د.جمال عبدالعزيز أحمد:
.. وفيه تقدير لأهل الإيمان: أنهم لا يحتاجون إلى معرفة الفاعل؛ لعلمهم التام به، وأسند الله الزلزلة إلى الأرض مع أنها لا تستطيع؛ لأنها مأمورة، ولما أسنِدَ إليها الأمرُ صار كأنها تفعله بنفسها، على سبيل المجاز العقلي الذي علاقته الفاعلية، والأصل:(إذا زلزل ربُّ الأرضِ الأرضَ)، كقولهم: ليل نائم، ويوم صائم، أيْ لما كان ينام فيه، ويصام فيه نسب الفعل إليه، وعاد عليه، فصار كأنه هو الذي ينام وهو الذي يصوم.
و(أل) في الأرض إما عهدية، أيْ الأرض المعهودة عند البشر، وإما أنها جنسية، أيْ: جنس الأرض، أي الأرضين السبعة جميعًا:(خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن)، وكما في الحديث الشريف:(من ظلم شبرا من أرض طوقه من سبع أرضين يوم القيامة) فالأرض سواء جنسية أم عهدية جميعها تزلزل، وترتجُّ، وتنشقُّ، وتتصدع، وتتفتَّت: وزلزالهامفعول مطلق مؤكد للفعل ، وقد جاء توكيدا وتعميقا للمعنى في النفس، كما تقول: أكلت أكلا، وشربت شربا، ومشيت مشيا، وعدت عودا، والأصل أن الفعل:(فعلل) له مصدران، هما: فِعلال وفَعللة، فجاء الفِعلال في السورة نفسها، وجاءت الفعللة في اسم السورة:(سورة الزلزلة)، فشملت باللفظ والتسمية المصدرين الاثنين، والفعل الماضى يفيد التحقيق، والانتهاء رغم أن (إذا) للمستقبل، وكل ما هو آتٍ آتٍ، مثل قوله تعالى:(وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا"، ونحو:" فإذا قرأت القرآن فاستعذ)، كيف أستعيذ بالله، وقد قرأته وانتهيت؟ قالوا معناه: إذا أردت قراءته، ورغبت في تلاوته فاستعذ بالله، فهو ماض لفظيا، وهو مضارع في المعنى والنية.
فالزلزلة حاصلة حاصلة، ماثلة واقعة متحققة، قامت (إذا) بدلالتها وجاء التوكيد لتعميقها، وتثبيتها في نفوس وعقول وأذهان البشر، ولم يأت جواب الشرط بعد، ثم عطف عليها بجملة فعلية أخرى، ولكنَ فعلها مبنيٌّ للمعلوم: (وأخرجت الأرض أثقالها) على سبيل المجاز (المجاز العقلي) عند أهل البلاغة، وعلى سبيل الحقيقة عند أهل العقيدة، فالأرض تُخرِج أثقالها وتقوم بهذا الجهد المضني بأمر الله، وتقذف كلَّ ما في بطنها من كنوز، وبشر، ومعادن، ومخزون، وركاز، ونحوه، وهو ما يفيده جمع الكلمة (أثقالها)، وليس (ثقلا واحدا)، والإضافة للأرض، أي أثقال الأرض.
ثم جملة فعلية تابعة، ومباشرة، ومترتبة على هذين الحديثين الكبيرين: (وقال الإنسان ما لها؟)، و(أل) في (الإنسان) جنسية، أيْ جنس الإنسان، ومطلق الإنسان، أي كل واحد من البشر يتساءل ما الذي حدث؟، ما الذي يحصل؟، وقد اقتصر على أهم العناصر الأساسية في الجملة الاسمية، وهما المبتدأ والخبر لذهاب عقله بما يرى، وانهياره أمام المشهد: ما لها؟ مبتدأ وخبر، قليليْ الحروف!،ثم يتولى الله الجواب بقوله:(يومئذ تحدث أخبارها) يأمر بأن تتحدث، وتفصح، وتوضح، وتنشر ما كان يجري من أحاديث، وكلام،(يومئذ) فيه إيجاز بالحذف، قام مقام التنوين مقام جملة كاملة محذوفة والتقدير:(يوم إذ تزلزل الأرض زلزالها وتخرج الأرض أثقالها تحدث الأرض أخبارها) فحذف للعلم به، ولأن السياق كله مشاهد غير منسي، و(تحدِّث) بالتضعيف توحي بذكرها كلَّ التفاصيل الدقيقة: صغيرها وكبيرها، عظيمها وحقيرها، علانيتها وسرها، و(أخبارها) بالجمع تدل على كثرة ما ستخبر عنه، وتتكلم به، وتبوح من خلاله عن كل ما كان يحدث فوقها من تدابير، ومؤامرات، وتبييت، وتخطيط، صوتا وصورة، لا إنكار معه ولا جحود، ثم تذكر علة الإخبار بأن ربها أوحى لها، وأعطاها حقَّ التحدث كاملًا مُفصّلًا، والأفعال كلها ماضية لإفادة التقرير.
* كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة بجمهورية مصر العربية
[email protected]