حلَّ فصل الصيف .. والذي يتميز بطقسه الحار جدًّا والمعتدل في بعض الأحيان .. ففي أواخر الستينيات وبداية السبعينيات لم يكن هناك سوى هواء الطبيعة وأدوات تسمى محليًّا (مشاب أو ملاهب) صُنعت من سعف النخيل لتخفف (لواهيب) الحر ـ حينذاك.
فكان الأهالي ينتقلون من بيوتهم إلى (الضاحية) وهي مكان زراعي فسيح به أشجار النخيل وبعض الأشجار المثمرة مثل: الليمون والبيذام والزام والمانجو والنبق .. وغيرها، فيبنون بيوتًا من الدعون وسعف النخيل تسمى: (العريش) وبه (منامة) لتجلس عليها تلك العائلة وهي مرتفعة قليلًا عن سطح الأرض .. وبعض التفاصيل البسيطة يقضون فيها أهل حارتي (الواسط) الفترة الصباحية وذلك لجوها المعتدل وكونها مكانًا طلقًا أي فضاء مفتوحًا، فالنساء يذهبن منذ الصباح الباكر لـ(الري) وهو جلب الماء للشرب والاستحمام ولأغراض أخرى في وعاء يسمى (الهاندوه) يحملنه على رؤوسهن، والآخر يضعنه على أيديهن وأيضًا يقمن بجمع الحطب لطهي الطعام ويذهبن جماعات، والرجال البعض منهم يذهب لصيد الأسماك، والبعض يعمل في الزراعة إلى جانب التجارة، وهناك من يذهب إلى بعض دول الخليج من أجل العمل وكسب الرزق في ذلك الوقت.
كما يحرص الأهالي في تلك الأيام على تعليم أولادهم وبناتهم القرآن الكريم لأهمية هذا الجانب الديني وغرسه في نفوس الأبناء، ناهيك عن النصائح الدائمة والتوجيه الأسري وتعليم الصلاة وحسن التصرف في المجالس واحترام الكبار، حيث يذهبون لتلقي تعليم القرآن الكريم في الفترة الصباحية والمسائية وقت العصر، وكانت المعلمات في ذلك الوقت هن: المعلمة (مروم) والمعلمة (فطوم) والبيبية (صفية) ـ رحمهن الله جميعًا ـ ثم المعلمة (أماه حلوم) ـ أطال الله في عمرها ـ نساء فاضلات فتحن منازلهن لتعليم كتاب الله وحفظه فاجتهدن وأخلصن لإخراج أجيال تفقه القراءة والكتابة قبل ولوجها للمدارس .. وقبل أذان المغرب يعود الجميع مرددين آيات الله في الطرقات لتكون شاهدًا على سعادتهم فيما تعلموه وحفظوه، فتبتسم الدروب وتردد الأطياف أصواتهم وتحمل صداها للبعيد.
وعلى امتداد البصر نجد التناسق الجميل في بناء العرشان وتلك الهندسة بأنامل عمانية، حيث التجمعات والألفة بين الجيران، فهناك من تربي صغارها، والأخرى تعتني بحيواناتها ودواجنها، وهناك من تخيط بعض الملابس لعائلتها .. مشهد رائع لحياة عملية بسيطة جدًّا مليئة بالنشاط والعمل من أجل الحياة مهما كانت قسوتها .. يقضون تلك الساعات في الضاحية هروبًا من شدة الحرارة الحارقة والملتهبة .. وعند الغروب ينتقلون إلى شاطئ البحر والذي يحمل مع أمواجه الهادئة نسمات باردة تارة .. ورطوبة عالية تارة أخرى .. فما أن يصلوا إلى الشاطئ حتى يقوم البعض بافتراش الأرض بقطعة من (الشاذر) أو (اليوذري) وما تيسر مع حفر حفرة بسيطة لينام بداخلها في تلك الأثناء، فيطيب السمر والأحاديث التي تحملها النسمات أصوات بكاء الأطفال و(مهاواة) الجدات و(الأحازي) إلى أن ينام الجميع، وما أن يبزغ الفجر حتى ينتقل الجميع إلى الضاحية، ويقوم البعض بالاستحمام من البحر، والبعض من الأحواض في النخيل ليبدأ يومًا جديدًا في صفحات ذاك الزمن المعطر والمعتق بروائح الياسمين والليمون .. جميلة هي تلك الأيام بجمال أهلها وقلوبهم النقية وتكون العودة إلى المنازل عند انتهاء فترة الصيف ليقضوا الشتاء في بيوتهم .. وستظل قريتي جميلة بجميع تفاصيلها حتى ولو تغيرت ملامحها ما زلنا نستمع لتلك القصص الممتعة والتي كانت ناصعة كزهر النرجس .. أطال الله في عمر الباقين، ورحم من ستظل ذاكرتهم تنثر وردًا وشذى يعبق بالياسمين.

سميحة الحوسنية
مراسلة «الوطن» بالخابورة