دأب الإنسان العماني في مختلف العصور على التنقل والترحال بمختلف الوسائل المتوفرة لديه، فالإنسان العماني كغيره من العرب يتنقل في رحلات داخلية إذ أن البيئة العمانية المتنوعة التضاريس بين الصحراوية والجبلية والواحات الخصبة الجميلة وبين كثافة عمران المدينة، فقد يكثر التنقل في فترة القيظ، وهو موسم سنوي لنضج ثمرة النخيل، وكذلك الرحلات الخارجية وخاصة بين مختلف دول الخليج العربية، وإن كانت الكثافة تزداد باتجاه المملكة العربية السعودية، لما لها من خصوصية إسلامية ليس لدى العمانيين فحسب بل لدى كافة المسلمين، فقد لعبت الرحلة دورا كبيرا فى تطوير معارف وخبرات الحضارات الإنسانية، ومن بينها الحضارة العمانية وكانت لرحلات بني الإنسان وارتحالهم فى الأرض طوعا أو كرها آثار مباشرة فى صياغة تاريخ هذه الأرض وتطور علوم الإنسان.

فمن الرحلات الرعوية الجماعية، عرفت الإنسانية الأرض الخصبة الجديرة بالاستقرار وتطورت الزراعة والصناعات الأولى والمعارف البدائية والعلوم، غير أن الإنسان لم يرض تماما بالاستقرار، ودفعه شغف الاستكشاف للارتحال، فقامت مجموعات صغيرة بالرحلة المتوغلة فى الأرض المجهولة، سعيا لاكتشاف المزيد من الآفاق، وتلبيةً لهذا النـزوع الإنساني الأصيل، الدافع لمعرفة البعيد، ومع تطور الإنسانية، صارت الرحلة فردية، وصارت أهدافها متنوعةً، فمن البحث عن الرزق وتحسين الأحوال، إلى متعة التجوال والتعرف إلى الآفاق البعيدة، وقد شهدت الحضارة العمانية أكبر رحلة في تاريخها عندما كان الحكم العماني في زنجبار، وامتد الأسطول العماني عبر البحار والمحيطات يصنع لعُمان أكبر إمبراطورية عرفت عبر تاريخها الطويل، ونحن نتوقف معك عزيزي القارئ مع كتابين جميلين صدرا عن بيت الغشام للنشر والترجمة هذا العام 2014م فالأول منهما: كتاب "من الفرضاني..يوميات رحلة إلى زنجبار وممباسا والبرِّ الأفريقي" للدكتور محمد المحروقي ، والثاني: كتاب "لا أريد لهذه الرحلة أن تنتهي" للكاتب عاصم الشيدي ، وقد اخترنا هذين الكتابين أنموذجا لشغف العمانيين للسفر والترحال عبر مختلف العصور، وكذلك للاحتفاء بقراءة فن الرحلة في الثقافة العمانية متخذين من خلالهما تأسيس رؤية عمانية لهذا الأدب أو نحاول ذلك.

ومحمد المحروقي أكاديمي يعمل بجامعة نزوى مديرا لمركز الخليل بن أحمد الفراهيدي، حصل على الدكتوراه من جامعة لندن(SOAS) في تخصص النقد الأدبي القديم، له اهتمام بالحضور العماني في شرق أفريقيا، وقد أصدر كتبا ودراسات في هذا المجال، وهو مترجم كتاب"مغامر عماني في أدغال أفريقيا"، أما عاصم الشيدي فهو كاتب وصحفي يرأس القسم الثقافي بجريدة عمان، وسبق أن عمل مدرسا للغة العربية، عمل مراسلا لوكالة الأنباء الألمانية وعدد من الصحف الخليجية، شارك في تغطية أحداث محلية وعربية.

إننا ونحن نقرأ أدب الرحلات في المشهد الثقافي العماني لا نغفل العديد من الإصدارات الجميلة التي أسست لهذا الأدب الجميل، ولكن المقام هنا لا يتسع أن نناقش ذلك تاريخيا ومن أين بدأ ومع مَن مِن الكتاب نضجت الكتابة؟!. فكل هذه المسائل يمكن للباحث أن يتوسع فيها وأن يفرد لها دراسة خاصة تجمع الرؤى وتحقق الأهداف، إنما أقرأ معك عزيزي القارئ في هذين الكتابين لأنهما صدرا حديثا وإيمانا مني بضرورة الاحتفاء بهما كظاهرة ثقافية لا يمكن أن تفوت، وخاصة مع ندرتها الشديدة في عصرنا الراهن، وكثرة الكتابة في مجالات مختلفة مثل القصة والشعر والدراسات الأخرى في الفكر والثقافة والأدب.

لقد اتجهت الرحلة عند محمد المحروقي جنوبا إلى البرِّ الأفريقي، وهي تصف لنا يوميات كاتب عاشق للرحلة والسفر وهو يكتشف الحياة من خلال آثار الأجداد وروائحهم المتجذرة في كل مكان من البرِّ الأفريقي وهي وقائع رحلته إلى تنزانيا وكينيا في شرق أفريقيا وزنجبار أرض القرنفل والأندلس المفقود كما يحلو له أن يطلق عليها، وقد جاءت بعد مفتتحه الغير مهم وأنا أراه مهما جدا وفق الأيام الآتية: دار السلام، الأربعاء 1-7- 1992م و الخميس 2-7 وتانجا 2-7-1992م وأورشا، الجمعة 3-7-1992م وأورشا السبت4-7-1992م و 8-7-1992م دار السلام وزنجبار 15-7-1992م وسفينة فكتوريا 16-7 وفي أرض الآباء(موانزا وكياكا على تخوم الحدود التنزانية-الأوجاندية وبالقرب منابع نهر النيل الخالد) وموانزا 22-7-1992م ثم زوار الغفلة، وكما يقول: وللناس في الأسفار كل مذاهب، فهناك من يهوى استكشاف الأماكن التي يزورها فهو يتنقل من مكان إلى آخر ليرى الجديد والمختلف، وهناك من يهوى الإقامة في مكان واحد والتشرب به، ويجد في هذا المكان الآخر سلوته التي ينشدها في التغيير، وهناك من يهوى الأماكن البحرية وهناك من يهوى الصحراء، وينهي الحديث عن الرحلة من خلال يومياته الجميلة بمختتم يمكن الاستغناء عنه وأراه لا يمكن الاستغناء عنه أبدا وخاصة عندما يصف لنا حجم التغيرات التي شهدتها زنجباربعد الزيارة الثانية في مطلع شهر يونيو 2006م وخاصة الفساد والبيروقراطية والجهل والمرض والفقر والأهم هوية زنجبار كأهم مدينة إسلامية وهي تواجه ضربات عنيفة لمحوها.

أما الرحلة عند عاصم الشيدي فاتجهت غربا إلى فيرونا والبندقية وفلورنسا وروما وسراييفو وعرج شرقا إلى القدس وعمّان وطوكيو، وتوقف معنا في البداية على ذكرى السفر الأول حيث كان يرقب حركة طائرة تحلق في سماء قرية شيدة كمال يقول في مساء قائظ في تلك القرية المستكينة بهدوء ودعة أسفل سفوح ثلاثة جبال شاهقة، متسائلا أين يمكن أن تذهب هذه الطائرة في مساء مسكون بحكايات السحرة والمغيبين وأصوات هوام الليل التي يتردد صداها في هذا السكون الموحش والذي يصفه بأنه كان بحسب الذاكرة هو بداية سؤال السفر ثم يصف لنا بدايات السفر والتنقل والترحال في عالمه مرورا بالقدس اقتفاء للزيتون وصلاة تحت الصخرة، ثم إلى فيرونا.. مدينة الحب والجمال.. عشر ساعات في اقتفاء أثر روميو وجولييت، ثم في ضيافة كلاسيكية التاريخ وروعته.. رحلة إلى البندقية قبل أن تغرق في البحر، ثم فلورنسا.. متحف بحجم مدينة لا يحل عليها الظلام، ثم هل طهرها"نيرون" من أدرانها؟.. روما..أو البحث عن الأسرار تحت الأطلال، فرحلة فوق جسور إيفو أندريتش.. سراييفو قلب ينبض بالجمال.. وجسور تربط التاريخ بالمستقبل، وإلى أسبوع كامل لاكتشاف مدينة عمّان ويختم بطوكيو.. رحلة إلى منبع الشمس والحضارة.. وصعود إلى قمة فوجي ياما.

إن اللغة التي كتب بها الكاتبان المحروقي والشيدي مختلفة في مواضع ومؤتلفة في مواضع أخرى، فنجد المحروقي من خلال لغة الوصف للرحلة يفصل لنا بشكل دقيق خط سير الرحلة ومعالمها ويقرب لنا الصورة وكأنها مشهد من مشاهد الأفلام الوثائقية للأماكن، أما الشيدي فلغته التي غلب عليها الجانب الصحفي الراصد للجانب التاريخي العميق الذي يبني لنا المكان منذ النشأة راحلا بنا عبر المراحل والأزمنة التي عبرها الإنسان من خلال مجموعة من الوثائق التي يحاول إسقاطها على النص، حتى يجعل القارئ أمام صورة عبرت نهر الزمن لتصل أمام ناظريك بهذا الجمال كله، فالوصف الدقيق عند المحروقي يعبر عن يوميات لا تخلو من مزجها بتاريخ المنطقة ولكنه يعطي للمكان حقيقة فعلية وهو يعيش تفاصيل الصورة من عدة زوايا مختلفة الرؤى، كذلك الشيدي يصف لنا الصورة بروح المستعيد دائما لشريط ذكرياته وهو ينقلنا بين الماضي والحاضر بأسلوب مشوق وجذاب.

وقد مثل التأريخ المدون للرحلة عند المحروقي بكافة يومياته حضورا مهما في كتابة أدب الرحلة، بينما نجد هذا التأريخ عند الشيدي غير مهم تماما وربما يعود ذلك من وجهة نظري أن المحروقي من خلال يومياته من الناحية النفسية لا يستغني عن هذا الجانب المهم من عمره، وهو يمضي لكتابة تاريخ رحلاته في قطار الحياة التي لا يمكن لها أن تعود، وأن موعد الرحلة عنده لها بداية ولها نهاية لها مكان للانطلاق ولها نقطة تنتهي عنده، أما الشيدي فقد أعلن ذلك بكل صراحة ومن خلال العنوان أن رحلته لا يريد لها أن تنتهي ولهذا وجد نفسه وهو يكتب قد تخلص من عقدة التأريخ وتجاوزها بكل أريحية غير ملتفت لقطار هذه الرحلة فهناك قطارات أخرى والرحلة تستمر والكتابة مستمرة في أدب الرحلات ولهذا من الجانب النفسي أيضا أهمل تأريخ الرحلة فبات يصف لنا الزمن فقط من خلال ساعات اليوم المختلفة، أما عن شخصيات الرحلة المرافقة للكاتب نجد ذكرها نادرا في رحلات المحروقي وقد يغلب عليه ذلك عند الأزمات، بينما نجد الشخصيات المرافقة للرحلة عند الشيدي لها حضور أكبر، ونجد عند الكاتبين الاهتمام بقوة اللغة الواصفة والساردة للأحداث وحسن اختيارهم للألفاظ المعبرة والمدهشة وذلك لما يتميز به أدب الرحلات من الإثارة والإدهاش من خلال رؤية الإنسان للإنسان أو من خلال رؤيته للعالم المحيط به من نباتات وجمادات وحيوانات وفنون للعمارة والمدينة والأرياف والأدغال والأضواء والجبال والأنهار والطبيعة بشكل عام.

لحالة الطقس في أدب الرحلات حضور ملفت للانتباه وذلك لأهمية مواصلة الرحلة، وكذلك الولوج لبعث وبث صورة من المعاناة النفسية تارة وبث الوصف المعبر عن الجمال تارة أخرى، فقد يكون الطقس عائقا للرحلة وقد يكون محفزا لها، وما أكثر ما يصف لنا الكاتبان حالات الطقس في الرحلة، من الأجواء الماطرة أو الغائمة أو المنخفضة الحرارة وغيرها وهنا نسوق لك أيها القارئ العزيز أنموذجا من صور المعاناة في السفر على الطائرة فهو كما أن لا يخلو من المتعة والراحة والضحك أيضا لا يخلو من القلق والخوف والتعب والإرهاق وتعكر الصفو، نبدأ بالمحروقي حين قال:"عاودتنا مخاوفنا المعتادة فجأة.ما أصعب أن تجد نفسك معلقا بين السماء والأرض! لا هذه قررت فيها ولا تلك تفتح لك الأبواب! ومما يزيد تعكير صفو الأمور إمكانيات الطيران التنزاني الضعيفة. كانت الطائرة تئز أزيزاً، ويزداد التوتر عندما نعبر السحاب فيشتد العذاب، وترتعد فرائص الطائرة إن كان لها فرائص! أما نحن ففرائصنا ترتعد بلا شكٍّ حدَّ الجنون، عند هجمات السحب تهوي الطائرة إلى الأسفل، فنعتقد أنها الكارثة، وترتفع فجأةً فنعتقد أن القائد فقد الزمام. وبقينا هكذا بين خوف ورجاء، حتى وصلنا دار السلام"، ونختم بالشيدي حين قال:" بعد ساعتين بالضبط من رحلة استمرت لخمس ساعات ونصف حدث ما لم أكن أتخيله في هذه الرحلة.. نصطدم بأقوى مطب هوائي مر عليّ حتى الآن، حسبت أن الطائرة ارتفعت إلى أعلى ثم هبطت بغلظة وهبط معها قلبي، وسريعا نطقت الشهادتين، وتمسكت بيدي ورجلي. ورغم أن خلفان كان يضحك على المشهد إلا أنني كنت شديد الجدية، كان الأمر بالنسبة لي مخيفا جدا، غير أن فتاة جميلة وشقراء عيناها قريبتان من أن تكونا زرقاوين عرفت لاحقا أن اسمها سارة كانت تجلس خلفي شرحت لي الأمر وقالت إن هذه فترة بدء الشتاء في أوروبا وتكثر المطبات الهوائية وأن الرحلة مقبلة على مطبات كثيرة".

إننا ندعو القارئ العزيز في أي مكان وزمان الغوص في رحلات هذين الكتابين لاكتشاف الكثير من المتعة والإثارة، والتعرف عن قرب على مدن ومناطق وأمكنة جميلة كجمال الوصف عند الكاتبين المحروقي والشيدي، ونوجه لهما شكرنا البالغ على تقديم مثل هذا العمل وتضمينه مائدة القارئ العربي عامة والقارئ العماني على وجه الخصوص، وندعوهما على رصد المزيد من الرحلات الجميلة التي يقومان بها ضمن نشاطهما الثقافي الحافل بالعطاء والحافل بالكثير من التنقل والترحال الذي لا شك أنهما يعتبرانه جزءاً لا يتجزأ من عملهما المخلص في خدمة الثقافة والفكر وإثراء الأدب واللغة؛ ونحن نتطلع إلى مزيد من الإصدارات القادمة في أدب الرحلات بما يعود بالنفع لصالح وطننا الغالي عُمان.

ناصر الحسني