د.جمال عبدالعزيز أحمد*
.. عندها تتولى الأرض الحديث البليغ عن نفسها:(يومئذٍ تُحدِّث أخبارها)، وتتفوَه بكل ما حدث عليها، وسجلته صوتًا، وصورةً، وعاينته مرارًا وتكرارًا، ولم يكن المرء يدري أنها عاقلة، وتعِي وترصد، وتسجِّل، وتكتب، وستتكلم يومًا ما، وهي تُحدِّث أخبارها بكل فصاحة، وإحاطة، ورصدٍ صادق للواقع الذي كان، والذي لم يكن يدريه هذا الإنسان، ويعيه في هذاك الزمان، نسي الإنسان كلَّ ما كان، وتذكرت الأرض ما كان، من قديم الزمان، وفي كل مكان، ثم قالت:(بأن ربك أوحى لها) فهي تخبر لأنها تنفذ أمر الله، وتنهض للجواب عما كان، عندها يصير الناس متحسرين، ويخرجون من كل حدب وصوب أشتاتًا وجماعاتٍ متفرقة في كلِّ مكان، فهم فِرَقٌ، يتفرقون، فمنهم مأخوذ ذات اليمين إلى الجنة، ومنهم مأخوذ ذات الشمال إلى النار، ويتمايز الناس صلاحًا، وعصيانًا، فيرى المحسن المطيع لله في دنياه في هذه اللحظة الخطيرة عمله، وما أعدَّ الله له يومئذٍ من الكرامة، وسمو المنزلة، وكريم العاقبة، كما يرى المسيء العاصي لربه عمله، وجزاء ما اقترفته يداه يرى من الخزي الكثير، ومن الهوان في جهنم على معصيته وكفره ما لم يكن يتوقعه، أو يظنه:(يومئذٍ يصدرُ الناسُ أشتاتًا ليروا أعمالهم فمن يعمل مثقالَ ذرةٍ خيرًا يره، ومن يعمل مثقالَ ذرةٍ شرًّا يره)، وعندها تكون الحسرة الحقيقية، والندم الأكيد، ولات حين مندم، وتتطاير الصحف، وتلتوى اليد اليسرى رغمًا عنها لتأخذ وتتناول كتابها بشمالها، رغمت أنفُها، وتتناول اليمنى كتابَها فرِحةً مسرورة بما لها، وتوضع الموازينُ القسطُ التي تأتي بالفتيل والقطمير، والطارد والطريف، والثقيل والخفيف؛ حتى تحصى النيات، والخطرات، ومن هَمَّ بشيء حسن، أو سيء فلم يعمله، حتى يأتوا بمثقالَ ذرة، أو مثقالَ الحبة من الخردل، قال تعالى:(أتينا بها وكفى بنا حاسبين)، يؤتى بها في ظلمات البر والبحر، ولو كانت في غياهب الأرض، يأتي بها الله، ولا يظلم ربك أحدًا، وهذه السورة لخطورتها وخطورة ما فيها تعدل نصف القرآن تلاوةً، وفي بعض الروايات تعدل ربعه، بمعنى أنَّ من قرأها أربع مرات كان كمن قرآ القرآن كله، وتكفي المسلم لو نزلت وحدها، ولذا فإن أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ يقول:(أبكاني هذه السورة)، فيقول له الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم):(وقد شعر بأنه حزن لثقل ذنبه):(لو أنكم لا تخطئون، ولا تذنبون لخَلَقَ اللهُ أمةً من بعدكم يخطئون (أيْ: ويتوب الله عليهم) تيسيرًا على أبي بكر، وتخفيفًا من وجله، وبكائه وحزنه، وأما آخر آيتين وهما جملتان شرطيتان تتحدثان عن مآل الصالح، وعاقبة الطالح، فقد قال قائل:(نزلتا في رجلين كان أحدهما يأتيه السائل، فيستقل أن يعطيه التمرة، والكسرة، والجوزة، ويقول: ما هذا بشيء، وإنما نؤجر على ما نعطى، ونحن نحبه، وكان الآخر يتهاون بالذنب اليسير: الكذبة، والغيبة، والنظرة، ويقول: ليس على من هذا شيء، إنما أوعد الله بالنار على الكبائر، فأنزل الله عز وجليرغبهم في القليل من الخير، فإنه يوشك أن يكثر، ويحذرهم اليسير من الذنب فإنه يوشك أن يكثر، فنزلت:(فمن يعمل مثقال ذرة ..)، وهذه السورة فيها من ألوان التماسك النصيِّ ما فيها ، حيث بدأت بأداة ربط هي (إذا) الشرطية التي تفيد تحقق حدوث الشيء، وتكرار ذلك فـ(إذا) وضعتْ للتحقيق، و(إن) وضعت للشك، فزلزلة الأرض أمر مفروغ منه، فهو حاصل، حاصل بدلالة:(إذا)، والفعل (زلزلت) مبنىٌّ لما لم يُسَمَّ فاعله لأن فاعله معلوم، وأن الله هو وحده القادر على زلزلتها، ودكها، ونسفها، وإزالتها، ولا يقدر على ذلك سواه، فبناء الفعل للمجهول، (أو لما لم يُسَمَّ فاعله) جاء للعلم بفاعله، أو لأن ملائكة الله المأمورة بذلك تنفذ فورا، فبُنِيَ الفعل للعلم بالفاعل.
* كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة بجمهورية مصر العربية
[email protected]