تميز أدبيات السرد بين الراوي والكاتب، فالأوّل يروي لنا ما يحدث في القصة مستخدمًا الضمير المتكلّم في حالمًا كان شخصية مشاركة أو الضمير الغائب في حالما سجّل الأحداث متفرّجًا مشاهدًا، وهو في كلتا الحالتين يتفاوت في مقدار ومصداقية معرفته بشخصيات القصة، أمّا الثّاني فهو تصوّر ذهني يُشكَّل في أثناء القراءة، فالقارئ يخلق، بناءً على معطيات النّص، كيانًا له رؤاه وأفكاره، اتّفاقًا أو اختلافًا، تجاه ما يرويه الراوي (1).
وإذا ما نظرنا، من هذا المنطلق، في مجموعة “صبي على السطح” للقاصة والروائية العمانية جوخة الحارثية (2) فإنّنا نجد في جلّ القصص فارقًا دقيقًا بين الراوي والكاتب، فالأوّل يقدّم الشخصيات، سياقًا وشعورًا وموقفًا ورؤيةً، من منظور الرؤية المجتمعية السّائدة؛ أمّا الآخر فيمكن أن يُستَشفَّ حضورًا يتجلّى في إبراز ما تنطوي عليه مؤسّسات الاجتماع مثل الأبوّة والبنوّة والذكورة والأنوثة والحبّ من دراما نفسية.
فالراوي في قصة (المحبوب)، (3) مثلًا، يتبنّى اللغة الذكورية لرجب العالي، الشخصية الرئيسة، في وجوه عدّة؛ فإن تحدّث عن تحوّل مزاجه غير مرّة نفى أن يكون لذلك أي صلة بصلاحه أو بسوئه، وتناول ذاكرته عمليةً ذهنيةً مجرّدة وحسب معطيًا إياها حقّ تصفية “الخطوط الباهتة” والتخلّي عنها، غاضًّا الطرف عن أنّ هذه التصفية إنّما هي أداة تهميش وتغييب؛ زد على ذلك أنّه يستخدم لغة وصفية إذا ما قال شيئًا عن خروجه من بيته ولوذه بمصاحبة الأصدقاء وإتقانه، حسبما يقول، ألعاب قتل الوقت؛ بل من مبلغ تبنّيه لرؤيته أنّه يستخدم أحيانًا الضمير المتكلّم من دون علامتي التنصيص وكأنّما كانا صوتًا واحدًا:”وأنا المذعور، الممسوس، الموسوس، المصاب في الغور الأبعد ... وتقول: لم أمتلك حقيبة حمراء”.
وفي المقابل يهمّش بل يكاد يغيب تمامًا صوت التي أحبّها رجب فتاةً وتزوّجها امرأةً بالغة، إذ يعرضها كخلفية باهتة ليس إلّا، لا اسم لها ولا شخصية؛ فلا يخبرنا عنها قدر ما يخبرنا عنه، ولا يقتبس شيئًا منها مباشرة، وإنّما يضع كلامها على لسانه، ويخفي عنّا ما همسها الذي قضّ مضجعه؛ كما يؤاخذها على أنّها استسلمت له، ولم تذهب عنه إلى بيت أهلها؛ أمّا كاتب القصة فهو يبين لنا الأبعاد النفسية لهذا الخطاب الذكوري، فرجب يمارس بـ”الحبّ” السلطة على من يحبّ، بيد أنّ هذه السلطة تتحوّل إلى أداة عليه، فيعاني الخوف والقلق من جرّاء “همس” ينسبه إلى زوجته (4).
نرى النمط ذاته في “الخيول الراكضة” (5) من المجموعة، فسياق القصة الاجتماعي يتّسم بهرمية تمنح بعضهم من القوّة ما تحرم الآخر منه؛ فثمّة في القصة والٍ له بيت كبير بباب حديدي ومجلس فسيح تزين جدرانَه لوحاتٌ فنّية لافتة، يأتيه ضيوفٌ بسيارات فاخرة؛ وفي المقابل ناصر، شخصية القصة الرئيسة، عبدٌ يقضي جميع أيام الأسبوع في غرفة صغيرة محشورة في زاوية بجانب الباب الحديدي؛ يقدّم لنا الراوي هذه التراتبية حسب أطرها؛ فيخبرنا عن اطّراد وسكون حياة ناصر “العبد”، فهو يدور منذ كان في الثامنة عشرة في دائرة تكاد تكون ميكانيكية: يسكن غرفة صغيرة، يأتيه أكلُه ساخنًا مغطًّى، يفتح الباب لسيارات ذوي الجاه، يستقبلهم في المجلس ويصبّ لهم القهوة؛ ويبدو الزمان غائبًا عن هذا الاطّراد، فلا ماضي له ولا حاضر ولا مستقبل، وإن اعترى الحياةَ تغيرٌ من نوع ما، كموت والده وإنجاب زوجه ذكرًا بعد ستّ بنات وتيبّس أكبر النخلات بفعل الجدب وتغير الوالي، لم يبعث ذلك كلّه فيه فكرةَ أنّ الحياة يمكن أن تكون غير هذه الدائرة.
ما يعزّز من هذه الهرمية أنّ ناصرًا لا ينادى باسم يعرف به فردًا، فالوالي وضيوفه ينادونه بما يخدمهم، فهو إمّا “الحارس” وإمّا “المقهوي” وإمّا “العسكري”؛ اعتاد ناصر ذلك كلّه كما لو كان من سنن الكون أو “كأنفاسه”، حسب قول الراوي، لا كتراتبية اتُّفِق عليها، فلا يأتيه بشأن وضعه أي تساؤل من مثل: أحرم من شيء؟ أسلبت حقوقه؟ والراوي يشاطره الرأي على “طبيعية” وضعه؛ لعلّه ليس أدلّ على ذلك من أمرين: أوّلًا، إصراره المطّرد على وصفه بـ”العبد”، فهو يبدأ السّرد بـ”ناصر العبد” عاجزًا عن فهم ما يجري له، وينهيه بفقرة ببضع جمل أوّلها “بُهِت ناصر العبد”؛ ثانيًا، إخفاء معلومات وأخبار كانت يمكن أن تؤخذ على خطاب العبودية؛ من ذلك أنّه لا يقول لنا شيئًا يسعفنا على فكّ طلاسم نهاية القصة المباغتة، فليس هناك رابطٌ جلي بين الفقرتين الأخيرتين: الفقرة المعبّرة عن خواطر ناصر الباعثة على الحياة وبين التي تليها والقائلة بانطفاء عيون الخيول في اللوحة وبتمثّل اللوحة بلا ألوان عند إغماضه لعينيه؛ فالظاهر أنّ الراوي وناصرًا كلاهما يأخذ “العبودية” واقعًا اجتماعيًّا مسلّمًا به، كما لو كان شأنها عندهما شأن شروق الشمس وغروبها.
على أنّنا يمكن لنا أن نقول إنّ وراء هذا الراوي كاتبًا يسائل الواقع منظومةً جائرةً تسلب الفرد حسّه ووعيه؛ هذا الكاتب يتّخذ، مقابل السرد المباشر للراوي، المفارقة والترميز والإيحاء نهجًا له لبثّ رؤاه؛ فهناك تناقض واضح بين كلمة “ناصر” معنًى و”ناصر” الشخص مكانةً، فأن “تناصر” أحدًا يعني أن تعينه، وناصر “العبد” في القصة أدنى منزلةً من أن يُقدِم على ذلك، والقادرون على الإعانة والمناصرة إنّما يستغلّون دونيته ويكرّسونها، فهو الخاضع المقهور لا الناصر ولا المنصور؛ أمّا بشأن الرمز فإنّ صورة الخيول الراكضة المعلّقة على حائط المجلس موحية على نحوين يناقض أحدهما الآخر، فهذه الخيول تركض ولكنّها متسمّرة في مكانها، فاللوحة المثبّتة دلالة من جهة على تجميد وعي ناصر عند نقطة بعينها، فإن كان يدرك أنّ ثمّة شبهًا بينه وبين هذه الخيول من حيث الطاقة، فإنّه لا يعي أنّ منظومة المجتمع السائدة سلبت منه كرامته وحَبَسته في منزلة العبودية مجازًا وفي بيت الوالي حقيقةً كما حُبِسَت الخيول في صورة في ذاك البيت، لا يعي أنّ اسمه ناصر وليس ناصر العبد.
ومن جهة أخرى يرمز ركض الخيول إلى تململ وعي ناصر؛ إذ يأتيه، على حين غرّة، شعورٌ مفاده أنّ الحياة أكثر من دائرته المعتادة، لا يستطيع تحديد مبدأ ذلك الشعور ومبعثه، فهو شعورٌ غامضٌ ملتبسٌ يشبه ما يُعرَف بـ”الحبّ”، وإن كان هذا فهو ليس حبّ ندّ لندّ، لا سنًّا ولا مكانةً ولا إعجابًا متبادلًا، إنّما هو إحساس بسحر عيني بنت الوالي، ندى التي حملها مرّةً أو مرّتين على كتفه حينما كانت في الثامنة، ندى التي تباغته الآن بطولها المفاجئ وبسحرها الجاذب؛ فأساور معصمها تثير بصره بما يثار به السمع، فيرى صخب ألوانها، وإن أغمض عينيه رأى التماعات تلك الأساور تومض وتنطفئ من دون توقّف؛ لعلّ هذا الوميض المتواصل يمثّل إدراكًا غير واع أو ربّما تحسّرًا وندمًا على أنّ حياته تجري على خطّ رتيب باهت.
زجّ كتلة المشاعر هذه في خانة واحدة، في خانة ما يسمّى “الحبّ”، يعدّ اختزالًا لها، فربّما كانت الفتاة نفسها تجسيدًا لإيحاء أو فلنقل لـ”وحي” لا يعرف رجب العالي من أين أتاه بأنّ الحياة حراكٌ، وأملٌ، واختبارٌ، وتغيرٌ، وتبدّلٌ، وتقلّبٌ، وهيجانٌ، وتمرّد؛ هذا “الوحي” غير معروف المصدر لا يأتيه في ثوب لغوي، ولكنه يشعر به في يومياته، من ذلك أنّه إن توضّأ يوم الجمعة شعر بالفلج ماءً جاريًا وطحالب خضراء وأسماكًا صغيرة جدًّا، يقع ذلك منه موقعًا، فيطوّل وضوءه على غير عادته؛ فـ”صخب” ألوان هذه الأسماك يشدّ عينيه كما شدّهما صخب ألوان أسوار الفتاة؛ وإن أغمض عينيه رأى الأسماك تنسلّ بين الشّقوق وتغير ألوانها السوداء إلى فضّية لامعة؛ لعلّ هذه الفسيفساء من الألوان وهذا التمازج بين الحواس رسالة من وعيه الباطني أنّ غنى الحياة هو أن تعاش بألوانها المتمازجة المختلطة.
ولعلّه يشعر بهذه الرسالة، فالمطّرد والثابت من حياته آلَ الآن إلى مادّة قابلة للنسيان، وكأنّه صرف نظره عن تسمّر الصورة إلى ركض الخيول، فقد نسي (أو كاد) ما جرى بينه وبين زوجه وبناته وابنه الأصغر، وما كان بشأن الجدب وأمّه المقعدة؛ فـ”الوحي” يأتيه من كل حدب وصوب: من تذكّره لجريان مياه الفلج، من السماء ملآنةً بآلاف النجوم المضيئة، من بنته قائلةً له إنّ النجوم وإن بدت ساكنة فإنّها تتحرّك، من شعوره بشبابه، فهو لم يبلغ الأربعين بعدُ، من وعيه أنّ شأنه قوّةً ونشاطًا شأن الخيول الراكضة في اللوحة؛ وهذه كلّها دلالة عندي على أنّ توقه إلى عالم بديل عن الثبات والاطّراد، عن العبودية، بات قريبًا من وعيه أو أنّه على وشك أن يُترجَم إلى كلام ملموس.
على أنّ هذا التوق يأبى أن يصل إليه استبصارًا أو اكتشافًا يخلخل تماسك المنظومة التراتبية؛ فبعد انتباهه فجأةً لانطفاء عيون الخيول في اللوحة، “بهت ناصر العبد “ و”انسكب كوب الشاي على الأرض” كما تقدّم الذكر؛ لعلّ الكاتب يريد أن يبرز لنا بهذه النهاية المفاجئة مدى رسوخ وتغلغل المنظومة فينا، فهذه تقهر خواطرنا ذات الطابع الإنساني، ولا سيما تلك التي تمسّ كياننا دون أن نشعر بها جليةً مكتملةَ الأركان، تلك التي تصل إلينا أو تصلنا عبر الكون، شجره وسمائه وسحابه ومياهه وهوائه، في صور وأشكال مبهمة مُشْكلة؛ فمؤسّسات المجتمع السّائدة تُخمِد هذه كلّها، تكبتها، بطرق بالغة الدقّة، فيقين ناصر “العبد” إنْ هو إلا سلاحها الخاتل الفاتك جدًّا للحفاظ على بقائها، ولكنّ ناصرًا يعدّ ذلك اليقين قيمة إن تخلّى عنها كان كمن ساء خُلقًا؛ لا عجب، إذن، أنّه يخاف “من اهتزاز يقينه” من ثبوت الحياة وسكونها. لنا أن نقول في الختام، انطلاقًا ممّا تقدّم، بأنّ الراوي يضع مساحة فاصلة بينه وبين ناصر، فيعالج هواجسه وعوالمه من غير إظهار أي تعاطف تجاهه، ويسجّل (بعض) ما يحسّ وما يفعل، من هذا التسجيل ما يعدّ تواطؤا مع التراتبية القائمة؛ أمّا الكاتب فيقدّم لنا عوالم بديلة عن الواقع، فيبين لنا أنّ ناصرًا وعيٌ هادئ ولكنْ لاوعيٌ هائج، سكونٌ وثبات ولكنْ تململٌ وحراك، تأثّرٌ بالحاضر الكئيب ولكنْ توقٌ إلى مستقبل بهيج؛ ومن تجمّعت فيه هذه الأضداد كان غير قابل للتصنيف ومن ثمّ تحدّيًا، على نحو من الأنحاء، للمجمع عليه من المؤسّسات.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
1 وهذا ما يُصطَلح عليه بـ”الكاتب الضمني”، انظر
Chatman S. Story and Discourse. Ithaca: Cornell University Press. (1978). Toolan, M. Narrative, a Critical Linguistic Introduction. London: Routledge. (2001 2nd ed). ولما كان خلقًا للقارئ فأنا أستخدم صيغة المذكّر بصرف النظر عما إذا كان المؤلّف ذكرًا أم أنثى.
2 “صبي على السطح” مجموعة قصصيّة صدرت في طبعتها الأولى عن دار أزمنة، عمّان، 2007، وفي طبعتها الثانية عن الانتشار العربي، بيروت، 2018.
3 ترد “المحبوب” بين الصفحة الـ25 والصفحة الـ30 من الطبعة الثانية الصادرة عن الانتشار العربي، بيروت، 2018.
4 لمعرفة تفاصيل رؤية الكاتب انظر مقالي: “الحبّ إشكالًا في ’المحبوب‘“ في جريدة الدستور الأردنيّة، https://www.addustour.com/articles/1158306-.
5 “الخيول الراكضة” قصّةٌ ترد بين الصفحة الـ37 والصفحة الـ40 من الطبعة الثانية الصادرة عن الانتشار العربي، بيروت، 201.