يبدو أن فترة الاستراحة التي حصلت لجائحة كورونا (كوفيد19) قبل فترة، وظنها الكثيرون بأنها سحابة صيف عما قريب تنقشع، لم تكن مبنية على استقراءات دقيقة لواقع هذا الفيروس. ولعل السبب في ذلك يرجع إلى قصور دور مراكز البحوث العلمية والتشخيصية ومراكز التحليل الإعلامي القادرة على حسم مسار المواجهة مع الفيروس، وما نتج عنه من فجوة أدت إلى مزيد من التداول المعرفي غير المؤطر أو المقنن الذي عايشه كورونا، والذي لم يكن تدخُّل أهل الاختصاص والفاعلين والمؤثرين فيه إلا قليلا، بينما ترك الحديث فيه للعامة، وضجت منصات التواصل الاجتماعي والواتس أب بالكثير من الرد المعلوماتي والمغالطات حول كورونا، إذ كلٌّ يفسره بمزاجه والمذاهب الفكرية التي ينطلق منها، والزاوية التي يقرأ بها الواق، والبعد الأيديولوجي الذي ينتمي إليه إعلاميا أو سياسيا أو فكريا أو دينيا أو مجتمعيا إلى غير ذلك، وبينما كان المتوافر في المنصات الإعلامية الرقمية حول الفيروس لا يتعدى أن يكون تراشقا كلاميا اتجه الناس فيه لقناعات متباينة غير محدد الوجهة أو محسومة المصدر، حتى وصل الأمر بالشعوب والمجتمعات إلى مرحلة تدني استيعاب معطيات هذه الجائحة ومتطلباتها، على الرغم من ما انتهجته دول العالم وحكوماته من تفعيل الإجراءات الاحترازية والتدابير الوقائية والاشتراطات للحد من انتشار الفيروس، إلا أنها لم تنهِ وجوده، لقد أسهمت هذه الفجوة المعرفية في سبر أعماق فيروس كورونا وحالة التذبذب الفكري في البحث عن حقيقته وأسبابه والمتسبب فيه إلى ضبابية الصورة، وكان من نتيجة ذلك أن تم التعامل مع ما اتخذته الحكومات من تدابير وإجراءات بشيء من الاهتمام الوقتي ولفترة محددة، في حين ظلت عملية البحث عن مراجعات ومعالجات دولية لهذا المرض تتسم بالبطء والتباين والتنظير الذي لم يصل إلى علاج فعلي للمرض، وظلت المسألة في أكثر الأحوال اجتهادية تختلف الدول في عملية تطبيقها مع وجود مسار مشترك بينها جميعها في طبيعة التدابير المتعلقة بالفيروس والمتمثلة في التقيد بإجراءات التباعد الاجتماعي والاتصال الجسدي، والمداومة على غسل اليدين بالماء والصابون، والتقيد التام بإجراءات العزل الصحي والالتزام بأساليب الصحة العامة والسلامة الشخصية ولبس الكمامات واستخدام المعقمات وعدم الخروج من المنزل إلا للضرورة القصوى، واتباع العادات الصحية السليمة في أثناء العطس والسعال، واستخدام مقياس الحرارة في المؤسسات الحكومية والخاصة وغيرها من مراكز التسوق وتعقيم الأدوات المستخدمة لنقل الأمتعة مع غيرها من الإجراءات الاحترازية التي أقرتها اللجنة العليا المكلفة ببحث آلية التعامل مع التطورات الناتجة عن انتشار فيروس كورونا (كوفيد19) ووضعت جهات الاختصاص آليات العمل بها والتعامل معها، حيث بدت كل تلك الإجراءات واقعا عمليا وسلوكا واضحا في المجتمع، ومع استمرار العالم في هذا النهج بدون أن يكون لديه بصيص أمل لمعالجة مقنعة بتجريب لقاح معتمد يتفق العالم على مصدره خصوصا مع تزايد أعداد التعافي باستخدام بعض الأدوية المعتادة المستخدمة في أعراض الصداع والسعال والزكام؛ ومع كل هذه المعطيات ظل كورونا (كوفيد19) يتسع في نطاقه وينتشر لمساحات أوسع في البلدان، متخذا من شكوك المجتمعات وظنونها، وعدم اتفاق الحكومات على حقيقة واحدة حول هذا المرض، وما يُبث حوله في اليوم والليلة من سيل المعلومات والوسائط التقنية المتباينة في تشخيص الحالة، مدخلا لعودته من جديد وعبر ما تشير إليه إحصائيات منظمة الصحة العالمية من زيادة أعداد المصابين بالمرض والوفيات حول العالم في الشهرين الأخيرين عن الأشهر الأربعة الأولى من بدء انتشاره.
ورغم ذلك كله، إلا أن ما تحكيه الإحصائيات ومؤشرات الواقع الوطني ينذر بمخاطر كبيرة، في ظل تزايد أعداد الإصابات بالمرض بشكل غير مسبوق يفوق التوقعات ويتجاوز التكهنات، وتزايد أعداد الوفيات لتسجل في شهر واحد أضعاف ما تم تسجيله في الأربعة أشهر الماضية، الأمر الذي سيكون له تبعاته الكبيرة على أداء القطاع الصحي وتوفير فرص العلاج لهذه الفئات خصوصا مع تزايد أعداد المنومين بالمستشفيات وفي العناية المركزة، الأمر الذي يطرح في ظل هذه المرحلة التي اتجهت فيها رؤية العمل إلى فتح أغلب الحزم الاقتصادية والتجارية والصناعية والخدمات وغيرها، واتساع انتشار الأفراد خارج منازلها بشكل يفوق التصورات وذهابها لأعمالها، ما قد يعيد مربع الإجراءات إلى عهدها السابق وما يترتب على ذلك من خطورة في كل الحالات، وبالتالي ما يطرحه هذا الواقع من تساؤلات حول واقعنا الوطني والملامح القادمة لهذا التطور المستجد في إدارة هذا الملف، فهل عاد كورونا إلى الواجهة من جديد؟ وهل مواجهة كورونا بعد فترة العودة الآمنة مواجهة جديدة يستطيع المجتمع تحمل تبعاتها وأثرها في ظل رغبة حثيثة للتعافي واستشعاره بصعوبة الوضع السابق في ظل حالة التعليق والمنع والإغلاق؟ بالإضافة إلى الآثار الاقتصادية الناتجة عن الإغلاق للأنشطة الاقتصادية التجارية والصناعية الخدمات والتي أفصحت عن الحاجة إلى إعادة توجيه مسار العمل الموجه نحو كورونا في ظل مرحلة جديدة عنوانها “العودة الآمنة المشروطة بالضوابط والتدابير على مستوى الفرد والمجتمع والمؤسسات مع بقاء مرتكزات التعامل الاجتماعي والعلاقات المجتمعية في الحد من انتشار الفيروس قائمة وسارية المفعول”. ولعل ما تحمله البنية الخطابية لقرار اللجنة العليا المكلفة يوم الثلاثاء 30 يونيو 2020 من لغة جديدة في استهجان الأمر، وحالة القلق التي يثيرها الوضع والتغيير الحاصل في المحتوى الخطابي في قرار اللجنة العليا، إنما يعكس حجم الوضع الكارثي ـ إن صح التعبيرـ والذي جاء أيضا ما يعززه على لسان الكثير من الأطباء والممارسين الصحيين بمستشفيات السلطنة وتغريداتهم في منصات التواصل الاجتماعي وما حملته من أحداث مؤلمة قد تؤدي إلى عجز أو شلل في القطاع الصحي والعناية المركزة إن لم يتم تدارك الأمر وينتبه المجتمع بمختلف شرائحه وفئاته لممارساته ومسؤولياته الموجهة نحو كورونا ويحافظ على سقف التوقعات عاليا عبر التقيد بالإجراءات والالتزام بالتعليمات، حيث جاء في قرار اللجنة ما نصه: “وقد تابعت اللجنة بقلق بالغ المؤشرات الوبائية لجائحة كورونا (كوفيد19) والتي تشمل الارتفاع الكبير في الحالات المصابة، خصوصا بين المواطنين، وارتفاع أعداد الحالات في العنايات المركزة والأجنحة وأعداد الوفيات، وما توصلت إليه عمليات التقصي من وجود عدم التزام من قبل البعض بالإجراءات الاحترازية لتجنب الإصابة بالفيروس”.
من هنا، فإن ما تكشف عنه الحالة العمانية اليوم من تزايد عدد الإصابات والوفيات يستدعي إعادة قراءة متجددة لمسار العمل الوطني في التعامل مع فيروس كورونا (كوفيد19) عبر التفكير في بدائل للمعالجة والحل تصنع لمنظور الرهان على الوعي المجتمعي فصولا جديدة تأخذ بكل المستجدات الحاصلة في هذا الشأن، وتفعيل كل خطوط التأثير الوطنية، خصوصا ما يتعلق منها بدور التعليم ومؤسسات المجتمع المدني والإعلام ومؤسسات التنشئة الاجتماعية وجمعيات المرأة العمانية والأندية الرياضية والشبابية في تقديم صورة عمل نموذجية عبر محورين رئيسيين، يقوم الأول على الدفع بالمجتمع إلى الاستمرار في التقيد بالإجراءات الاحترازية والتدابير الوقائية والاشتراطات الصحية وغيرها على المستوى الشخصي والمجتمعي، والتأكيد على ذلك بالشكل الذي يصنع قوة تنفيذية لها من المجتمع وحافز باستدامة هذا الأمر، ونقله من حالة المزاجية والاختيار الذاتي حسب قناعات الفرد المواطن والمقيم، إلى كونه مسؤولية واجبة التحقيق من كل أفراد المجتمع، هذا الأمر من شأنه أن يقلل حالة الاسترخاء الحاصلة في التعامل مع الفيروس، خصوصا بعد فتح حزمة الأنشطة الاقتصادية والتجارية والصناعية وشعور المواطن والمقيم بأن الفترة الماضية كانت كافية في بذل الجهد والتضييق على النفس في الحد من المرض أو أنه التزم بالدور المرجو منه في الفترة الماضية بما عليه من واجبات، وبقي عليه أن ينطلق لممارسة حياته بدون أي تعقيد، هذا المفهوم الذي باتت تتداوله الممارسة المجتمعية ـ وللأسف الشديد ـ أدى إلى التنازل عن الكثير من الالتزامات والتعهدات الشخصية والمجتمعية المرتبطة بجائحة كورونا، وهي في الأساس مبادئ تتعلق بثقة الفرد بقدرته على المواجهة وقناعاته وحرصه والتزامه، لذلك كانت الحاجة إلى تنشيط مستمر وتذكير دائم باستمرار هذا الواجب ووضع المواطن والمقيم في صورة الواقع واستجلاء الدروس والعبر منه وتوضيح نتائج الالتزام من عدمه المتحققة في فترات زمنية معينة، وبالتالي أن تشهد الفترة القادمة حضورا استثنائيا لمؤسسات التأثير الوطنية وإدخالها في سياق العمل الوطني الموجه نحو كورونا، وإضافة مساحات أكبر لقراءة أثر استمرار الوضع والمخاطر الناتجة عنه، حتى وإن تطلب الأمر زيادة مساحة التأنيب في خطاب اللجنة الموجه المواطن والمقيم ووضع الجميع أمام مسؤوليته في تحمل أية نتائج أخرى تتعلق بتزايد عدد الحالات، وأن يظهر هذا النمط الخطابي في بنية قرار اللجنة العليا المكلفة وليس فقط في حديث بعض أعضاء اللجنة في المؤتمرات الصحفية الأسبوعية التي تعقدها.
وينطلق المحور الثاني من حيث انتهى إليه المحور الأول وهو إعادة قراءة مسار المؤتمرات الصحفية التي تعقدها اللجنة بطريقة أخرى من خلال إدراجها ضمن قرارات اللجنة بحيث يأتي قرار اللجنة بعد المؤتمر الصحفي، وأن يشمل القرار مؤشرات الواقع التي يشير إليها أعضاء اللجنة في المؤتمر الصحفي وردودهم على الصحفيين، وهو الأمر الذي سيسهم في نقل اللغة الخطابية للمؤتمر الصحفي في كونها تعبر عن رأي اللجنة وليس رأي العضو، وتقرأ الواقع في ظل مساحة قوة أكبر باعتباره قرارا نافذا من رئيس اللجنة وأعضائها وليس رأيا خاصا بأحد أعضائها المتحدثين، لذلك نعتقد بأهمية حضور معالم المؤتمر الصحفي في قرارات اللجنة، بالإضافة إلى إعادة حسم اللغة التعبيرية والتواصلية وتوجيهها لخلق مساحة من التقييم الداخلي الذاتي في سلوك المجتمع، إذ من شأن هذا التحول أن يعطي ما يُطرح من بدائل وأفكار قوة التنفيذ القانوني وليس لمجرد حديث ومقاطع مرئية وصوتية يتداولها المجتمع من باب المعرفة والثقافة العامة فقط دون التقيد بها والالتزام بما ورد في محتواها، خصوصا في ظل ما تحتاجه عملية المراهنة على الوعي من تدخل فاعل للتشريعات والقوانين والأنظمة، وهو ما تأكدت أهميته في تكليف اللجنة العليا لشرطة عمان السلطانية باتخاذ الإجراءات القانونية النافذة في متابعة قرارات اللجنة العليا.
وعليه، فإن هذه الزيادة الحاصلة في حالات الإصابة والوفيات تكشف عن الحاجة إلى المزيد من الإجراءات الضبطية والتشريعات الملزمة أو العقوبات المحددة بالسجن والغرامات المالية الأخرى مع الإبقاء على مسار التعامل مع الأنشطة الاقتصادية على ما هو عليه من زيادة الحزم الأخرى لتشمل مختلف الأنشطة الاقتصادية والتجارية والصناعية المتبقية، فإن بناء وعي مجتمعي مستدام وترقية مسارات التقدم في هذا الجانب يستدعي صناعة النماذج والقدوات في المجتمع الملتزمة بقرارات اللجنة، وتشجيع المجتمع على تبني المبادرات الفردية والمجتمعية بمختلف اشكالها وعلى مستوى المجمعات السكنية والولايات والمحافظات وعبر توجيه الشباب للعمل التطوعي من خلال تقديم مسار توعوي للتقليل من تزايد أعداد الإصابات في الولايات خارج محافظة مسقط، وما يترتب على ذلك من إشكاليات أخرى نظرا لتواجد كبار السن فيها وطبيعة العلاقات الاجتماعية بينها، فإن توفير هذه المظلة من الحماية للعمل التطوعي وتشجيع قيام الجمعيات التعاونية التطوعية على مستوى الولايات أو عبر منصات التواصل الاجتماعي بحيث تقوم بدور مساند للجنة العليا في زيادة مسارات التوجيه والنصح والتوعية والتثقيف لتصل إلى كل بيت، وبالتالي زيادة إنتاج مساحة القوة الذاتية في التعامل مع المرض وانتقال مسؤولية العمل من الدولة إلى المواطنين والمقيمين دون استثناء.
من هنا، نعتقد بأن عودة كورونا للواجهة بحاجة إلى معالجات أكثر ارتباطا بمستجدات الحالة، وأن تستمر رؤية المتابعة والتشخيص والتحليل والاستقراء وفق المؤشرات الإحصائية للوضع العام على أعلى مستوياتها من الجاهزية والتنسيق والكفاءة، بالإضافة إلى تأصيل فقه وثقافة ومفهوم العودة الآمنة في المجتمع بشكل يتوازى في القوة والاحتواء والضبطية مع ما تم من جهود سابقة في تأصيل فقه التباعد الاجتماعي والجسدي، وما تبعها من قرارات بمنع التجمعات بكل أنواعها وفي كل الظروف والأحوال، فإن الوضع الراهن الذي يعكسه تزايد حالات الإصابة والوفيات يستدعي أيضا تصحيح المفاهيم المغلوطة لدى المجتمع حول مفهوم العودة الآمنة ووضع الاشتراطات والمعايير والالتزامات المعززة لها في الواقع وتوفير الممكنات الفكرية والمعلوماتية والنفسية والأدائية والرقابية لطرح مسار العودة في الواقع الاجتماعي بالصورة التي يحتاجها المجتمع والتي تتجه إلى الحد من انتشار الفيروس وتقليل عدد الإصابات وتوفير مساحة أمان مجتمعية تتجه بعمان نحو التعافي، مع ما تتطلبه هذه المرحلة من الحسم والتقنين والتنظيم في مساراتها وبشكل أخص في الاستفادة مما يطرح من أفكار من المواطنين عبر منصات التواصل الاجتماعي وتحليلها واتخاذ القرار المناسب لوضعها في أرضية الواقع.
ويبقى تعاون المجتمع من مواطنين والمقيمين مع المسح الوطني الاستقصائي لجائحة كورونا (كوفيد19) الذي تقوم به وزارة الصحة بالتعاون مع المركز الوطني للإحصاء والمعلومات، وتبنيه الأدوات التشخيصية المناسبة والمتعددة كالملاحظة والمعايشة والرصد بالإضافة إلى الاستبانة، لمعرفة مكامن الخلل ومواطن القوة من واقع الملاحظة والمواقف الحاصلة والرصد الدقيق النوعي الشامل المتكامل الذي يدخل في عمق الحدث ويسجل القراءات النوعية الدقيقة حول واقع ما تعيشه الحالات المصابة للوصول إلى قيمة معرفية نوعية واضحة حول مستجداته، ومستوى الإعلاء من قيم الشفافية والمصداقية والموضوعية ووضوح البيانات وقدرتها على التعبير الفعلي عن الواقع، سوف يضمن الوصول إلى حلول وبدائل أكثر ارتباطا بمستجدات الحالة، تتيح للجنة العليا المكلفة مساحة لتقييمها واتخاذ القرار بالبديل المناسب أو إعادة هندسته بما يتوافق مع متطلبات المرحلة المقبلة.


د.رجب بن علي العويسي
[email protected]