أو لينكون إنز، أو إينر تامبل، أو ميديل تامبل)، للحصول على شهادةٍ من الفئةِ نفسِها. تُعرف هذه الجمعيات باسم “إنز أوف كورت”، أو (Inns of Court). فلا يجزي القانوني للجلوس على المنصة، أو المثول أمام القضاء، لقب “سوليسيتور” (Solicitor)، وهو ما يعني “محامٍ للاستشارات القانونية”. ولكلٍ من التخصُّصين تأهيله وتدريبه الخاص؛ ولكلٍ منهما مدونة سلوك تنظم عمله، ومرجعية خاصة. وعليه، فإن خريج القانون غير الملتحق بأيٍّ من الفئتين أعلاه، يكون له فقط العمل فيما يسمى بالـ(Para-legal)، أي مُساعد قانوني، كمهنة أمين سر الجلسة مثلاً، وما شابهها من المهن؛ وهذا بالطبع يختلف عن النظام لدينا.
حبذا لو تحدثينا قليلاً عن التدريب في (جمعية كينجز إنز).
حسب التوضيح المتقدِّم، فإن جمعية كينجز إنز، هي الصرح العلمي والتطبيقي الوحيد المسئول عن تأهيل القانونيين، للحصول على لقب (Barrister)، في جمهورية إيرلندا. فإلى جانب دراسة بعض المقرّرات النظرية، كانت تعقد لنا محاكمات افتراضية صُوَريَّة، فيأخذ بعضنا دور الادعاء العام، ويأخذ الآخر دور وكيل الدفاع، فنترافع على مسمعٍ ومرأى من قُضاة و محامين ذوي خبرة عالية، فيسدوا لنا النصائح حول مَواطِن الخطأ، وكيفية تقويمها. مع ملاحظة أن من متطلبات النجاح والتخرج في هذه الجمعية، حضور ما يسمى بأمسيات تناول العشاء. حيث يتطلب على المتدرّب أن يحضر (12) عشاءً رسميًا، يرتدي فيها لباس المرافعات، وهو الجُبّة السوداء والباروكة البيضاء والحذاء الأسود، وفيها يجد فرصة الاختلاط مع كبار القضاة والمحامين، يتناولون معهم العشاء على طاولةٍ واحدة؛ فمنها يطلع المتدرب على شؤونِ القضاء والقضاة، ومنها يتعلم منهم البروتوكول والإتيكيت الخاص بطبقة الصّفوة، ليس في الجوانب المتعلقة بذوق الحديث وآدابه فحسب؛ وإنما فيما يتعلق بالهندام أيضاً. وأذكر ذات مرةٍ، حضرت طالبة من الدُّفعة التي بعدي ـ وكانت هي أيضًا الفتاة الوحيدة على دفعتها ـ ترتدي حذاءً أحمر اللون، بدلاً من الأسود، فلم يُسمح لها بدخول غرفة الطعام؛ ذلك لأنهم كانوا دائمًا يقولون لنا أن القضاء (مظهر وجوهر)، ولا ينبغي لأيٍّ منهما أن ينفك عن الآخر.
كيف كنتِ تقضين وقتك خارج أوقات الدراسة؟
بسبب التحاقي بكثيرٍ من الجمعيات؛ فقلما كنت أجد وقتًا للفراغ. من تلك الجمعيات، (جمعية إليذابيذان)، أو (Elizabethan Society)، وهي جمعية تعنى بالمناظرات والمساجلات في ظواهر اجتماعية وسياسية مختلفة. من هذه الجمعية، نميتُ قدراتي الحوارية، كما اكتسبت العديد من المهارات، منها مهارة مقارعة الحجة بالحجة، والثقة بالنفس، وأساليب الخطابة. في نظري، فإن هذه المناظرات ضرورية لأيّ طالب قانون. ولنشاطي المتوقد في هذه الجمعية، تلقيت عروضًا من كثيرٍ من اتحادات الطلبة للانضمام إلى اتحاداتهم الخاصة، كاتحاد الطلبة العرب، واتحاد الطلبة المسلمين، وكذا اتحاد طلبة شرق أفريقيا، بحجة أنني أنتمي إليهم جميعًا، سواءً بالأصل أو المولد، أو الديانة؛ فلم أخيّب أمل أيٍّ منهم، وذلك بأن انضممتُ إليهم جميعًا، دون استثناء، وكنت أضطلع فيها بأدوارٍ نشطة. هذا الوضع جعلني مشغولةً طوال الوقت بين دراسة القانون من ناحية، وأنشطة الاتحادات من ناحيةٍ أخرى. استمر الوضع كذلك إلى أن حصلت على شهادتي المهنية بتاريخ 26 نوفمبر 1963م.
حدثينا الآن عن مسيرتك العملية، وكيف كانت الانطلاقة؟
بدأت مسيرتي المهنية في زنجبار، في شهر سبتمبر من عام 1966م، حيث عملت في الأحوال المدنية، وهي الجهة المعنية بتسجيل واقعات الأحوال المدنية الحيوية، من ولادة وزواج وطلاق ووفاة؛ بالإضافة إلى الوصاية العامة على أنصبة الأيتام من تركة أحد الوالدين؛ وكذا تسجيل الأراضي والشركات. كان من صميم اختصاصاتي التحقق من طلبات الحصول على مصروفات الأيتام من أحد الوالدين، لغرض إعاشة اليتيم. فكنا نقوم بدور الوصايا حتى بلوغ اليتيم سن الرشد؛ هذا بالطبع إلى جانب الإشراف على تسجيل الواقعات الحيوية التي ذكرتها آنفا. هذا العمل أكسبني مهارة التعامل مع الجمهور. استمريت في هذا العمل حتى فبراير من العام التالي 1967م، حيث نقلت خدماتي إلى وزارة المالية، ووضعت على رأسِ منصبٍ رفيع، وهو (Assistant Principle Secretary)، يعادل منصب وكيل وزارة، وفي الوقت عينه أشرف على الدائرة القانونية في الوزارة. استمريت في هذا العمل حتى شهر ديسمبر من عام 1970م. وفي الفترة نفسها (1967 ـ 1970)، انتُدبت لتقديم محاضرات في القانون التجاري في كليةِ الاقتصاد، فكُنت أُقدِّم مُحاضَرتين في الأسبوع، إلى جانب عملي الأساس في وزارة المالية.
وفي العاصمة التنزانية، دار السلام، وبينما كنت أحضر ـ بصفةٍ شخصية ـ جلسات محاكمة أول قضية خيانة عظمى، في مطلع عام 1971م، حيث اتُّهمت فيها امرأة في الاتحاد النَّسوي، ومعها آخرون بمحاولة قلب نظام الحكم. عرّفتُ نفسي على أعضاء الادعاء العام على أني محامية من فئة محامي المرافعات، فرحبوا بي ترحيبًا حارًّا، ثم سمحوا لي بالجلوس معهم في المكان المُخصَّص للإدعاء العام. وفي إحدى جلسات المحاكمة، تعرَّفتُ على النائب العام، مارك بوماني، الذي عرض عليّ عملاً قضائيًّا في الادعاء العام (وكيلة ادعاء عام)، وذلك بعد أن وقف على مؤهلاتي، وقال لي: ستكونين أول إمرأة تعمل في الادعاء العام، فقبلت العرض من فوري؛ ذلك لأن حكومة الإنقلاب في زنجبار كانت قد استغنت عن خدمات جميع الحاصلين على مؤهل في القانون، باستثناء النائب العام الزنجباري دورادو (وهو من أصل هندي). عملت في الادعاء العام من شهر فبراير 1971م، إلى شهر أبريل من العام التالي، 1972م، واقتصر عملي في تمثيل الادعاء العام في القضايا المستأنفة (جنح وجنايات)، مع ملاحظة أن هذا تمثيل لم يقتصر على القضايا الجزائية فحسب؛ وإنما المدنية أيضًا.
تزامنت هذه الفترة وصدور قانون جديد للزواج؛ ولسبب خبرتي السَّابقة في مجال الأحوال المدنية، انتُدبت في شهر أبريل 1971م، للعمل في الأحوال المدنية، وأسند لي تنظيم مقتضيات هذا القانون الجديد، بما في ذلك تسجيل حالات الزواج الجديدة، والنظر في الحالات القديمة غير الموثقة، بل وغير القائمة على عقد زواج في الأساس؛ إذ لم يكن في دار السلام، آنئذٍ قانون ينظم الزواج - فكان عليّ أن أجوبُ مختلف القُرى التنزانية بحراسة شرطية مُكثفة، لإظهار محاسن هذا القانون الجديد الذي قوبل برفضٍ شديدٍ بين العامةِ غير المتعلمة، التي أحسّت أن القانون ما شُرع إلا لتقييد حريتهم في العيش بطريقتهم البدائية القائمة على العيش بين الزوجين من دون زواج. فالقانون ألزم هؤلاء الأشخاص بالتسجيل، ليمنحوا بذلك شهادة رسمية، كتسجيل لأمرٍ حاصل؛ وذلك لضمان التوارث فيما بينهم من ناحية، ولفرض المسئولية على رب الأسرة من ناحيةٍ أخرى.
وبعد الانتهاء من هذا العمل الشاق، في ديسمبر 1972م، عَرض علي النائب العام العمل في القضاء. طلبت منه مهلة للتفكير، وذلك بعد أن أحاطني علمًا بحساسية عمل القضاء وكل ما يتصل به. وبعد أن استخرت الله عز وجل، ثم استشرت والدي، أبلغت النائب العام قراري بالموافقة بعد عشرة أيام. وكنت بذلك ثاني إمرأة تتبوّأ منصب القضاء في دار السلام، بعد سيدة أفريقية تدعى (Ms. Manning). فور تعييني في القضاء، تفاجأت بمسؤول الإدارة المعنية بالأمن، في مجلس القضاء، يطلب مني موعدًا للوصول إلى مكتبي في المحكمة لتسليمي مُسدسًا؛ فسألته عن السَّبب، فقال لي أنها عُهدة تسلَّم لجميع القضاة لدواعٍ أمنية؛ فقلت له أنني لا أجيد استخدام السلاح، فقال لي أنهم سيخضعونني لدورةٍ تدريبيةٍ مُكثفة لكيفية التعامل مع السلاح. طلبت منه تأجيل الموضوع لبعض الوقت، وكان قصدي هو استشارة والدي. نصحني والدي، رحمه الله، بألَّا استلم السِّلاح، وقال لي أن السِّلاح، في حوزة من لم يألفه، قد يعرضه لكثيرٍ من المخاطر؛ وأردف قائلاً: أن الحكم بما يرضي الله، سيكون خير حافظ لي. وكتب لي بعض الأوراد لتحصين وترقية النفس، وعلمني بأن أقرأها كل يومٍ، قبل الخروج من البيت، ومنها عند قيام الليل، ولا زلت محتفظةً بها حتى يومنا هذا.
هكذا، فلقد جلست على منصة الحكم لمدة سنتين تقريبًا، وتحديدًا من ديسمبر 1972م، وحتى نوفمبر 1974م، حينما قرَّرت الالتحاق بأهلي في سلطنة عُمان، والمساهمة في بناءِ نهضةِ عُمان الحديثة.
هل لك أن تحدثيننا عن بعض الأحكام التي حكمت فيها؟
واجهت خلال عملي العديد من القضايا، أذكر منها قضية تخزين مادة غذائية (طحينًا) بقصد التلاعب في الأسعار، في فترات انعدام المادة في السوق، وردتنا من الإدارة المعنية بحمايةِ المستهلك. وأذكر أن المتهم كان من أصولٍ يمنية. وعلى الرغم من أن هذه القضية شغلت الرأي العام كثيرًا، بسبب شُح المواد الغذائية في دار السلام ـ آنذاك ـ وكانت تهمة تخزين الطحين دون عرضه على عامة الزبائن، ثابتة بحق المتهم؛ فلقد حكمت بالبراءة، للدفاع الذي أبداه، والمتمثِّل في أنه كان يضمّ الطحين ليس للتلاعب في الأسعار، وإنما لتأمينه لزبائنه الدائمين؛ وتأكّد لي من خلال الاستماع إلى شهادة بعض من هؤلاء الزبائن، بعد أدائهم اليمين، أنهم فعلاً اعتادوا على شراء المواد الغذائية، وكذا السلعة، محل الاتهام، من المتهم، الذي دأب على تأمين المواد الغذائية لهم، حتى في حال انعدامها من السوق. انتفض الرأي العام من حُكم البراءة، وكانت هناك تلميحات ترامت إلى مسمعي، مُؤدَّاها أن البراءة مرجعها إلى أسبابٍ عرقية، لكون المتهم من أصولٍ عربية. استأنف الادعاء العام حكم البراءة؛ إلا أن محكمة الاستئناف أيَّدت حكم البراءة، للأسباب الدقيقة والمقنعة التي أبديتها في حكم البراءة. يذكر أن المتهم، والذي كان يعرف والدي، عزّ المعرفة، ويكِنُّ له جُل الاحترام والتقدير، زارني في البيت، بعد الحكم الابتدائي مباشرةً، لأجل تقديم الشكر على تقديري لموقفِه؛ إلا أنني رفضتُ مقابلته، وطلبت من والدي أن يبلغه بأنني حكمت بما أملاه عليَّ ضميري، وبما اعتقدته حقًا وصوابًا؛ ولست بحاجة لشكرٍ منه؛ وأن أيِّ محاولة للتواصل معي، خارج مجلس القضاء، سيُفسَّر بوجود اتفاق مُسبّق بيني وإياه على البراءة، مقابل منفعة مُحددة.
وأذكر في إحدى القضايا استدعيتُ شرطيًا للاستماع إلى شهادته بشأن ضبطه للجريمة، محل النظر؛ فتخلّف عن حضور الجلسة، دونما إبداء أيِّ عذرٍ مقبول. وبعد التأكُّد من صحة استلامه لأمر التكليف بالحضور، أصدرت أمرًا بإلقاء القبض عليه، وأحضر الجلسة مخفورًا، وبسؤاله عن سبب التخلف، كانت إجابته بأن رئيسه لم يسمح له بحضور الجلسة، فأصدرت عليه حكمًا بحبسه لمدة شهرين، وأجزت له أن يدفع غرامة مالية، بدلاً من الحبس، فاختار الغرامة. وأذكر في هذه المناسبة، اتصل بي أخي الأكبر سعيد ـ الذي كان يعمل مديرًا لإحدى شركات الطيران في نيروبي ـ بعد أن قرأ الحكم في الجرائد، وحذّرني من مغبّة التعرّض للشرطة، تحسُّبًا للانتقام مني بطُرقٍ ملتوية.
وفي قضية سلب في مكان عام، أصدرت حكمًا بإدانة حدث، لم يكن قد بلغ الثمانية عشرَ عامًا بعد، وقررت سجنه لمدة سنة ونصف السنة، لتعرُّضه لأحد المارة في الطريق العام، ونزع من معصمه ساعته، وولى هاربًا. رأى بعض الزملاء آنئذٍ أن الحكم كان قاسيًا؛ إلا أنني أوردتُ في حيثيات الحكم أن ظاهرة السَّلب في الأماكن العامة، آخذة في الازدياد، وأنها ولَّدت خوفًا وهلعًا لدى العامة، وأن مقتضيات تحقيق الردع العام إلى جانب الرَّدع الخاص، حتّمت تشديد العقوبة. وفي هذه القضية أيضًا، أيدت محكمة الاستئناف حكمي، للأسباب التي أبديتها.
كيف كانت مسيرتك العملية في عُمان؟؟
بدأت مسيرتي العملية في سلطنة عُمان في عام 1975م، حيث عملت فور وصولي بفترة وجيزة في إدارة الموارد البشرية، بشركة عُمان تل، وكنت أنا والفاضلة شيخة بنت محمد المحروقية من أوائل النساء في هذه الشركة. وبعد أشهرٍ معدودة انتقلت للعمل في شركة تنمية نفط عُمان، وتحديدًا في سبتمبر 1975م. عملي في هذه الشركة الأخيرة أيضًا كان في مجال الموارد البشرية؛ لعدم وجود إدارة للشؤون القانونية في الشركة؛ إذ كانت جميع العقود والاستشارات القانونية ترسل إلى مدينة لاهاي الهولندية، حيث المقر الرئيس لشركة شل للبترول. لهذا السَّبب، لم يدُم عملي في هذه الشركة لأكثر من سنتين، حيث اضررت إلى تقديم استقالتي، بعد أن حصلت على عملٍ في مجال العقود في شركة بترول أبوظبي الوطنية (أدنوك)، في إمارة أبوظبي، وكان ذلك في شهر مايو 1977م، وفي هذه الشركة انتدبت للعمل في شركة زادكو، وعملت في صياغة العقود، لمشاريع نفطية ضخمة؛ ثم توليت الدائرة القانونية. لم أشعر بالوحدة في أبوظبي، حيث كان يعمل شقيقي الأكبر الجراح المعروف، الدكتور ناصر اللمكي، وشقيقي الأصغر الدكتور لمك اللمكي، كما كانت والدتي المسنة أيضًا تقيم معهما. وفي عام 1994م، عُدت إلى السَّلطنة وعملت كمستشارة قانونية في وزارة الشؤون القانونية، التي كانت قد أُنشِئت قبل ذلك ببضعة أشهر، حيث تعينت بموجب القرار الوزاري رقم:(2/94)، الصادر من معالي محمد بن علي العلوي بتاريخ 6 يونيو 1994م، وكنت أنا والمستشار عبدالله بن محمد بن سليمان اللمكي ـ رحمه الله ـ أول مستشارين عُمانيين، بعد أن كانت هذه المهنة، قبل ذلك، لا يشغلها إلا الأجانب. عملت في هذه الوزارة لمدة سبعة عشرَ عامًا، مثلت خلالها السلطنة في مفاوضات مهمة، منها مع شركة شل العالمية، استمرت لمدة سنة ونصف السنة، كنت المستشارة القانونية الممثلة للجانب العُماني؛ كما شاركت في مفاوضات اتفاقية التجارة الحرة مع الجانب الأميركي. وبتاريخ 4 يناير 2011م، صدر القرار رقم:(2/2011) بإحالتي الى التقاعد، اعتبارًا من 14/4/2011م، وكنت قد وصلت درجة مستشار أول (أ). وأنا سعيدة، أيَّما سعادة، أن أرى الآن مجموعةً من أبنائنا العُمانيين قد وصلوا درجة مستشار في مجال القانون، ليس في وزارة الشؤون القانونية فحسب؛ وإنما في كثيرٍ من الوزارات والجهات الأخرى في سلطنتنا الحبيبة. خلال فترة عملي في الوزارة، استعدتُ مهارة تقديم المحاضرات، التي كنت قد انقطعت عنها لنحو ربع قرنٍ، حيث كثيرًا ماطُلبت، وبشكل رسمي، لتقديم محاضرات في مؤسسات الدولة المختلفة.
وما هي النصيحة التي تودين إسداءها للعاملين في مجال القانون وكذا القضاء؟
أن يتذكَّروا دائمًا أن القانون إنما هو عقلٌ ومنطق، وأن الأمر يقتضيهم تحكيم الاثنين معًا، للوقوف على مقاصد التشريع؛ ضمانًا لسلامةِ القرار أو الحكم الذي سيتخذونه؛ وفي مجال القضاء، فعلى القضاة أن يضعوا في حسبانهم دائمًا مقولة أن العدل البطيء إنما هو ظُلمٌ بيِّن؛ وأن هذه المقولة تفرض عليهم ألا يؤجلوا القضايا لفتراتٍ طويلة، حال ما إذا تطلبت تحقيقات المحكمة التأجيل؛ لضمان إنهاء القضية في أقصر وقتٍ ممكن؛ وعلى أعضاء الادعاء العام أن يحرصوا على إنهاء تحقيقاتهم في زمنٍ قياسيّ، وأن يراعوا بأنه لا ينبغي لأصحاب الحقوق أن يتجشموا الصعاب لاقتضاء حقوقهم، ومن ذلك أن يُقلِّلوا من استدعائهم لإجراء تحقيقات تكميلية؛ ثم تكميلية ثانية فثالثة، وهكذا؛ وذلك كله، تحسبًا لفقد الثقة بفاعلية القائمين على مرفق القضاء بشكلٍ عام.
وأن يضعوا في بالهم على الدوام المثل الذي يقول: لا وجود لعشاءٍ مجانيّ. فما يقدم لهم في العزائم والولائم، إنما هو محاولة رخيصة لشراءِ الذِّمم؛ ولاشك أن هكذا تصرُّف لا يتناسب البتة والمكانة السَّامقة لرجال القضاء.
نصيحتي لهم أيضًا أن يُقعّدوا عملهم على قاعدةٍ عريضةٍ من القراءة؛ وألا يتخذوا قرارًا في القضية، محل النظر، قبل أن يشبعوها قراءةً وبحثًا. وبالنظر إلى أن التكنولوجيا الآن تقدم لهم الكثير من تسهيلات الوقوف على المعلومات؛ فلا ينبغي أن يغنيهم هذا عن القراءة من الأصول، أي من أُمهاتِ الكتب؛ ذلك لأن للعلمِ أُصول ـ كما ورد في الأثر ـ فإن قرأوا من الأصول، نطقت قلوبهم بالفروع.
نصيحتي للعاملين في القضاء الجالس، والواقف ـ على حدٍّ سواء ـ أن يهتموا بمظهرهم، وبهندامهم، وأن يضعوا في اعتبارهم أن القضاء ليس جوهرًا فحسب؛ وإنما هو مظهر، في الوقت ذاته؛ وأن ينأوا بأنفسهم دائمًا عن مَواطِن الشُّبهات؛ فما هو مقبولٌ من عامة الموظفين العموميين، مهما بلغت درجاتهم الإدارية، قد لا يكون مقبولاً منهم؛ ذلك لأن هفوات العامة كبائر العلماء.
أوجه نصيحة أخيرة إلى كل من هو في طريقه إلى الصعود، قاضيًا كان أو غيره، أن يكون لطيفًا مع كل من يصادف في طريقه؛ لأنه سيصادفه مُجَدّدًا في طريق الهبوط؛ فما طار طير وارتفع، إلا كما طار وقع.
هل سار أحد من أبنائك على خُطاكِ، من حيث دراسة القانون؟
الله سبحانه وتعالى استجاب لي رغبتي دون أن أفرضها على ابني ولا على حفيدتي. فلقد كنت أقول لأبنائي (عائشة وآسية وناصر)، منذ أن كانوا في المرحلة الإعدادية تقريبًا، إنني أتمنى أن يدرسوا الطب أو الحقوق؛ فكان ناصر يرد عليّ دائمًا، وبنوعٍ من الدعابة: الطب ممكن؛ أما القانون، فمن المحال. وهكذا، شاءت الأقدار أن يختار بنفسه دراسة القانون بعد أن أكمل الثانوية العامة. أما حفيدتي سعاد، فأعربت لوالديها عن رغبتها الأولى لدراسة القانون، على أعقاب الزيارات المهنية التي نظمتها لهم إدارة مدارس الصحوة الخاصة، لاطلاع طلبتها بطبيعة تخصّصاتهم المهنية المختلفة، وذلك لمساعدتهم في اختيار خط سيرهم الدراسي؛ فكانت زيارة الدكتورة وفاء الحراصية، مديرة المختبر الجنائي آنئذٍ للمدرسة هي المحرك الأول لها نحو بوابة القانون الواسعة.
كيف تقضين وقتك الآن؟
أجمل اللّحظات عندي، هي تلك التي أقَضّيها مع أحفادي وأبنائِهم، سواءً في البيت عندي، أو في رِحلاتٍ شاطئية، عندما نقرِّر ـ أنا وأولادي، حسب ظروف الجو ـ تغيير موقع التجمُّع الأسبوعي. خلال هذه التجمُّعات، وغيرها من اللقاءات اليوميّة مع أولادي، أتابع انجازاتهم في أعمالِهم، وأسدي إليهم النصيحة اللازمة، وأحثهم على العطاء والإخلاص في العمل؛ فما أجمل أن يتفرَّغ المرء لأسرته، بعد أن أفنى أمدًا طويلاً من حياتهِ في العمل والتزاماتِه غيرِ المتناهية. ومن ناحيةٍ أخرى، أحمد الله أن أمد بعمري، وهيَّأ لي الفرصة لأعودُ مُجدَّدًا لقراءةِ تفسير القرآن، وتدبُّر معانيه العظام؛ كما أحضر حلقات خاصة لتدبُّر معاني القرآن الكريم، لمرةٍ أو مرتين في الأسبوع، كلما سمحت لي صحتي بذلك. هي نعمةٌ جليلةٌ، من نعم الله عز وجل عليَّ، أن هيَّأ لي الفرصة لأكمل الناقص من فهم كتاب الله. فلقد بدأت مسيرتي العلمية بالقرآن، وسأختمها بحوله تعالى بالقرآن أيضًا.


أصل الحوار أجرته رئيسة تحرير مجلة القانون والحياة،
ونشر في العدد الأول منها؛ ثم أجرى حوارًا تكميليًّا
مُساعد المدعي العام ناصر بن عبدالله الريامي