محمود عدلي الشريف:
.. ومن الأمراض المعنوية الفردية التي تحدث عنها القرآن الكريم أيضًا:(الحسد والغل والحقد والظلم والجهل والكراهية والحسد والغيظ ..) وكلها تختص بالقلب، المرض، وقد أجملها العديد من العلماء استنباطا لما تحدث عنه القرآن الكريم، ومن أفضل ما قيل إجمالا عن المرض القلبي الذي يلحق الإنسان، ما قاله ابن قيم الجوزية في كتابه (إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان1/ 18) مرض القلب نوعان: نوع لا يتألم به صاحبه في الحال، وهو النوع المتقدم، كمرض الجهل، ومرض الشبهات والشكوك، ومرض الشهوات. وهذا النوع هو أعظم النوعين ألما، ولكن لفساد القلب لا يحس بالألم، ولأن سكرة الجهل والهوى تحول بينه وبين إدراك الألم، وإلا فألمه حاضر فيه حاصل له، وهو متوار عنه باشتغاله بضده، وهذا أخطر المرضين وأصعبهما. وعلاجه إلى الرسل وأتباعهم، فهم أطباء هذا المرض، والنوع الثاني: مرض مؤلم له في الحال، كالهم والغم والحزن والغيظ، وهذا المرض قد يزول بأدوية طبيعية، كإزالة أسبابه، أو بالمداواة بما يضاد تلك الأسباب، ويدفع موجبها مع قيامها، وهذا كما أن القلب قد يتألم بما يتألم به البدن ويشقى بما يشقى به البدن فكذلك البدن يتألم كثيرًا بما يتألم به القلب، ويشقيه ما يشقيه فأمراض القلب التي تزول بالأدوية الطبيعية من جنس أمراض البدن، وهذه قد لا توجب وحدها شقاءه وعذابه بعد الموت. وأما أمراضه التي لا تزول إلا بالأدوية الإيمانية النبوية فهي التي توجب له الشقاء والعذاب الدائم، إن لم يتداركها بأدويتها المضادة لها، فإذا استعمل تلك الأدوية حصل له الشفاء، ولهذا يقال "شفى غيظه" فإذا استولى عليه عَدُوُّه آلمه ذلك، فإذا انتصف منه اشتفى قلبه، والعلاج الحقيقي هو الأيمان بالله تعالى ولهذا ترى المجتمعات الكافرة يكثر فيها الانتحار، بل قد تصل هذه الظاهرة إلى أعداد كبيرة تقوم بها معا وهو ما يسمى بالانتحار الجماعي،بل والأكثر من هذا أن الأمراض واوجاع الغريبة تنتج من تلك المجتمعات لتناولها الخبيث من الأطعمة، ولك أن تتأمل معي أخي القارئ الكريم،هذه الآيات الكريمة
(يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ)(المائدة ـ ٤)،(الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)(المائدة ـ ٥)،(الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(الأعراف ـ ١٥٧)،وقد استفاض الأمام الغزالي عن أمراض القلوب التي تتشبث بالإنسان في كتابه (إحياء علوم الدين3/ 11)، فيقول:استقر في القلب من الصفات الربانية العلم والحكمة واليقين والإحاطة بحقائق الأشياء ومعرفة الأمور على ما هي عليه والاستيلاء على الكل بقوة العلم والبصيرة واستحقاق التقدم على الخلق لكمال العلم وجلاله ولاستغنى عن عبادة الشهوة والغضب ولانتشر إليه ورده إلى حد الاعتدال صفات شريفة مثل العفة والقناعة والهدوء والزهد والورع والتقوى والانبساط وحسن الهيئة والحياء والظرف والمساعدة وأمثالها ويحصل فيه من ضبط قوة الغضب وقهرها وردها إلى حد الواجب صفة الشجاعة والكرم والنجدة وضبط النفس والصبر والحلم والاحتمال والعفو والثبات والنبل والشهامة والوقار .. وغيرها، فالقلب في حكم مرآة قد اكتنفته هذه الأمور المؤثرة فيه وهذه الآثار على التواصل واصلة إلى القلب، أما الآثار المحمودة التي ذكرناها فإنها تزيد مرآة القلب جلاء وإشراقاً ونوراً وضياءً حتى يتلألأ فيه جلية الحق وينكشف فيه حقيقة الأمر المطلوب في الدين ،وهذا القلب هو الذي يستقر فيه الذكر قال الله تعالى ألا بذكر الله تطمئن القلوب، وأما الآثار المذمومة فإنها مثل دخان مظلم يتصاعد إلى مرآة القلب ولا يزال يتراكم عليه مرة بعد أخرى إلى أن يسود ويظلم ويصير بالكلية محجوباً عن الله تعالى وهو الطبع وهو الرين قال الله تَعَالَى كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كانوا يكسبون وقال عز وجل أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون فربط عدم السماع بالطبع بالذنوب كما ربط السماع بالتقوى فقال تعالى واتقوا الله واسمعوا واتقوا الله ويعلمكم الله، ومهما تراكمت الذنوب طبع على القلوب وعند ذلك يعمى القلب عن إدراك الحق وصلاح الدين ويستهين بأمر الآخرة ويستعظم أمر الدنيا ويصير مقصور الهم عليها، فإذا قرع سمعه أمر الآخرة وما فيها من الأخطار دخل من أذن وخرج من أذن ولم يستقر في القلب ولم يحركه إلى التوبة والتدارك أولئك يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور وهذا هو معنى اسوداد القلب بالذنوب كما نطق به القرآن والسنة، ويقول صاحب كتاب (بيان المعاني2/ 550): من أمراض القلوب وبيان من الضلالة والجهالة، يتبين به المختلف فيه، ويتضح به المشكل، ويستشفى به من الشبهات، ويهتدى به من الحيرة. وليعلم أن الأمراض التي يستشفى لها بالقرآن نوعان الأول الاعتقادات الفاسدة في الذات المقدسة والصفات المطهرة والنبوات المعظمة والقضاء والقدر والبعث بعد الموت، فالقرآن العظيم مشتمل على دلائل المذهب الحق فيها كلها ومصرح على إبطال المذاهب الفاسدة منها، فلا جرم أن القرآن الكريم خير شاف لما يحوك في القلوب ويتردد في الصدر من هذه الأمراض ولا طب لهذه الظنون الخبيثة إلا الأخذ بكتاب الله وسنة رسوله (صلّى الله عليه وسلم) وأقوال الفقهاء العارفين، النوع الثاني الأخلاق المذمومة كالكذب والزنى والقمار والقتل والتعدي على الغير والربا وأكل الحرام وأكل مال اليتيم والغيبة والنميمة والتجسس والغمز واللمز وتطفيف الكيل والوزن والذرع والغضب والحدة والحمق وغيرها مما شاكلها، فإن القرآن الجليل لا شك أعظم شاف منها وخير منفّر عنها وأحسن مرشد لاجتنابها والأخذ بأضدادها من الأخلاق الفاضلة والآداب الكاملة والخصال المحمودة، كالوفاء والسماح والعفو ولين الجانب والتؤدة والصبر وخفض القول والعفاف والصفح والكظم وشبهها مما يضاهيها، فلا دواء لها أنفع من الأخذ بآيات القرآن وسنن المنزل عليه(صلى الله عليه وسلم)، وما ذلك إلا لأن الشريعة هي التي تقوم القلب فإذا ما صلح قلب كل فرد من أفراد أي مجتمع، لاشك أنه سيكون مجتمعًا مثالثًا، والأخذ بها على مر الزمان، (فإن القلوب يخالطها تغليب الطباع وميل النفوس، وحكم العادة، وتزيين الشيطان، واستيلاء الغفلة مما يضاد ما أودع فيها من الإيمان والإسلام والبر والتقوى فلو تركت في عافية دائمة مستمرة، لم تتخلص من هذه المخاطر ولم تتمحص منه، فاقتضت حكمة العزيز الرحيم أن قيض لها من المحن والبلايا ما يكون كالدواء الكريه لمن عرض له داء إن لم يتداركه طبيب بإزالته وتنقيته ممن هو في جسده، وإلا خيف عليه من الفساد والهلاك، فكانت نعمته سبحانه عليهم بهذه الكثرة والهزيمة، فطهرها من الشدة والمرض بما يريكم من عجائب آياته وباهر قدرته) ..انظر (تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد الذى هو حق الله على العبيدص: 586).
نسأل الله تعالى أن يطهر قلب كل فرد ما أفراد المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها،ويتواصل حديث القرآن الكريم عن الأمراض والأوبئة بعون الله تعالى.
*[email protected]