[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/aliaklahersan.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]علي عقلة عرسان[/author]

هناك غير هؤلاء ممن ذكرت الكثير من المجاهدين المناضلين ضد الاستعمار والغزو الأوروبي، وضد الوجود الصهيوني لفلسطين ومنهم الحاج محمد أمين الحسيني (1895 ـ 1974) مفتي القدس وغيره وغيره..
من هو الإمام شامل الذي شهَّر به رسول حمزة “حمزاتوف” بشعره عام ١٩٥١ واتهمه بالخيانة ونشْر الكراهية وبالعمالة للإنجليز والتبعية للأتراك “للعثمانيين”، ثم اعتذر عن ذلك وأقر بخطيئة لا تغتفر، بشعر نشره عام ١٩٦١؟! ولد الإمام شامل عام 1797 في قرية غيمري من قرى داغستان في شمال شرق القفقاس لأسرة آفارية، وكان أبوه صاحب أملاك زراعية وأمه من أسرة ذات مكانة بين الآفاريين، وأتقن شامل اللغة العربية وأصبح من الفقهاء.. وهو القائد الثالث لجهاد القفقاسيين ضد الزحف الروسي على بلادهم الذي بدأ في عام 1828، حيث استمرت مقاومة المسلمين القفقاسيين للروس 31 سنة قادهم فيها شامل 25 سنة حيث استلم القيادة عام 1834، وكان القائد الأول للمقاومة الإمام غازي محمد الغيمراوي الداغستاني “1795 - 1832 “ الذي بدأ دعوته وقيادته بالقول “إن الصلاة وإعطاء الزكاة والحج لن تكون مقبولة من الله، حتى الزواج يصبح باطلا والأطفال يعتبرون غير شرعيين طالما الروس لا يزالون في منطقة القوقاز”، وتلاه الإمام حمزة بيك، ثم تولى القيادة الإمام شامل، واستمر في قيادته للقفقاسيين خمسا وعشرين سنة، ألحق خلالها بالروس خسائر كبيرة، وقد كتب أحد الجنرالات الروس في مذكراته معلقا على خسارتهم في بعض المعارك: “يا لها من مصيبة مفجعة، إن الرجال الذين تناثرت أشلاؤهم هنا كان بمقدورهم فتح بلاد تمتد من اليابان في الشرق إلى أوكرانيا في الغرب”. وكانت لشامل خطط ناجحة في معارك منها معركة في إحدى قرى داغستان جعل السكان يسدون أبواب بيوتهم ويطيِّنونها بالطين ويكشفون سقوفها ويعيدون تمويه السقوف بالطين أيضا، فكان يقفز الروس إلى الأسطحة ليدخلوا المنازل فيجدون أنفسهم في كمائن شامل داخل البيوت. ومنها معارك في الغابات حيث يتسلق مريدوه أشجار البلوط العملاقة ويصبون الزيت المغلي ويقتلون به وبالسلاح الجنود الروس.. وكان الشيشانيون يتقدمون للمعارك مع الروس وهم يرتلون القرآن الكريم وينشدون أنشودة الموت التي تبعث فيهم الحماسة والقوة. وفي خططه القتالية و”مناوراته - تكتيكه” كان الشيخ يستجرّ الجيش الروسي إلى الجبال العصية والغابات الكثيفة فيهزمهم هناك.. وقد أعلن القائد الروسي عن جائزة لمن يسلم الشيخ شامل، فقال الإمام: “كم كانت سعادتي حين علمت أن رأسي يساوي هذا الثمن الضخم، ولكنك لن تكون سعيدا حينما أخبرك أن رأسك بل رأس القيصر ذاته لا يساوي لدي كوبيكا واحدا.”.. لم يخسر شامل في تلك الأماكن الجبلية إلا المعركة الأخيرة، لأن القائد الروسي الجنرال بارياتنسكي عرف تكتيكه فكلف جنوده بقطع الأشجار في الغابات والجبال فتعرض جيش شامل لخسارة كبيرة وحوصر.. وهكذا يوم سقطت الغابة استسلم شامل في موقعة قلعة غونيب ووقع في الأسر، وانتهت ثورته التي دامت قيادته لها خمسة وعشرين عاما. وبعد تسع سنوات قضاها أسيرا في موسكو سُمِحَ له بالحج، فذهب ومعه أفراد من أسرته.. وقد توفي في الديار المقدسة، في المدينة المنورة عام ١٩٧١ ودُفن في البقيع.
وتذكرنا سيرة الشيخ شامل ومواقفه وجهاده، برجال آخرين في زمن مقارب لزمنه، حيث كان الوطن العربي خاصة والعالم الإسلامي عامة يتعرضان لغزو الاستعمار الأوروبي والروسي.. فهذا شيخ الشهداء، وشيخ المجاهدين، وأسد الصحراء، عُمر بن مختار بن عُمر المنفي الهلالي 1858 - 1931 وأحد أشهر المقاومين العرب والمسلمين، قاد جهاد الليبيين ضد الاحتلال الإيطالي لليبيا وحارب الإيطاليين منذ كان عمره 53 عامًا لأكثر من عشرين عامًا، وألحق بهم خسائر كبيرة في عدد من المعارك، لا سيما في معارك الجبل الأخضر قرب بنغازي وأبدع في المناورة والكر والفر. وحين قبض الإيطاليون عليه عاملوه بوحشية، حيث أُجريت له محاكمة صورية، وأعدم شنقا وهو في سن الثالثة والسبعين وألقي جثمانه من الطائرة، ودُفن في منطقة بنغازي في قبر مجهول. وهذا محمد بن عبد الكريم الخطابي 1882 -1963، أسد الريف المغربي الذي قاد المقاومة الريفية ضد الاستعمارين الإسباني والفرنسي في المغرب، وعمل على جمع الأحزاب والقوى الوطنية المناضلة في سبيل استقلال المغرب وتونس والجزائر، وعلى كذلك على إرساء أسس الوحدة الوطنية المغاربية والنضال من أجل الاستقلال ودحر المستعمر، تحت شعار: “المغرب العربي بالإسلام كان، وللإسلام عاش، وعلى الإسلام سيسير في حياته المستقبلية”، وحين تغلَّب عليه الفرنسيون قرروا نفيه إلى جزيرة نائية لكنه لجأ إلى مصر في أثناء مرور السفينة التي كانت تُقِلُّه عبر قناة السويس، وتوفي في القاهرة. ويأتي في قلب هذا المناخ النضالي في الوطن العربي والعالم الإسلامي ضد الاستعمار الأوروبي، جهاد الأمير عبد القادر بن محيي الدين الجزائري “1808 - 1883” الذي قال عند تنصيبه أميرا قائدا لمقاومة الشعب الجزائري ضد الغزو والاحتلال الفرنسيين للجزائر، قال: قبلت هذا المنصب مؤملا أن يكون واسطة لجمع كلمة المسلمين، ورفع النزاع والخصام بينهم، وتأمين السُّبُل، ومنع الأعمال المنافية للشريعة المطهرة، وحماية البلاد من العدو، وإجراء الحق والعدل نحو القوى والضعيف، واعلموا أن غايتي القصوى اتحاد الملة المحمدية، والقيام بالشعائر الأحمدية، وعلى الله الاتكال في ذلك كله. قاد مقاومة الشعب الجزائري ضد الاستعمار الفرنسي لمدة خمسة عشر عاما، خاض خلالها معارك أجبرت الفرنسيين على عقد اتفاقية معه والاعتراف بالدولة الحديثة التي أقامها، لكنهم غدروا به كعادتهم.. واستمرت مقاومته للاحتلال الفرنسي دفاعا عن الجزائر، إلى أن نُفي فذهب إلى دمشق، وتوفي فيها، ودفن في جامع الشيخ محيي الدين بن عربي الكائن في حي الصالحية بدمشق.. وتم نقل جثمانه بعد عقود من الزمن إلى الجزائر. وهناك غير هؤلاء ممن ذكرت الكثير من المجاهدين المناضلين ضد الاستعمار والغزو الأوروبي، وضد الوجود الصهيوني لفلسطين ومنهم الحاج محمد أمين الحسيني (1895 ـ 1974) مفتي القدس وغيره وغيره.. وفي حين أن بعض هؤلاء الرجال أُنصِف فإن بعضهم نُسي والبعض أسيء إليه، والبعض لم يلق الضوء على نضاله.. وللأسف فإن ثقافة الاستعمار والتبعية له ما زالت فاشية ومنتشرة في أوساط سياسية وثقافية عربية وإسلامية، حتى ليتهجم عرب على أمتهم، ومسلمون على دينهم، من دون وعي ولا إدراك ولا وجه حق، ويتباهون بذلك في الوقت الذي يتطلب الوضع منهم نصرة الحق والعدل وصون الاستقلال واتخاذ مواقف الدفاع عن الأمة والهوية والأرض والدين.. وها هي قضية فلسطين أمامنا منذ قرن من الزمن على الأقل تصرخ وتستغيث، ودولنا العربية في ضعف وشتات، وأخرى في تبعية أو تآمر أو سبات.. وها هم علماء الدين والعلم والثقافة والقلم ممزقون موزعون بين هذا وذاك.. لهذا أكبرت موقف رسول حمزاتوف حين عرف وأدرك وصحا وتراجع عن خطأ فادح ارتكبه بحق مناضل قفقاسي آفاري هو الشيخ شامل، مقدما بذلك أنموذجا للتراجع عن الخطأ يستحق التقدير والاقتداء به..
وأستميح القارئ الكريم عذرا في أن أسوق بعض تفاصيل موقف رسول حمزاتوف وتراجعه عن الخطأ الفادح الذي ارتكبه بحق شخصية احتضنها قلب الشعب ووجدانه، من خلال كلامه وبيانه، وهو الآفاري الداغستاني القفقاسي العنيد.. فقد كتب حمزاتوف: “قرائي يذكرونني، ينكأون جروحي، يرمون شباكي بالحصى يقولون: رسول حمزاتوف: “في عام ١٩٥١ كتبت شعرا تشهر به بشامل وفي عام ١٩٦١ كتبت شعرا تمجد فيه شاملا.. وفي مطلع القصيدتين يوجد اسم رسول حمزة.. والآن نريد أن نعرف هل هذا رسول واحد أم أنهما رسولان مختلفان؟ وأي رسول نصدق؟ مسألة المسائل هذه. تستطيع أن تنزع من الجسم سهما أصابه، ولكن هل تستطيع أن تنزع من القلب هذا السهم..؟ كان عليَّ أنا أن أتخطَّى حدا وهو أني كنت أحب دون أن أتفهم عاطفتي بشكل جاد وكان عليَّ بعدها أن أندم بعد هذا؟!” - وأضع هنا قصيدته الاعتذارية وما قاله في تراجعه الشجاع عن الشيخ شامل بطل القفقاس المهيب، وهو مما جاء في كتابه “داغستان بلدي”، في نهاية الصفحة ١٠٦ والصفحات من ١٠٧ إلى ١١١
“من جديد يعود الجرح القديم الذي لم يلتئم
ليمزق قلبي ويحرقه بناره..
.. كان أسطورة قديمة.
منذ صغري أعرف كل ما قيل فيه في قرانا.
كان أسطورة امتزجت امتزاجا وثيقا بالواقع.
في طفولتي كنت أستمع منهم إلى قصص حية عنه
كانت غيوم المغيب تسبح فوق القُرى كأنها جيش باسل يقوده هو.
كان أغنية الجبال..
وهذه الأغنية كانت تغنيها أمي،
ولا أستطيع حتى الآن أن أنسى كيف كانت الدمعة في عينيها الصافيتين،
تستحيل ندى في المروج عند المساء.
المحارب القديم في قفطانه القوقازي يتأمل البيت،
وهو واقف في الصورة على الحائط.
أعسرا كان.
كان يمسك السيف بيده اليُسرى القوية،
والسلاح على جنبه الأيمن كان يتدلى.
أذكر الشيخ الأشيب وهو يودِّع أخويَّ الكبيرين إلى الحرب،
هو ينظر إليهما من الصورة.
وأختي نزعت عنها قرطها وسوارها كي تصنع بهما دبابة تحمل اسمه.
ووالدي في فترة وجيزة من وفاته كتب في البطل قصيدة.
لكن وا أسفاه!
لقد كذبوا على شامل كذبة خسيسة، وكان ضحية بريئة لأقاويل الجهلاء.
لولا هذا الحزن المفاجئ لكان والدي عاش أطول…
وأخطأت في حقه أنا: صدَّقتُ كل ما قيل،
وفي جوقة القادمين دوَّت أغنيتي الهوجاء
وسيف جدي الذي ظل في المعارك ربع قرن يردي الأعداء دون كلل،
أسميته في شعر الطّفولة، أنا الفتى الضال،
أسميته بكل فظاظة خائنا.
خطوته الثقيلة في الليل ذات وقع قوي
ما إن أطفئ ضوئي حتى يلوح في النافذة،
ويقترب مني مُدافعا شديدا عن قرية “أخولفو” تارة،
وتارة كشيخ من شيوخ غونيب.
ويقول: “في المعارك والحرائق العظيمة أرقت الكثير من دمي وتحمَّلت الآلام.
لقد أُصبت بتسعة عشر جرحا مُلتهبا،
وأنت أيها الغِرُّ.. أصبتني بالجرح العشرين.”
كانت هناك جراح خناجر وجراح رصاص..
لكن الجرح الذي سببته لي أوجع ثلاث مرات،
لأني لأول مرة يجرحُني جَبَليّ..
إساءة لا تعدلها إساءة..
قد تكون غزواتي غير ضرورية اليوم،
لكنها كانت في ذلك العهد تحمي جبالك.
أرى أن سلاحي قد شاخ الآن. لكن هذا الخنجر الحاد خدم الحرية.
كنت أحارب دون هوادة، بعناد الجبليّ،
لم يكن لي شأنٌ بالأغاني والمآرب،
كنت أحيانا أضرب الشعراء بالسوط وكنت مع الرواة قاسيا..
قد أكون أخطأت في مضايقتهم،
لم أكن أكبح جماح طباعي الناريّة،
لكني أرى، وأنا ألقى الثرثارين أمثالك،
أني كنت على حق في رفضي العنيف لهم”.
ظلَّ حتى الصباح يقف فوق رأسي مُعلِّما،
وأتبيّن ـ والظلمة الحالكة تلف البيت ـ لحيته الكثّة مطلية بالحنّاء،
وعمامته البيضاء مشدودة على قَلْبَقِه.
بماذا أجيب؟ أمامه وأمامك يا شعبي..
اقترفت خطيئة لا تُغْتَفَر.
كان للإمام نائب ـ محارب مجرِّب،
لكن الحاج مراد تخلَّى عن إمامه.
ثم قرر أن يعود نادما على ما فعل،
فسقط في مستنقع وعوقب العقاب الكافي..
هل أعود إلى الامام؟ فكرة مضحكة
ذلك الطريق ليس طريقي والزمان ليس ذلك الزمان
أنا على فعلتي الرّعناء أبكي خجلا وسُهادا..
أريد أن أستغفر الإمام، لكني مع هذا لا أريد أن أسقط في المستنقع.
قد لا يقبل اعتذاري،
قد لا يغفر لي أبدا ذلك الذي افتريت عليه،
فالذي يكتب بالسيف لا ينسى الإهانة التي تردَّدَت في أشعاري غير البالغة.
ليكن.. لكن أنت، يا شعبي، اغفر لي خطيئتي.
فأنا أحبك جبا جنونيا..
وأنت يا أرض بلادي، لا تنظري إلى الشاعر نظرة أمٍّ أساءَ إليها ابنُها”.
وتابع حمزاتوف يقول: لا أعرف إن كان الداغستانيون غفروا لي أشعاري القديمة تلك، ولا أعرف إن كان طيف شامل غفرها لي، لكني لن أغفرها أنا لنفسي أبدا. كان والدي يقول لي: لا تقرب شاملا. إن تقربه فلن تشعر بالطمأنينة حتى تموت، وقد كان والدي مُحقَّا”.. قد يحدث أن يفصل طريق ضيق بين نافذتي جارين، وفي كل نافذة يقف جار مقابل جاره. وها هما الجاران يتشاتمان، يحاول أكبرهما أو أصغرهما اتهام الآخر بتصرفات سيئة. أنا أشبه هذين الجارين المتلاحمين، إنما أنا الموجود في النافذتين: في إحداهما وقفت وأنا شاب، وفي الثانية وقفت وأنا في عمري الحالي. لقد أعماني بريق ذلك الزمان كما تعمي الفتاة الجميلة الشاب الغبي. كنت أنظر إلى كل شيء كما ينظر الخطيب إلى عروسه لا يرى فيها أدنى عيب”. هذا هو موقف رسول حمزاتوف المنتمي الشجاع الذي يعتز بانتمائه لشعب لا يتجاوز عدد أفراده المليون نسمة لكنه يراه من أقوى الشعوب، ويرى لغته الآفارية من أجمل اللغات وأقدرها على التعبير، ويرى رموز نضال شعبه ووطنه كجبال القفقاس الشاهقة عبر الزمن.. ولم يكن ذلك الموقف ليكون من رسول حمزاتوف الجبلي العنيد، لو لم يكون نضال الإمام شامل قد رسخ رسوخ جبال داغستان في قلب شعب داغستان وشعوب القفقاس، وإلا لم يبق حيا في الذاكرة والوجدان الشعبيين.. ولو لم يبق شامل “حيا في التراث الشعبي القوقازي، وفي الأغاني والأهازيج والقصص البطولية إلى اليوم.. ويتخذونه رمزا لمعاني الحرية، فقد زرع في الأجيال المتعاقبة بذرة تطلب الحرية”.

علي عقلة عرسان
كاتب وأديب سوري
[email protected]