اليوم الثامن عشر من نوفمبر يرسل خيوط شمسه على كل شبر من أرض عُمان الغالية، وهو اليوم الذي شكل انعطافة تاريخية ومفصلًا في حركة الحضارة العمانية لاستعادة حيويتها ونشاطها، جاعلًا منها لاعبًا محوريًّا وفاعلًا ومؤثرًا في محيطها الإقليمي والدولي، وفي الداخل أرسى قواعد النظام السياسي الديمقراطي بأبعاده السياسية والاقتصادية والاجتماعية على أساس التعددية والشراكة المجتمعية الفاعلة في رفع أعمدة البناء للدولة العمانية العصرية، ما مكَّنها من تحقيق نجاحات كبيرة وملموسة في مجالات التعليم والصحة والصناعة، وإقامة ركائز الأمن والاستقرار.
وإذا كانت المقارنات إحدى وسائل إنعاش الذاكرة ونحن نحتفل اليوم بالذكرى الرابعة والأربعين للنهضة المباركة، فإنه لا بد من إجراء شيء منها لإنعاش ذاكرة الوطن والمواطن وخاصة أجيال الثمانينيات والتسعينيات والألفية الثانية للوقوف على كيف تجلى الإعجاز في الإنجاز، وعلى حجم التحديات التي واجهتها النهضة المباركة بقيادة حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ من أجل بناء وطن حضاري يسمو بذاته وبأبنائه. فالبدايات كانت شديدة التواضع، بل كانت من مستوى الصفر قبل أربعة وأربعين عامًا، والصورة كانت شديدة القتامة لمجتمع يعيش منتصف القرن العشرين بمعطيات القرن التاسع عشر، والمحظورات الكثيرة كانت دافعًا لكثير من المواطنين للارتحال إلى المناطق المجاورة طلبًا للرزق وللعلم أو للاثنين معًا، فظلمة الجهل كانت سائدة في الداخل والرزق كان شحيحًا ومتطلبات تغيير هذه الصورة بالغة السوء إلى الأفضل كانت غير موجودة، واستمرت الأحوال على هذا النحو إلى أن قيض الله لهذه البلاد فارسها ومنقذها وراعيها في الثالث والعشرين من يوليو 1970 المجيد ليمثل تبوأ جلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ نهاية لهذه الحقبة المظلمة من تاريخ عُمان، وبداية صفحة جديدة من التغيير والتطوير والتنمية والتحديث تستهدف كل جوانب النشاط الإنساني لتحقيق ما يليق بالمواطن العماني من العيش الكريم والمكانة اللائقة التي يستحقها.
وحين نقول ذلك ونشدد عليه، إنما نريد أن نقدم دعوة حق لجميع أبناء هذا الوطن وهم يحتفلون بكل زهو وفخر بالعيد الوطني الرابع والأربعين المجيد، بأن يحرصوا على هذا الوطن الطيب الغالي وأن يعضوا بالنواجذ على منجزاته ومكتسباته وفاءً وتقديرًا وامتنانًا وولاءً لبانيه الذي أهداهم إياه، وانتماءً وفداءً لوطنهم. فالحرص عليه هو أعلى درجات الوفاء والامتنان والانتماء والوطنية، وعِبَرُ تاريخ التفريط بالأوطان كثيرة ماضية وحاضرة، وليس هناك أشد عِبرًا منها من تلك العِبر الماثلة أمامنا اليوم في أقوام نازعتها أهواؤها ومصالحها الشخصية فقدمتها على مصلحة أوطانها، وباعت ولاءها وانتماءها للغرباء والدخلاء، ففرطت في جنب أوطانها وغدت تبحث عن ذاتها قبل أوطانها في طوفان بيع الأوطان والذمم وموالاة الأعداء.
يحق لنا اليوم أن نفرح، فلا أحد كان يسمع بنا أو عنا، فأصبحنا في مكانة يحسدنا عليها كثيرون، وأصبح جواز السفر العماني محل احترام وتقدير في كل مكان يرتحل إليه، وأصبحت عملتنا الوطنية أداة دفع مقبولة وقابلة للصرف في كل مكان بالعالم، وحملت الساريات العلم العماني في المطارات والعواصم الدولية التي أصبحت تجيد قراءة (نوتة) السلام السلطاني العماني، وأصبحنا ملء السمع والبصر عندما حصدنا الجوائز الدولية في الصحة والاقتصاد ومؤشرات السلام والأمن والاستقرار والتنمية البشرية، وعندما خصصنا الجوائز في البيئة وغيرها والكراسي العلمية التي تحمل اسم جلالة السلطان، وعندما تبنى العالم كله رأي السلطنة في العديد من القضايا ومنها التركيز على السلامة المرورية في الاحتفال بيوم الصحة العالمية، وعندما أصبح الاسترشاد برؤى السلطنة ضرورة لاكتمال السياسات الإقليمية والدولية، وعندما تم اختيار قائدنا ورائدنا ومعلمنا رجلًا للسلام يدعو إليه ويحث الجميع على تحقيقه على أساس من العدل والمساواة.
ويحق لنا أن نحتفل اليوم ونفخر بدولة المؤسسات التي استقرت دعائمها بمجلس عُمان ومجلسيه الدولة والشورى، وبمشاركة المواطن مشاركة حقيقية في صنع القرار من خلال انتخابات حرة نزيهة تتيح له اختيار من يمثلونه في مجلس الشورى، ودون أي تحفظات بعد أن اكتمل نضج التجربة التي بدأت بتدرج محسوب يتناسب مع معطيات كل مرحلة من مراحل العمل الوطني، وبمشاركة فاعلة للمرأة في الترشح وفي الإدلاء بصوتها، فضلًا عن مساواتها بشقيقها في الحقوق والواجبات.
ولأن الفرح حق لنا، فإنه كذلك يوجب علينا أن نجدد العهد والولاء ونلزم الدعاء لمقام من بعث الفرحة في قلوبنا، وجعل عُمان والعمانيين محل احترام العالم وتقديره بأن يديمه العلي القدير ذخرًا لنا، وأن يسبغ عليه أثواب الصحة والعافية والسعادة والعمر المديد، وأن نلزم الشكر لله الواهب لنا هذا القائد وهذا الوطن العزيز، والشكر لا يتحقق إلا بالحفاظ على الوطن ومنجزاته ومكتسباته والسير خلف خطى قائده ـ أبقاه الله.