يبدو أن مسلسل الاستهتار وسلوك عدم المبالاة أو حالة الفتور وضعف الهمة بالعمل بالإجراءات الوقائية والتدابير الاحترازية والاشتراطات التي حددتها اللجنة العليا المكلفة ببحث آلية التعامل مع التطورات الناتجة عن انتشار فيروس كورونا (كوفيد19) والجهات ذات العلاقة؛ يقود واقعنا الاجتماعي إلى الانتحار الإرادي الناتج عن وجود معرفه يقينية مدركة بالمخاطر المترتبة على انتشار الفيروس والأثر النفسي والصحي والاقتصادي والاجتماعي الناتج عنه مع الاستمرار في عدم التقيد بما يصدر من هذه الجهات المختصة، وبما يسببه ذلك من تعريض الفرد للمساءلة القانونية من جهة وتعمده في إيذاء نفسه وأسرته ومجتمعه في الإصابة بفيروس كورونا من جهة أخرى. وإذا كان الانتحار في أبسط تعريفاته ومعانيه يقوم على تسبب الفرد بطريق العمد في إيذاء نفسه وقتلها لسبب ما؛ فإن أقل ما يمكن أن يوصف به المستهترون بالقانون، المتجاوزون لكل المبادئ والأخلاقيات والقيم والمسؤوليات، المتنطعون للمسؤوليات، والمستهزئون بالمؤشرات والإحصائيات، والمتنكرون للجهود الوطنية في التعامل مع فيروس كورونا في كونهم منتحرين، بل قد يكون الانتحار أخف الأوصاف التي تعكس حالتهم وتصوّر سلوكهم وهمجيتهم، لتعمدهم إلقاء أنفسهم وأسرهم وأهليهم ومجتمعهم إلى التهلكة، سواء بنشر الفيروس بينهم، وحالة القلق والخوف وعدم الثقة في الحياة والشعور بالحزن الذي قد تصل نتائجه إلى فقد قريب لديهم وعزيز غالٍ على قلوبهم، في وضع مأساوي ينذر بكارثة صحية قد لا تتحمل ثقلها المنظومة الصحية باتت تتصدر المشهد الوطني اليومي في أحداث جسيمة وأوجاع أليمة وفقد متعب ووضع محزن، بما يعيثه هؤلاء المستهترون العابثون في الأرض ممن ضاعت إنسانيتهم وجفت قلوبهم وانحرفت أخلاقهم من فساد وإضلال، وأي فساد أعظم من التسبب في إيذاء أب وأم وأخ وأخت وابن وابنة وزوج وجار وصديق ومجتمع وغيرهم كثير، فهو أعظم جرم يرتكبه الإنسان في حق إنسانيته ووطنه ومجتمعه بسبب طيشه وعناده وإفراطه في تقدير نفسه، ومفسدة مهلكة وانتحار ممقوت متعمد للإرادة المدركة بكل حواسها العقلية والنفسية، متجاوزا بسلوكه الأرعن واستهتاره الجبان كل المعايير والموازين والأخلاقيات، متناسيا الجهود الوطنية التي بذلت من أجله على مدى الأشهر الماضية وما تحمّله أبناء الوطن المخلصون في كل مواقع العمل والمسؤولية والآباء والأمهات والأسر وغيرها من شدائد وصعوبات وتحديات في سبيل تجنيب أبناء هذا الوطن الغالي والقاطنين عليه مخاطر فيروس كورونا، ليضيّع باستهتاره ما تحقق من مكاسب، وما أنجز من منصات يفخر بها كل عماني في مختلف المجالات، وما أثبته العمانيون من التفاف خلف قيادتهم الحكيمة الذي ظلت متابعة باستمرار لتطورات الحدث ومستجداته، وتحمل المواطن والمقيم إرهاصات الفترة الأولى وما حملته من شدة وعسر وتقييد للحركة والتنقل وتأطير عملي لمسار التباعد الاجتماعي والجسدي والرقابة الأمنية الشرطية وغيرها، ويهدم بتنازله عن مبادئه واخلاقه ومسؤولياته وواجباته ما تم بناؤه، إنه انتحار للإرادة عندما تتجاوز الإرادة حدودها فاقدة الشعور بالآخرين، متنصلة من التزاماتها، وكأنها صاحبة الكلمة الأصدق والقوة الأقدر، ليصل حمقها إلى هلاك النفس والولد والأهل وكبار السن، وهو انتحار للإرادة عندما تفتقد لإنسانيتها وفطرتها السوية فتمرح وتسرح دون بصيرة أو نهج حتى تصبح كالبهيمية العجماء لا ترعوي لنصح ولا تنصت لتوجيه ولا تتأمل في واقع محزن قد حصل، وفقد لغالٍ وقريب ضاقت منه الأرض بما رحبت وتألمت منه المقابر، متناسيا عظمة التكريم الإلهي والتصوير البديع في أحسن خلق وأعظم رسالة وأسمى خُلق بما أودعه الله فيه من بصيرة العقل وإلهام الفكر وحس الإدراك والحدس بالمخاطر، إنه انتحار يؤدي بالإنسان إلى سلب إرادته التي منحه الله إياها في عقله وفكره وجسمه، وهو بكامل قوه الفكرية والعقلية والجسدية، ومدرك بكل الأحداث حوله ومع ذلك لا يستغل هذه المعرفة والفهم والإدراك في الحفاظ على نفسه ومجتمعه وأسرته ووطنه، بل يتجه إلى الممارسات المشينة والسلوكيات المهينة والأفكار السقيمة ويأتي بالمبررات غير الواقعية، التي يتهرب بها عن الحقيقة وينحرف فيها عن الحق الذي يجب أن يتبعه والطريق الذي عليه أن يسلكه في الوقاية من فيروس كورونا، ومع أنه يشاهد بأُم عينيه الفواجع اليومية من أبناء هذا الوطن وبناته والقاطنين فيه، وما تعج به منصات التواصل الاجتماعي من سيل المعلومات والمشاهدات والتقارير والمؤشرات الرسمية حول أعداد المصابين من الأسر العمانية والارتفاع الحاصل في الوفيات بين العمانيين، إلا أنه يعيش نرجسيته غير آبه بما اقترفه من إثم الاختلاط وجريمة التزاور.
عليه، فإن التصاق جرم الانتحار بالمتسبب في نشر مرض كورونا أو المخالط أو غيره دليل طيش وتهور واندفاع وغوغائية في السلوك وضعف في حس المسؤولية؛ انتكاسة مشينة للذات في دركات الجهالة المفرطة وسقوط لها في مستنقعات الحماقة المرهقة، وإغلاق لمداخل التفكير الناضج والتأمل الواعي والفكر الحصيف والروح عالية الهمة المتجاوبة مع التوجيهات والتعليمات التي تصدرها جهات الاختصاص، إنه إغلاق النفس عن كل مساحات القوة وموجهات الاختيار ودخول بها في متاهات الظلمات غير آبه بكرم الله له بالصحة والعافية، وهو بفعله ذلك يعيش الشطط والتهور وفقدان التوازن، معطلا الفرص التي منحت له بدافع إشباع الذات ونهم السلبية، وأدار ظهره عن منحى التكليف، حتى أصبح يعيش في غير عقل، إذ سلب من ذاته ضمير المسؤولية، وافتقدت إرادته روح الحياة، ومسار الحرية في الاختيار، وحق التكليف، واستحقاقات العطاء، وحس الائتمان على النفس والصحة والمال، وضعف الشعور باليقين، والثقة بما تصنعه الإرادة المتصلة بخالق الإرادة، من تغيير في السلوك، ومراجعة للممارسة، وتقنين للمسار، وحقن للقرار، وتقويم للاعوجاج، وضبط للانحراف، إنه انتحار فوري يتجاوز كل الأعراف والقيم والأخلاقيات، وقتل عمد للحياة بما يتسببه من نقل المرض أو مخالطة قريب وصديق وزميل في العمل وأبناء وزوجه أو زوجة وأب وأم وغيرهم، فإن انتحار إرادة المتسبب في فيروس كورونا والمشارك في نشره بكل الوسائل ميّت الإرادة ضعيف النفس مريض السلوك بما يسببه من قتل للنفس بطريق العمد وتضييع لكل فرص الحياة لها، لتحيا الناس بالتزامه، وتعيش بأمان في تقيده، وتسعد ببقائه في بيته وسؤاله عنهم مستفيدا من كل الفرص الحياتية المتاحة لها باتصال هاتفي أو رسائل نصية أو حوارات عائلية عبر منصات التواصل الاجتماعي وغيرها من الوسائل التي توفر بديلا مناسبا للقاء وتقليل التجمعات ورفع الحرج والمشقة الناتجة عن لقائه المباشر بهم أو مصافحتهم أو الجلوس معهم وهو يعلم بأنه خالط مريضا بفيروس كورونا أو التصق في عمله بأشخاص لديهم أعراض المرض، وليس أكثر استهجانا من أن يرمي الإنسان بنفسه إلى التهلكة، مع حضور كل قوى الإرادة لديه، ولكنها إرادة معطلة الشعور، لتبرز في صورة الوحش المفترس الذي يتجاوز المقبول والمعقول، فيعطّل قيم الحب والتعاون والتسامح والإنسانية والحنان والدفء التي خلقت معه، ويتعالى غير مكترث بحقوق المجتمع والقواعد والتشريعات والتعليميات الصادرة عن جهات الاختصاص، وكأنه أصم لا يسمع، أعمى لا يبصر، وحش لا يرحم، مغرور لا تعرف السماحة قلبه ولا التوازن نفسه، أغلق على نفسه كل نداءات الحكمة فضلّ وأضلّ.
إن قراءة واعية لبنية خطاب اللجنة العليا المكلفة في بياناتها الأخيرة تنذر بمرحلة صعبة في مواجهة فيروس كورونا إن لم يتداركها المجتمع ويعي موقعه في أمواجها أو لا يمتلك مجداف الأمل، تتقاذفه تياراتها لترمي به في غياهب الجب معرض للموت، لذلك حرصت منذ بداية الجائحة على تحقيق مسار التوازن في نمطية الخطاب واستقراء روح التحول في سلوك المواطن والمقيم، وتوصي باستمرار بتوخي أقصى درجات الحيطة والحذر والتقيد بالإجراءات الاحترازية والتدابير الوقائية والالتزام بالاشتراطات الصحية لما فيها من أمان وسلامة واستقرار في العمل بكل ما من شأنه الحد من ارتفاع الإصابات وزيادة الوفيات بين المواطنين، وفي كل مرحلة تبرز فيها المؤشرات ارتفاعا في عدد الإصابات والوفيات، يأتي خطاب اللجنة فيها معبرا عن الواقع متجانسا مع الحال، حاملا معه رسائل جديدة ومسؤوليات عظيمة وتغليظا أكبر في فقه الخطاب، يتبعه تغليظ وتشديد أكثر إيلاما في العقوبات النافذة لمن تصدر قائمة التجاوزات والمخالفات التي تحصل في هذا الشأن، وتفعيل أدوات الضبط القانونية والأمنية في ظل ترقية الحس المسؤول والوعي الناضج والفكر المتعايش مع كورونا، وفق مبدأ العودة الآمنة التي لا تعني إعطاء النفس أي فرصة للانكسار أو التنازل عن مبادئ الضبطية أو تتنافى مع موجهات الالتزام ومصداقية العمل المتحقق؛ بل هي مرحلة تستهدف إنتاج القوة الذاتية التي تمنح النفس شعورا بمسؤولية أكثر عمقا وأوسع نطاقا تتحقق من الفرد والمجتمع بكل أطيافه وشرائحه ومؤسساته في التعاطي مع معطيات الواقع ومستجداته، وهي بذلك تنتزع من فكر الفرد وقناعاته هاجس الانتحار الذي يمارسه عمدا من حيث لا يدري.
ويبقى أن نشير إلى أن تأصيل هذه التوازن في السلوك العام، تعميق لمنظور الوعي وتجسيد عملي له بحيث ينعكس على سلوك المواطن والمقيم على حد سواء في تحقق الالتزام القائم على الثقة بالنفس والشعور بقيمة الإجراءات المتخذة وأهمية استحضارها في كل معطيات حياته اليومية، وبتحقق هذه المساحة الإيجابية من الشعور بقيمة الإنجاز والوصول إلى مستوى عال من التفعيل لكل خطوط التأثير سوف تتلاشى كل مسببات الانتحار وتزول كل المقدمات التي قد توصل الفرد إلى هذه المرحلة، وهو ما يعني أن البحث عن كل الفرص التي تتجاوز هذه المرحلة واجب أخلاقي وإنساني وديني وقيمي يجب أن يعي قدره الجميع تجنبا للوقوع في ما لا يحمد عقباه من انتشار المرض وارتفاع معدلات القلق الاجتماعي الناتجة عنه، ومع ذلك ستظل هذه القواعد والإجراءات والتدابير والاشتراطات غير فاعلة عندما تصطدم بجدار التنازلات الأخلاقية والقيمية من الفرد أو يواجهها بشيء من الخمول الفكري والجمود الذهني في التفاعل معها، أو ينظر إليها على أنها حالة اعتيادية لا تستحق أن يبذل من أجلها الكثير، وهو أمر للأسف الشديد أسهم في تكوين هذه الثغرة وأوجد فجوة التعاطي الواعي مع مفهوم العودة الآمنة، وظن الكثيرون أن العودة تعني ترك الحبل على الغارب، وفعل ما تم تركه أو الامتناع عنه في الأشهر السابقة، دون أن يكون لتلك الفترة تأثير في إعادة هندسة السلوك أو تصحيح الأدوات وترتيب الأولويات، أو إحداث تحول في موازين التعاطي مع الأزمات والجوائح والصدمات، في حين أن المتوقع أن تكون تلك الفترة من التعليق والإغلاق والمنع والتغليظ في العقوبة والمراقبة والمتابعة قد أنتجت بشرا يحملون السلام الداخلي وينثرون ورود الأمل القادم بزوال هذه الجائحة وانحسار تأثيرها وتقليل حجم الفاقد الناتج عنها، فإن الخوف كل الخوف من أن تستمر حالة الانتحار لتبرز في أشكال مختلفة وأدوات مستقبحة ترتضيها الأنفس المستهترة والأعمال المستهجنة، بما تحمله من ضياع للأوطان واعتداء سافر على الإنسان وسلب الناس حقوقهم في الحياة والعيش والصحة والسلامة بأمان، وما يسببه هذا الطيش الساخر من زيادة في معدلات القلق النفسي وحالة عدم الاستقرار ودعوة للجمود وتضييع للجهود وإنهاك للقوة وترسيخ للفوضى الفكرية حول كورونا وفرصة لتأثير الأفكار السلبية المشوهة لتدخل في ذهن الفرد المستهتر غير مكترث بحقوق الآخرين وقواعد الحياة وأنظمتها.
وإذا كان كورونا قد دق فعلا ناقوس الخطر بما شكله من هاجس سلبي وخطورة متحققة منه على حياة الإنسان وسلامته وصحته وأمنه وسعادته ومستقبل الوطن، وما يمثله من استفزاز لكل مشاعر الإنجاز وأدوات العمل التي أنتجتها عمان في الفترة الماضية حول كورونا، وفرص المبادرة التي أوجدت الكثير من الحلول والتوجهات الإيجابية في معالجة الأزمات الاقتصادية الناتجة عن انتشار الفيروس، وللمحافظة على المكاسب الوطنية المتحققة من هذه الجهود في التعامل مع فيروس كورونا سواء على المستوى الشخصي الفردي والمجتمعي والمؤسسي أو على المستوى الوطني بشكل عام؛ فإن القلق الأكبر الذي يجب خفضه ما تكشف عنه الحالة المستجدة لفيروس كورونا من اتجاهها للانتحار الإرادي والسقوط في مستنقعات المرض وزيادة مخاطره وتأثيراته الذي قد يرجع الأمور إلى المربع الأول في معالجة الأزمة، وهو أمر يستدعي البحث عن موجهات عمل جديدة تأخذ في الحسبان كل محطات التراجع التي حصلت وجوانب التحسن التي تحققت والمعطيات التي تقف عليها، إنها بحاجة إلى قرار وطني استراتيجي يعيد هيكلة العمل الموجه لفيروس كورونا من جديد وأولها بناء مواطن الأزمات والعيش في الظروف الصعبة، والمراهنة العادلة على الوعي والمسؤولية عبر تبني أدوات أكثر ضبطية وأشد إيلاما وعقابا في مواجهة كل الانحرافات المتسببة في انتشار المرض والارتفاع في أعداد الإصابات والوفيات سواء ما يتعلق بالسلوك الشخصي أو العام، وبناء منظومة الحافز الذاتي نحو التغيير، وترقية السلوك النفسي وخفض معدلات القلق السلبي المؤدي إلى انتشار المرض، ومساعدة المجتمع على تحقيق أعلى مستويات المسؤولية الاجتماعية والأخلاقية والدينية والوطنية؛ إذ كل تلك الموجهات وغيرها سوف تكون مدخلات لوقف مسلسل الانتحار الإرادي المؤدي إلى ارتفاع أعداد الإصابات والوفيات في مجتمع السلطنة الفتي الذي يزيد فيه أعداد الشباب في مقابل كبار السن، فهل ستسفر المرحلة المقبلة عن المزيد من الإجراءات المغلظة للحد من حالة الانتحار التي يمارسها بعض أفراد المجتمع في حق مجتمع يعاني نسبة كبيرة منه من الأمراض المزمنة؛ أو غيرهم من الذين لا يمتلكون جهاز المناعة الذي يقيهم من الهجوم الشرس لفيروس كورونا وتقبل صدماته؟

د.رجب بن علي العويسي
[email protected]