لقد فرض كورونا (كوفيد19) على العالم واقعا جديدا وتحولات عميقة في منظوماته الاجتماعية والاقتصادية والصحية والثقافية والتقنية والسياسية والقيمية والأخلاقية والوعي الاجتماعي، انعكست على ممارسات المجتمع وقناعات أفراده، ويشكل البعد النفسي في أحداث كورونا أهمها على الإطلاق نظرا لتأثيراته العميقة غير الظاهرة المرتبطة بالسلوك الإنساني والتحديات الداخلية التي باتت تحد من قدرته على المواجهة أو استمراره في التعاطي مع أحداث هذه الجائحة وتطورات هذا الفيروس وسرعة انتشاره، وحالة القلق والرعب التي باتت تسيطر على حياة الأفراد والمجتمعات في ظل استكمال كل الإجراءات الاحترازية والتدابير الوقائية المشددة التي لم تستطع إيقاف انتشاره أو الحد من استمراريته، وما أوجده ذلك من تأثيرات نفسية تفوق الوصف وتنذر بمخاطر قادمة على الأمن النفسي للإنسان وفقدان الثقة بالذات والتحديات التي باتت يؤصلها في ثقافة المجتمع وقناعاته حول كورونا، في ظل ما يشهده ملف كورونا من ازدواجية وتباينات وعدم وضوح المسار أو قدرة التشخيص الحالي في رسم ملامح واضحة حوله وتضع أجندة عمل واضحة تحسم أمره، لتصبح كل التوجهات مجرد إجراءات اعتيادية ومسكنات وقتية لوضع العالم في صورة مكبرة حول المرض، وما تبع ذلك من ضبابية في المفاهيم المتداولة حوله، وضعف الاتفاق العالمي على مسار واضح يبعث للطمأنينة والتفاؤل بنهاية هذا المرض، خصوصا في ظل ما أفصحت عنه مؤشرات الرصد العالمي لفيروس كورونا من تزايد خطير في أعداد الإصابات حول العالم وتسارع وتيرة ذلك على المستوى الوطني وما صاحب ذلك من زيادة في أعداد الوفيات، مما دعا اللجنة العليا المكلفة ببحث آلية التعامل مع التطورات الناتجة عن انتشار فيروس كورونا (كوفيد 19) إلى اتخاذ قرارات حاسمة تتسم بالغلظة والشدة في بنيتها الخطابية وتعليماتها في التعامل مع فيروس كورونا في المرحلة المقبلة، حيث جاء في بيانها الأسبوعي يوم الثلاثاء السابع من يوليو 2020 ما نصه: “وقد تابعت اللجنة بقلق بالغٍ تصاعد أرقام الإصابات والوفيات في مختلف محافظات السلطنة خلال الأيام الماضية جرَّاء هذا المرض، وتعرب عن استيائها الشديد من عدم التزام الكثيرين بالضوابط الاحترازية التي حددتها الجهات المختصة لمنع انتشاره في أوساط المجتمع، وهو ما ساهم في نقل العدوى لأهلهم وذويهم، وزملائهم في مواقع العمل، إضافةً إلى بقية أفراد المجتمع. وتعيد اللجنة التأكيد على الخطورة الشديدة لهذا المرض، وعلى عدم وجود لقاحٍ للوقاية منه ولا دواء لعلاجه حتى الآن، وعلى إمكانية تسببه في مضاعفات صحية كثيرة وخطيرة أدَّت في حالات عديدة إلى وفاة المرضى من جميع الفئات العمرية. كما تودُّ اللجنة أن تلفت انتباه الجميع إلى أن انتشار المرض قد أدَّى إلى ضغط شديد على الخدمات التي يقدِّمها القطاع الطبي، خصوصًا غرف العناية المُركَّزة، وهو ما قد يؤثر على ما يقدمه هذا القطاع من خدمات سواء للتعامل مع المصابين بهذا المرض أو بالأمراض الأخرى”.
إذ بهذه الكلمات أوجزت اللجنة بيانها حول الفيروس محذرة من قادم يدق ناقوس الخطر فيما تحمله حالة الاستهتار وعدم المبالاة من مآس على حياة المجتمع، إن هي لم تحسن التعاطي الواعي مع معطيات الفيروس، وتدرك خطورته وتقف على نواتجه على حياة الإنسان وصحته وأمنه، وما يؤديه تدني مستوى التزام المجتمع بالضوابط والاحترازية والتدابير الوقائية التي حددتها اللجنة العليا وبالتنسيق مع جهات الاختصاص في الحد من انتشار فيروس كورونا من تزايد في أعداد أرقام الإصابات والوفيات بمختلف محافظات السلطنة، وما يسببه تفاقم هذا الوضع من طلب شديد على الخدمات الصحية بالمستشفيات في ظل زيادة أعداد المنومين في أجنحتها عامة وفي العناية المركزة بشكل خاص، واستمرار التأثير السلبي على غيرهم من المنومين في المستشفيات من ذوي الأمراض المزمنة وقدرتها على توفير الرعاية الكافية والعناية الخاصة بهم وتوجيه الاهتمام إلى الحالات الجديدة المرتبطة بجائحة كورونا.
لقد ساهمت أحداث كورونا في إحداث فجوة كبيرة في الصحة النفسية في حياة المواطن والمقيم، ولم تعد بعد مضي أشهر على بدء الفيروس أفضل حالا من ذي قبل، بل ازدادت التراكمات السلبية في خطورتها واتساعها، ويطرح في ظل ذلك تساؤلات بداخله في القيمة التي تحققت له وللمجتمع في الفترة الماضية من الالتزام بالتعليميات والتقيد بالإجراءات والعمل بالتدابير الوقائية والاحترازية على مختلف المستويات وما التزمه من موجهات البقاء في المنزل، وعدم تحقق التواصل الجسدي حتى مع أقرب الناس إليه، وهاجس الترقب الدائم والخوف من الخروج من المنزل حتى لقضاء بعض الاحتياجات الأسرية أو العمل وعلاقة ذلك كله بمؤشرات تزايد الحالات واتساع انتشار المرض الذي تتحدث عنه التقارير، وفي المقابل فإن تزايد أعداد الإصابات بين المواطنين وأعداد الوفيات الذين يتساقطون صغارا وكبارا، رجالا ونساء، شبابا وفتوة، كارثة جديدة تلقي بأعبائها على وضع المجتمع النفسي ويرفع من مستوى القلق ويزيد من حالة الشعور بالسلبية وضعف المقاومة، ويقلل من قوة المناعة الذاتية في مواجهة المرض أو التغلب عليه بل والاستجابة له أيضا، ما يشكل خطرا يهدد حياة الناس ويثير بينهم الرعب والخوف، في فقد من يحبون، ناهيك عن عدم قدرتهم على القيام بمتطلبات دفن الميت، وقطع أي تواصل اجتماعي وجسدي مباشر معهم.
ومع ذلك فإن معطيات الواقع النفسي وتجلياته وأبعاده وانعكاساته كما أنها تشكل التحدي الأكبر في معادلة مواجهة كورونا، فإنها تمثل مسارا مهما في العمل الوطني القادم في التعامل مع مرض كورونا والتقليل من التأثيرات النفسية والاختلالات الحاصلة في المنظومة الفكرية والقناعات الشخصية لدى كثير من أبناء المجتمع، وأن تتجه رؤية العمل القادمة إلى وضع أجندة واضحة لهذا للبعد النفسي ومنحه مساحة أكبر في القرار الوطني والحزم الوقائية والعلاجية المتخذة في الحد من اتساع التأثيرات السلبية لفيروس كورونا، فمن جهة يجب أن يتخذ العمل موجهات أكثر عمقا في قراءة التفاعلات الذاتية الداخلية في الشخص المصاب وغيره وعبر إزالة الأوهام السلبية والقناعات الذاتية غير السارة التي تمنع المريض من المقاومة وتؤسس فيه وساوس الخوف بأنه ضحية مستهدفة أو أن نهاية المصاب بهذا المرض الموت أو أنه ليست لديه القدرة على تحمله، بما يصنع في ذاته مساحات الإرادة والامل وتغيير الحال وإعادة إنتاج الحياة في ثوب الصحة والعافية، وأن هذه المرحلة من العلاج المقدم له والكادر الصحي الذي يقف معه ويحتويه والجهود المبذولة من أجله بعد الاستعانة بالله والتوكل عليه، كفيلة بتجريب الحصانات الدفاعية لديه في تجنب الوسوسة والتواكل السلبي والشعور بالفشل واليأس والإخفاق، وزيادة معدلات القلق وشحنات الخوف التي ستسهم في عدم التعافي منها وتؤدي إلى سوء الحال وضعف المقاومة والتنازل للمؤثرات السلبية التي ستؤثر على صحته وتحمله وقدرتها على المواجهة والتعايش مع الوضع، وما صحب ذلك من تدني إقبال بعض المرضى أو المصابين بالفيروس على البرامج التوعوية والتثقيفية أو النظرة الدونية لها خصوصا عندما يكون الشخص المصاب أكثر حذرا والتزاما بالإجراءات والعادات الصحية أو نظرا لتدني المحتوى المحفز لهذه البرامج التوعوية والتثقيفية في تأثيرها على الفرد واحتوائها له بتوفير الاستراتيجيات النفسية والفكرية القادرة على تصحيح القناعات الذاتية والمجتمعية وإعادة توليد القيم والمفردات الحياتية اليومية التي تحفز النفس على التحمل والصبر والإيجابية والمزيد من الوعي وغيرها، بما يبني في الذات دعامات القوة وأساسيات المعالجة ونقاط التقييم، ورفع مؤشر الاستقرار النفسي والفكري وخفض درجة القلق والخوف وشبح الأوهام التي تلاحق المصابين بالمرض، بحيث تؤدي هذه البرامج إلى خلق مزيد من التصالح مع الشخص المصاب عبر ما تقدمه من محتوى توعوي وتثقيفي فاعل ومؤثر وتتيحه من فرض تغييرات إيجابية قادمة تظهر في حياته بأسلوب مؤثر وتقديم حزم وخطط حياتية ترافق الشخص المصاب وتتعايش معه في وقت إصابته وتنتقل معه بعد التعافي ليمارس دوره في التبرع بالبلازما وتوعية المجتمع وتثقيفه في ظل استقراء نواتج المعايشة مع المرض التي مر بها والمواقف التي حصلت له من واقع التجربة والمشاهدة اليومية بما يعزز من مساحة التفاؤلية لديه والأمان النفسي فيه.
ويبقى أن نشير إلى أن التحولات النفسية التي بات المجتمع يعاني منها بحاجة اليوم إلى تبني أدوات واستراتيجيات تتوافق مع طبيعة هذه الحالة وتقرأ الظروف النفسية غير الظاهرة والهواجس الداخلية غير المشاهدة التي أصبحت تقتل الناس في داخلهم وتموت كمدا على هذا الوقع وخوفا منه وشعورا سلبيا بنهاية الحياة أكثر من تأثير المرض ذاته، وإذا كانت السلطنة وبناء على التوجيهات السامية لجلالة السلطان المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ وعبر اللجنة العليا المكلفة قد شكلت لجنة أخرى تهتم بالبعد الاقتصادي ودعم المؤسسات الصغيرة والمتوسطة المتضررة من هذه الجائحة وتقليل الأثر المالي المترتب على القطاع الخاص والشركات والحزم والحوافز والإجراءات المتعلقة بالضرائب على الشركات والمؤسسات الخاصة المتضررة والتي سيقوم جهاز الضرائب بالإعلان عنها حسب ما أشار إليه بيان اللجنة المشار إليه سلفا؛ إلا أن البُعد النفسي في معادلة التعامل مع كورونا أشد خطورة وأقسى أثرا، والتساهل فيه نذير شؤم بازدياد حالات الوفيات، سواء من المصابين بهذا المرض أو الذين لديهم أمراض مزمنة ويتعايشون بين أبنائهم في المجتمع، خصوصا مع انتقال المرض إلى المحافظات والولايات وتزايد انتشاره بين أوساط أبناء المجتمع وما يسببه تزايد مساحات التواصل بين الأهل والأقرباء من مخاطر كبيرة لوجود كبار السن أو أصحاب الأمراض المزمنة، بما يعني الحاجة إلى تبني سياسات وطنية تعالج البعد النفسي الناتج عن كورونا وتضع الآليات والأدوات المحفزة نفسيا أو المعززة لجانب الإيجابية والتفاؤل، وتبني البرامج التوعوية والتثقيفية والفكرية وإدارة الذات وتغيير القناعات بالشكل الذي يقلل من الهاجس النفسي والقلق المصاحب لفيروس كورونا على حياة المصابين وغيرهم، وتعزيز حضور البُعد النفسي وثقافته الوقائية والاستباقية والعلاجية في المستشفيات الحكومية والخاصة ومؤسسات التعليم ومراكز الاستشارات النفسية والمشرفين النفسيين المتخصصين ممن يمتلكون رخص مزاولة هذا النشاط مع تعظيم الاستفادة من الكفاءة الوطنية المجيدة، وتوفير الأدوات والآليات والممكنات الداعمة، وأطر التقييم والمتابعة المنظمة، بالإضافة إلى ترقية دور الإعلام والتعليم والمجتمع والخطاب الاجتماعي والأسري الذي ينبغي أن يتجه لرسم مساحة أمل ونافذة حياة جديدة تطل بإشراقتها وبهائها على حياة المصاب بفيروس كورونا أو غيره ممن هم في الحجر المنزلي أو العزل الصحي لتشمل كل فئات المجتمع، بحيث تصبح منصة وقائية وداعما إيجابيا في التعامل مع كورونا، وتهيئة المجتمع وتوعيته المستمرة للتعايش مع كورونا وفق مبدأ العودة الآمنة، وتعميق الحافز النفسي وتجسيده في حياة الفرد، وتصحيح الصورة الذهنية للمفاهيم المغلوطة حول تخصيص أماكن محددة للمصابين بالمرض أو المراجعين أو الذين يجرى له فحوصات حول كورونا بالمراكز الصحية الحكومية، وتهيئة البيئة الإيجابية النفسية والصحية بشكل يصنع الفارق ويعيد تصحيح الأفكار السلبية السابقة، وامتلاك الأطباء والممارسين الصحيين عامة والصحيين النفسيين خاصة لهذا السلوك والثقة النفسية التي تدفع مرضاهم إلى التجاوب السريع للعلاج، وترقية ذاته على تقبل الوضع وترسيخ التفاؤلية والإيجابية والتحصين النفسي القائم على خلق مساحة أمان تنقل الشخص المصاب وغيره إلى مرحلة القوة وتبني فيه الأمل بقادم جديد وحالة مستقرة تبدأ من الحالات المصابة بالمرض والتخفيف من وقع الألم النفسي عليها، ثم تتجه إلى مختلف المرضى والمصابين بأمراض عادية أو مزمنة.
وعليه، يشكل دعم البُعد النفسي في مواجهة كورونا عنوان المرحلة المقبلة في عمل اللجنة العليا المكلفة وأحد أهم خيارات المعالجة ومضمدات الجرح، وعبر توفير برامج الصحة النفسية على مستوى الفرد المصاب والسليم والأسرة والمؤسسات والمجتمع، لما يشغله التفكير الداخلي والهاجس النفسي من موقع في حياة المصاب، وأهمية وجود إطار مؤسسي وطني ينبثق من مرجعية اللجنة العليا بحيث تدخل فيه كل القنوات الوطنية ذات العلاقة مع الاستفادة من الفرص والكفاءات العمانية العاملة في هذا المجال أو التي ثبت بعد التجريب قدرتها على إيصال رسالة إيجابية للمجتمع وصورة تجسد مساحات الأمل والتفاؤل والتعايش مع كورونا، وأن تبادر مراكز البحث النفسي بالجامعات في إجراء الدراسات التشخيصية والتتبعية ودراسات الحالة النفسية المرتبطة بحالات كورونا وفق مناهج بحثية تتجه لسبر أعماق التفاعلات النفسية واستقراء مسارها عبر أدوات أكثر عملية وضبطية في التعبير عن السلوك النفسي ورصده وتحليله، بالشكل الذي يضمن تقديم مسار واضح يعين اللجنة العليا المكلفة على العمل من خلاله في إثراء هذا البُعد وتبني اجندة عمل يمكن خلالها التعاطي الواعد والممنهج مع المرض من منظور نفسي، للوصول إلى قرارات سليمة واستراتيجيات محددة وبرامج عمل تساعد في تقليل الأثر النفسي الناتج عن المرض على مختلف فئات المجتمع والحد من تفاقم الوضع الصحي للكثير من المرضى الشباب الذين يمتلكون دفاعات مقاومة للمرض تقلل من دخولهم في العناية المركزة، فهل سيجد البُعد النفسي في المعادلة الوطنية ممثلة في عمل اللجنة العليا المكلفة حضوره الواسع في حزم التدابير والإجراءات المقررة للتقليل من تأثير كورونا كما هو حاصل في البُعد الاقتصادي؟

د. رجب بن علي العويسي
[email protected]