[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/mohamedabdel.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]محمد عبد الصادق[/author]
” .. الحقيقة أن المواطن في منطقتنا العربية يعتمد بشكل كبير على الحكومة في الحصول على الوظيفة وخدمات الصحة والتعليم والإسكان, حتى القطاع الخاص في معظم الدول العربية يعتمد إلى حد كبيرعلى الإنفاق الحكومي, وينتظر المناقصات التي تطرحها الحكومات لتنفيذ مشاريع الطرق, ومحطات الكهرباء والمياه والإسكان, والاتصالات, والمشاريع الصحية, والمنشآت التعليمية,”
ـــــــــــــــــــــــ
في زمن الأزمات يزيد اهتمام الناس بالاقتصاد, فيترقبون أسعار المواد الخام وحركة الأسهم ونشاط البورصات, ومع دخول الشهور الأخيرة من العام واقتراب موعد إعلان الحكومات لميزانيات العام الجديد يتحول الكثيرون لخبراء بالشؤون الاقتصادية ويكثر الحديث عن الأرقام والمؤشرات, وتتناهى للأسماع مصطلحات من قبيل: خفض الإنفاق الحكومي وترشيد الدعم, ووصول الدعم لمستحقيه, وتقليل العجز في الموازنة, ونسب النمو المحققة والمتوقعة, ويتسع المجال في الصحف والقنوات المتخصصة لخبراء المال والمحللين الاقتصاديين ليدلوا كلُ بدلوه في قراءة الأرقام وتحليل النسب والمؤشرات والتنبؤ بتصاعد أو انخفاض منحنى الاقتصاد في العام الجديد , ونجد منهم المبشرون و منهم المتشائمون.
ويمر العام بحلوه ومره, وتتباين النسب وتتبدل الأرقام على مدار العام ولكن هذا لا يمنع من تأثر المواطن البسيط بهذه التقارير والتحليلات الاقتصادية, فنرى المؤشرات السلبية أو الإيجابية للاقتصاد تنعكس على المزاج العام والحالة النفسية للمواطنين, وتؤثر في تشكيل الطموحات والأحلام والخطط المستقبلية للمواطن في العام الجديد.
والحقيقة أن المواطن في منطقتنا العربية يعتمد بشكل كبير على الحكومة في الحصول على الوظيفة وخدمات الصحة والتعليم والإسكان, حتى القطاع الخاص في معظم الدول العربية يعتمد إلى حد كبيرعلى الإنفاق الحكومي, وينتظر المناقصات التي تطرحها الحكومات لتنفيذ مشاريع الطرق, ومحطات الكهرباء والمياه والإسكان, والاتصالات, والمشاريع الصحية, والمنشآت التعليمية, وانتهاء بتوريد المهمات, وتنظيم الفعاليات, وإذا تقلص الإنفاق الحكومي أو تراجع فسيؤثر بالقطع على نشاط جميع القطاعات الإنتاجية العام منها والخاص وستتأثر خطط التنمية , ويتراجع النمو الاقتصادي و تقل فرص العمل.
والعبء الآخر الذي تتحمله الميزانيات الحكومية هو ما يطلق عليه الإنفاق الجاري والمتمثل في الأجور والرواتب والمعاشات, ومكافآت نهاية الخدمة, وبرامج الضمان الاجتماعي, ودعم المواد الاستهلاكية.
ويجمع خبراء الاقتصاد على ضرورة تعزيز النوع الأول من الإنفاق المتعلق بتطوير البنية الأساسية, ويعتبرونه اللبنة القوية لبناء اقتصاد قوي لأنه يؤدي دوراً فاعلاً في زيادة معدلات النمو وتحقيق التنمية المستدامة, كما أن وجود بنية أساسية متطورة يوفر بيئة مواتية لإقامة المشروعات الجديدة, وجذب الاستثمارات المحلية والخارجية اللازمة لدفع عجلة الاقتصاد, وتسريع وتيرة التنمية.
أما الاعتماد على الحكومة وحدها في التوظيف, وتوفير فرص العمل في الجهاز الإداري للدولة المكتظ أصلاً بالموظفين, فسيؤدي حتماً لعجز الموازنة ويؤثر على خطط التنمية, ويلتهم الأموال اللازمة للارتقاء بالخدمات وتطوير وصيانة البنية الأساسية, وتتوقف المشاريع اللازمة لتوفير فرص العمل للأجيال القادمة ,وتتقلص الفوائض والاحتياطات المالية لأي بلد.
والدعم الحكومي موجود في كل دول العالم الرأسمالية, والاشتراكية على السواء, ولكن يختلف أسلوب كل دولة في توجيه الدعم لمواطنيها؛ فلك أن تتخيل أن الولايات المتحدة الأميركية بها 4 ملايين مشرد بلا مأوى.
وهناك أكثر من 40 مليون أميركي تحت خط الفقر ( مما لا يتجاوز دخلهم 600 دولار سنوياً) وهناك 50 مليون أميركي ليس لديهم تأمين صحي ( لا يستطيعون الدخول لأي مستشفى حكومي أو خاص لأنهم لم يسددوا اشتراكات التأمين الصحي).
وفلسفة الدعم في أميركا قائمة على تقديم الدعم للمحتاجين فقط من خلال توزيع كوبونات للحصول على الغذاء مجاناً لمن يثبت أحقيته في ذلك وتجد طوابير طويلة للفقراء والمشردين أمام مراكز توزيع وجبات الطعام المجانية من حاملي هذه الكوبونات تقطع شوارع نيويورك ولوس أنجلوس الراقية المتخمة بمظاهر الثراء والتبذير في مشهد يظهر التناقض الصارخ المستشري في المجتمع الأميركي.
وتقدم الحكومة الأميركية معونة بطالة لمن لا يعمل أو فقد وظيفته لمدة لا تزيد عن العامين, والفلسفة الرأسمالية للتوظيف تقوم على أسس اقتصادية مجردة, فلا مكان فيها للعواطف, ولا وجود للبطالة المقنعة, ولا مجال للاعتبارات السياسية أو الاجتماعية في عملية التوظيف كما يحدث في معظم دولنا العربية؛ حيث نعتبر الوظيفة الحكومية حقاً مكتسباً أو نوعاً من التكافل الاجتماعي, دون النظر للكفاءة أو حاجة العمل والجدوى الاقتصادية والإنتاجية من التوظيف.
وفي أميركا والدول الرأسمالية لا يوجد فرق بين القطاعين العام والخاص في التوظيف؛ من حيث الحقوق والمزايا والتأمينات, فالجميع يخضع لقانون عمل موحد, والموظف الحكومي أو الفيدرالي يعمل وفق عقد محدد المدة يتم تجديده أو إنهاؤه شأنه شأن الموظف الذي يعمل بالقطاع الخاص, لذلك لا نجد هذا التهافت الموجود عندنا للعمل بالحكومة. والموظف والعامل في الدول الرأسمالية يسعى لرفع كفاءته و تطوير مهاراته والاشتغال على نفسه ليظفر بوظيفة أفضل في سوق عمل لا يرحم ولا يعترف إلاً بالمصلحة, والاستفادة التي يجنيها صاحب العمل من وراء التوظيف.
وأميركا تدعم مزارعيها مادياً بشكل مباشر لينتجوا محاصيل منخفضة السعر تستطيع المنافسة في الأسواق الخارجية وحتى تجنب المزارع الخسارة في حالة انخفاض السعر عن التكلفة سواء عند التصدير للخارج أو التسويق في الأسواق المحلية, لضمان سيطرة الأميركان على أسواق السلع الزراعية, ومواجهة المنافسة الشرسة في بورصات التجارة الدولية.
أما الصين التي تنتهج سياسات اشتراكية, فتدعم الأسر التي لديها طفل واحد بشرط التزامها بالإقامة في المنطقة التي تحددها لها الحكومة, فإذا كان مقر الإقامة في الريف وتركته الأسرة ونزحت للمدينة, تحرم من الدعم, وعليها تحمل تكاليف السكن والتعليم والرعاية الصحية, وكذلك الطفل الثاني يحرم من كل صور الدعم الحكومي, وعلى والديه تحمل تكاليف تنشئته كاملة, وإن كان هناك اتجاه حاليا للتخلي عن سياسة الطفل الواحد التي انتهجتها الصين للحد من الزيادة السكانية في سبعينات القرن الماضي ـ نتيجة تراجع أعداد الأيدي العاملة اللازمة لتشغيل المصانع عقب الطفرة الإنتاجية التي شهدتها الصين في العقدين الأخيرين والتي دفعت الصين للاستعانة بالأيدي العاملة الوافدة من الدول الآسيوية المجاورة.
وفي أوروبا أدى التوسع في برامج الضمان الاجتماعي, وزيادة معاشات التقاعد, وتحمل الحكومات جزءاً كبيراً من تكاليف الرعاية الصحية إلى إفلاس دول عديدة مثل اليونان نتيجة العجز الكبير في الموازنة, مما دفعها ـ تحت ضغط من الاتحاد الأوروبي ـ إلى انتهاج سياسات اقتصادية صارمة تعتمد على التقشف,وإلغاء الدعم وتقليص المزايا التقاعدية ورفع سن المعاش وتسريح آلاف العاملين بالجهاز الإداري للدولة, واقتراض مئات المليارات من الاتحاد الأوروبي لتغطية العجز في ميزان المدفوعات.
والاقتراب من الدعم الحكومي أمر في منتهى الحساسية , ولابد أن يتم التعامل معه بحكمة وحذر وبالتدريج , لأنه من الصعب أن تقنع المواطن بأن يخفض مستوى معيشته , أو يتخلى عن قدر من رفاهيته التي تحولت بمرور الوقت لأساسيات حياة يصعب التنازل عنها بسهولة , وإذا كان ولابد من الترشيد , فلنبدأ بالطبقات القادرة التي تستطيع تحمل الأسعار العالمية, ونبتعد عن الفئات الضعيفة التي مازالت تحتاج الحماية والمساعدة من الدولة حتى يتحقق التوازن بين المتطلبات الاقتصادية, واستتباب الأمن والاستقرار الاجتماعي.