لقد أنزل الله تعالى كتابه الحكيم وجعله آية للعالمين،وقد ضمَّنَه الله تعالى كل شيء، كل شيء بمعنى الكلمة،ولِمَ لا؟!، وقدقال:(وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) (الأنعام ـ ٣٨)، فما من شيء ما نرى وما لا نرى ، ومما نعلم ومما لا نعلم، من كل صنوف وأنواع المخلوقات والأجرام والمحسوسات مهما تباعدت أزمانها مما مضى من أزمان أو مما هو آتٍمنها، وما كبرت أحجامه أو صغر جرمه أو حتى ما كان متناهي الصغر، وما كانت ماهيته صلبة أو سائلة وما بينهما كل بدرجته، أو ما كان متحركًا أو ساكنًا، أو ما كان ثابتًا أو كان متغيرًا ، أو ما كان باقيًا على أصله أو كان متجددًا، أو مما يتناهى أو مما يزداد، أو مما يكبر أو مما يتصاغر، وكل العلوم والفهوم، من العلوم الحسية المرئية التجريبية أو المعنوية النظرية المنطقية من الأولين والآخرين، وما وقع منذ بدء الخلقية أو ما سيحصل إلى أن يرث الأرض ومن عليها إلا وهو في كتاب الله.
وقد لخص رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وصفه فعن علي ـ رصي الله عنه ـ قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم)يقول:(كتاب الله ـ تعالى ـ فيه خبر ما قبلكم، ونبأ ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، هو الذى لا تزيغ به الأهواء، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق عن كثرة رد، ولا تنقضي عجائبه، هو الذى من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، هو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذى من عمل به أجر ، ومن حكم به عدل، ومن دعا إله هدى صراط مستقيم.. الحديث)(جمع الجوامع المعروف بـ”الجامع الكبير” 17/ 305)،قال المحقق: والحديث في (سنن الأعور كتاب فضائل القرآن باب فضل من قرأ القرآن، ج 2 ص 312 حديث رقم 3341)،فما استحدث من شيء أو اكتشف إلا وكان له أصل في كتاب الله تعالى سواء بالتصريح أو بالإشارة، والاعجاز العلمي في العصر الحديث أكبر دليل على ذلك،وإذا كان القرآن الكريم المصدر الأول للإسلام، فهو كذلك المصدر الأول للثقافة الإسلامية، فكل تعاليم الإسلام يجب أن ترجع في أصولها إلى القرآن: كالعقائد والمفاهيم والقيم والعبادات والشعائر والأخلاق والآداب والقوانين والشرائع. كل هذه قد وضع القرآن أسسها وأرسى دعائمها،وقد حوى القرآن من حقائق الغيب، وحقائق النفس، وحقائق الحياة، وحقائق الاجتماع الإنساني وبيّن من سنن الله تعالى ومن آياته في الأنفس والآفاق ما لا يستغنى بشر عن معرفته والاهتداء به وقد صاغ ذلك كله في أسلوب معجز هو (نور من الكلام أو كلام من النور) لا يوصف إلا بأنه(الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) (هود ـ ١)، وصفه منزله بأنه (نور) والنور من طبيعته أن يضيء ويهدي (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا) (النساء ـ ١٧٤)(انظر كتاب “دراسات أصولية في القرآن الكريم” محمد إبراهيم الحفناوي ص: 91)، وسنتناول بإذن الله تعالى في هذه السلسلة المتواضعة جانبًا مما حواه القرآن العظيم وتحدث عنه ألا وهو (الأمراض والأوبئة) سواء على المستوي الفردي أو الجماعي ، وسواء أكان المرض حسيًّا أو معنويًا،فالمرض من عند الله تعالى والشفاء أيضًا منه سبحانه كما أثبت القرآن العظيم (وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) (الشعراء ـ ٨٠)،وقد نلاحظ في هذه الآية الكريمة المرض يقابله الشفاء،وهنا سؤال يطل برأسه وضاربا الفكر بطوله وعرضه ما هوالمرض؟ والجواب عليه يستلزم منا، إما إلى لغة العرب، وإما إلى الحقيقة الشرعية، قال في(العباب): المرض إظلام الطبيعة واضطرابها بعد صفائها واعتدالها. انتهى. وهو قول ابن الأعرابي، وبذلك فسره صاحب القاموس، وقال ابن دريد: المرض السقم، وهو نقيض الصحة، يكون للإنسان والبعير، وهو اسم للجنس. انتهى، وقال ابن عرفة: المرض في الأبدان فتور الأعضاء، فعلى هذا فالمرض المبيح للفطر، هو الذي يكون منه انحراف الصحة عن اعتدالها الطبيعي، فكل مرض كان كذلك (انظر”تفسير ابن بدران المسمى” جواهر الأفكار ومعادن الأسرار المستخرجة من كلام العزيز الجبار ص: 493)، والمرض: خروج البدن عن حد الاعتدال إلى الانحراف في الصحة، وغلبة بعض الطبائع على بعضها، وهو صادق بالقليل، والكثير الذي يخاف معه التلف، أو يخاف تأخر برء أو حدوث ضررٍ،وحدّ المرض بعض أهل اللغة بأنه إظلام الطبيعة بعد صفائها، واعتدالها، قال جرير: قتلننا بعيونٍ زانها مرض .. وفي المراض لنا شجو وتعذيب، وقال سيبويه: المرض من المصادر المجموعة كالشغل، والعقل، قالوا: أشغال، وعقول، وقد يعبر بالمرض عن فساد القلب؛ كما في قوله تعالى:(فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا) سواء كان المرض موجودًا بالفعل، أو يتوقع حصوله (انظر”شرح سنن النسائي” المسمى “شروق أنوار المنن الكبرى الإلهية بكشف أسرار السنن الصغرى النسائية 1/ 3)،والجدير بالذكر أن مادة المرض جاء في طيات آي القرآن الحكيم بتصريفاتها كالتالي: أولًا: المصدر (م ر ض)وهو: مصدر سماعيّ لفعل مرض بمرض باب فرح وزنه فعل بفتحتين: وقد جاءت هذه الكلمة في القرآن الكريم حوالي اثنتي عشرة مرة جميعها مبتدأ مؤخر مرفوع في ثماني سور، حيث جاءت مرة واحدة في (البقرة ـ المائدة ـ الأنفال ـ التوبة ـ الحج ـ النور ـ المدثر)وكررت ثلاث مرات في سورة الأحزاب، واثنتين في سورة محمد، واقترنت كلها بالقلب،والجدير بالذكر أن إحدى عشر منها جاءت بها القلوب جمعًا، (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) (البقرة ـ ١٠)، وواحدة منها فقط جاء القلب مفردًا منكرًا مضافًا إلى المفرد الغائب(يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلا مَعْرُوفًا) (الأحزاب ـ ٣٢)، وثانيًا: جاءت كلمة (مرضًا)المصدر مفعول به ثانٍ مرة واحدة:(فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا) (البقرة ـ ١٠)،وثالثاً: العلم المفرد المعرف بألالمريض، وقد ذكره القرآن الكريم مرتين واحد في النور والأخرى في الفتح، وإليك الثانية (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا)(الفتح ـ ١٧)،وحول حديث القرآن الكريم عن الأمراض والأوبئة يبقى حديثنا موصولًا بإذن الله تعالى.

محمود عدلي الشريف
[email protected]