[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/suodalharthy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]سعود بن علي الحارثي[/author]
” .. في عصر ما قبل الثورة الصناعية والتكنولوجية والتقنية والصرخة الإعلامية والانترنت والوسائط وغيرها كانت الحياة تسير هادئة مستقرة لا يشوبها إلا القليل من التغيير, تغيير محدود يستطيع الإنسان أن يتأقلم معه ويتعامل مع نتائجه ومخرجاته وآثاره وأن يفهم أسبابه وتأثيراته وأن يعالج أضراره إن كانت له أضرار, وكان الجيل الواحد من البشر يولد ويموت ولا يحدث في زمنه تغييرا ذا قيمة كما يحدث الآن...”
ـــــــــــــــــــــــ

في خضم هذا العصر الذي يودع في كل لحظة من لحظاته المتتابعة ويستقبل مع كل ثانية تطل على العالم بغرتها حدثا جديدا وكشفا حديثا وأمرا جللا وطفرة علمية غير مسبوقة وثورة تقنية وأزمة خطيرة وتطورا مهما وعملا غير محسوب العواقب ورأيا يحدث لغطا وتشويشا .. تؤدي في الغالب إلى نتائج وآثار وتغييرات سريعة على الحياة وعلى الإنسان، نلمس ونراقب ونحيط ونعلم بالقليل منها, والكثير الكثير من تلك الآثار والنتائج لم يحط بها علم الإنسان بعد ولم يضع يده عليها وقد تظل مجهولة لسنوات قادمة, (( في خضم هذا العصر )) الذي يستحيل فيه على الإنسان اللحاق بالتطورات المتسارعة والإلمام بالمستجدات المتلاحقة التي تطرأ على الساحة العالمية في مختلف الشئون والقضايا والمجالات السياسية والعلمية والاقتصادية والإنسانية, ولا الإحاطة بما يتضمنه الإنتاج الورقي والرقمي من أبحاث ودراسات وأوراق عمل وفتاوى ومقالات وتحليلات وأخبار وإبداع أدبي وفني وما يطرحه الإعلام ومواقع الانترنت من آراء وتحليلات وتحقيقات, ولا استيعاب ما يظهر في الفضاء العام من مذاهب ومدارس وتيارات حداثية متصارعة .. ذلك مما يحدث اضطرابا وتشويشا في فكر الإنسان ويفضي إلى ارتكاب أخطاء في مضمون قراراته وتوجهاته وانتماءاته, (( في خضم هذا العصر)) حيث تستقبل أسواقنا المتخمة والمثقلة والهائلة في أعدادها وأشكالها وسعتها (( تستقبل )) ملايين المنتجات والوسائل والتقنيات والأدوات وقطع الغيار والصناعات والماركات المخصصة للاستهلاك الآدمي والحيواني والتنمية والبناء والتسهيل, لخدمات الإنسان الواسعة والمفرطة, في أكله وشربه والعمل على مضاعفة إنتاجه وثرواته وتيسير حياته وترفيهه وتجميله وتلميعه وعلاجه وتطوير قدراته وتعليمه ونقل رسائله وحلولا لكل مشاكله وهمومه .. منها ما يصلح للأثرياء ومتوسطي الدخل ومنها ما لا يصلح إلا للفقراء, أما فئة ما تحت خط الفقر التي تعيش على الفضلات والفتات والصدقات والأعطيات فهي محرومة من ارتياد الأسواق والاطلاع على ما تحتويه وتتضمنه من بضائع ومنتجات, وهو أي الإنسان المستهلك لكل تلك المنتجات يعيش صراع الاختيار والانتقاء لا يدري وهو الجاهل بمكونات وآثار تلك المنتجات والهدف من انتاجها شيئا عن مزاياها وعيوبها وما ينفعه منها وما يضره, وإلى أيها يوجه ماله وكيف يحدد الأولويات؟ , (( في خضم هذا العصر )) المستهلكة أيامه ودقائقه في إثارة الضجيج السياسي والتركيز على البهرجة الإعلامية ورفع الشعارات البراقة والدعوة إلى التسويق المظلل ورسم الدعايات المحكمة والمؤثرات الآسرة التي تستدرج الإنسان إلى الشراك وتحكم عليه بالرق والاستعباد وتحوله إلى مجرد لعبة يتم التحكم عن بعد في قوانينها وفي مساراتها وفي نتائجها المعروفة سلفا , فيصبح بسبب ذلك التأثير العميق والخطط المحكمة أسيرا لرأي أو فكرة مطروحة وإن كانت مغلوطة منقادا بإرادته إلى شراك الاستهلاك العشوائي محتارا مشوشا بين نظرتين مختلفتين في المضمون والتوجهات مطوقا بالديون والمخالفات يعيش ضغوطا هائلة لا حصر لها, (( في خضم هذا العصر )) الذي أشار المقال إلى بعض من ملامحه وسماته ومعالمه, وما سكت عنه أي المقال لدواعي المساحة والصياغة ولأن الأمثلة تكفي للتعبير عن واقع العصر إنما هو أكثر اتساعا وعمقا من ذلك بكثير, ففي عصر ما قبل الثورة الصناعية والتكنولوجية والتقنية والصرخة الإعلامية والانترنت والوسائط وغيرها كانت الحياة تسير هادئة مستقرة لا يشوبها إلا القليل من التغيير, تغيير محدود يستطيع الإنسان أن يتأقلم معه ويتعامل مع نتائجه ومخرجاته وآثاره وأن يفهم أسبابه وتأثيراته وأن يعالج أضراره إن كانت له أضرار, وكان الجيل الواحد من البشر يولد ويموت ولا يحدث في زمنه تغييرا ذا قيمة كما يحدث الآن حيث تؤثر المستجدات والاكتشافات والأحداث وأخبارها وانعكاساتها المتسارعة التي تصل إلى كل منزل, تؤثر على أنماط السلوك والأفعال ووسائل وطرق الاستخدام الواسعة وعلى القيم والتقاليد والثقافات ومسارات التفكير التي تتحرك من اليمين إلى الشمال والعكس, لقد تأثرت قيم الإنسان وثقافته وأخلاقياته وتفكيره الذي عمل طويلا في فضاء اتسم بالحرية والهدوء بسبب طغيان ثقافة المادة, وضغط التغيير الذي أحدثته الآلة وثورات الإعلام والاتصال والانترنت التي تأبى أن تتوقف وهذا السيل الفيضاني للمعلومات الصحيحة منها والمغلوطة وها هو الإنسان يتقلب في فراش المتاعب النفسية وتحت ضغط القلق والخوف والتشويش بسبب الديون والصراع على كراسي المال والمناصب والوجاهة والبروز الإعلامي والتفكير في المستقبل ومعها العجز عن تحقيق الأهداف والشعور بالوحدة في معالجة تلك الأزمات, والحياة أبسط من كل تلك الافرازات والآثار التي أحدثتها تطورات العصر وثوراته المتعددة, وراحة الإنسان وسعادته وصحته وعلاقاته الحميمية ومشاعر الود هي أعظم ثروة يملكها وهي مهددة ومتأثرة ومحكوم عليها بالضياع, لقد تضرر البشر من جراء هذه الحداثة وهذه الثورات المتتابعة التي أشار لها المقال وهي ضريبة لا بد من أن نعاني من وطأتها, هذا إذا ما أردنا ركوبها والمضي قدما مع الآخرين في طريقها, ولكننا ومع هذا الواقع المؤلم لا ينبغي أن نستسلم ونركن لهذه الحقيقة فنسلم بأن للعصر ضريبته وللضريبة ضحاياها, إننا بحاجة ماسة إلى أن نتوقف أمامها بعضا من الوقت للتعرف على حقيقتها, وإلى تشخيص وتحليل وفهم أبعادها وتأثيراتها ووضع المعالجات الهادفة إلى التخفيف من تلك الآثار ومساعدة الإنسان إلى استعادة بعض من عافيته, وعلى المؤسسات المتخصصة والشرائح المتعلمة الواعية تقع هذا المسئولية وبتضافر الجميع وجهودهم قد يتحقق بعض النجاح, فمما لا شك فيه بأن الممارسات الخاطئة التي سلكها الإنسان للتعامل مع المستجدات والتطورات والأحداث هي التي أحدثت تلك المضار.