إن الفن من حيث هو تذوّق يمثل متعة وإثارة يجنيها الإنسان أثناء تعاطيه مع الآثار الفنية سواء كانت تشكيلية، مسرحية أو موسيقية...وتعود هذه المتعة تحديدا إلى كون المتذوق أو قارئ العمل الفني هو بصدد مشاركة الفنان ما يحسّه أثناء ترويضه للموجودات واستنطاق طاقاتها الكامنة فيها ومساهمته في خلق عالم إنساني يتسامى عن العالم المادي.
ولعلّ التجربة الفنية رغم ما تكتسبه من طابع ذاتي و إحالة باحثة عن توازن الفنان مع ذاته والعالم من حوله ،فإنها بالمقابل تحمل أغراضا كونية لأنها بدون شكّ تهدف إلى إخراج الإنسان من عزلته وفرديته ليؤسس كلّيته ،وهذا يشّرع الحديث عن أدوار متعددة ومختلفة للممارسة التشّكيلية وطالما أن أي عمل فني يجسم تلك الخصوصية الكامنة في ذات المبدع وأيضا تلك الكونية المفتوحة على معنى كلي فان النفاذ إلى هذه القيمة و إدراك مغزاها مرهون بكيفية قراءة العمل الفني وأسلوب تأويله إذ تعتبر قراءة الآثار الفنية من أكثر الدواعي الباعثة على الاختلاف في تأويلها ورصد قيمتها .
وأنا بصدد قراءة أعمال الفنان القطري محمد العتيق أحسست بأنه اقرب إلى طفل يلعب ويكوّن تركيباته بأسلوب مجازي يدعوني مباشرة إلى النظر إلى المسألة من نواح أخرى جعلتني أتيقن أن هذا الإنسان محكوم بقوّتي العقل والانفعال.
محمد العتيق فنان قطري من مواليد الدوحة 1966 ،قام بالعديد من المعارض داخل وخارج البلاد كما تحصل على العديد من الجوائز العالمية ،وترأس العديد من الجمعيات ونظّم التظاهرات التي تعنى بالفن ،والأهم من كل هذا ما يزخر به رصيده من حيث نوعية الممارسة الفنية لديه ،و أنا أتفحص أعماله تفطنت إلى أن هناك جدل قائم بين الفنان والموضوع الذي يوحي إليه فيشغله ويتجاوزه من ثمّة نحو المعنى.
أثار محمد العتيق الفنية هي بمثابة رسم وكولاج على قماش بأحجام وقياسات مختلفة يستعمل فيها الفنان تقنيات مختلفة من ضمنها الاكريليك والخامات المهملة صغيرة الحجم كالأقفال ،مشابك الشعر ،مسامير ،خيوط ،أقمشة ،أعواد كبيرت مستعملة أوراق الخ...
مواد من بيئته العائلية ستأخذ معه أبعادا إضافية إضافة إلى صنعه خامات بتركيبات خاصة به حيث عمد إلى تطويع الخامة الحديثة لخدمة أفكاره فيحاول جاهدا استخدام ما أسماه الفنان "المهمل الصغير" ليغير مفهومه من حالته الفعلية والمرور به إلى المفهوم البصري الذي سيحمل دلالات فكرية .
يبدو جليا أن محمد العتيق يسعى من خلال أعماله إلى تحقيق الأسس الجمالية التي من شانها أن تخلق صلة القربى بينه وبين المتلقي من خلال خلق توازن بصري بين عناصر العمل الفني وهي الألوان والأشكال والخامات لتخدم أفكاره، لهذا نلاحظ تركيزا كبيرا على الشكل لما يحمله من قيم جمالية في حد ذاته و من ثمة تحميله تلك التعبيرات القيمة والأصيلة ومنها أساليب مبدعة في كل مرة .حيث أن أول ما يلفت الانتباه ي لوحات العتيق هو كونها أعمال لها شخصية متكاملة و ناضجة تجمع بين قوة التركيب والشكل وطرافة المواضيع والخامات المعتمدة ،وفي مرحلة متقدمة من قراءة هذه الأعمال وجدت نفسي أمام حتمية التدقيق والبحث في خلفية عمل الفنان بداية من عناصر هذا العمل والأسس التي بني عليها من حيث اعتماده على تضاد قيم لونية في جل الأعمال تقريبا بين أبيض وأسود بدرجاتهما المختلفة ،حيث يبرزان لنا في توافق تام رغم تنوّع استعمالاتهما على مساحة الأثر الفني بين صباغة (اكريليك) وكولاج خامات. فتعددت بالتالي الملامس والدرجات اللونية وتنوعت رغم الاعتماد على قيمتين لونيتين فقط مع لجوء طفيف إلى بعض الألوان الترابية أو ألوان مصدرها الأساسي تلك الخامات الصغيرة المهملة كأزرق الأزرار ...أبيض وأسود يغلب أحدهما على الأخر، ثنائية مسيطرة على كيان العمل الفني ،مساحات يكسوها السواد و كأنني أمام مشهدية فلكية لكواكب ومجرات ونجوم ...تعتلي تلك السماء السوداء لتشع بنور تكويناتها على الأرض التي تلتحم معها من حين لاخر من خلال حضور تلك الألوان الترابية التي تعانق الأسود في أبدية مطلقة كما تضفي تلك السحب البيضاء أجواء من الصفاء على المكان.
كما تبرز لنا الخطوط من خلال أعماله متنوعة من حيث الأحجام و الاتجاهات كما من حيث قوتها وانسجامها وسلاسة تحركها على سطح اللوحة سواء كانت خطوط من خامات كالحبال أو من خيوط مادة الاكريليك أو قلم الرصاص أو أعواد الكبيريت والمسامير والمشابك الخ...فتحكم بالتالي الفضاء وتؤسس لمنطق بصري قائم الذات قوامه طاقة وقوى حركية خفية حينا ومعلنا أحيانا لا تهدأ.هذه الخطوط والألوان تفرز أشكالا تصبح عناصرا موزعة داخل مساحة العمل الفني تساهم في خلق حركية و ديناميكية تؤدي إلى تحقيق تلك الوحدة التي ينشدها الفنان وفق أسلوبه الخاص تتعدد من خلاله التركيبات و الخطوط و تتعانق الخامات والملامس بأسلوب متميز ومختلف وكأني بالعتيق يعدّ تمائمه و أحجبته السحرية بإتقان و تفان بالغين ليسحرنا ويشدّنا إلى أعماق أثاره بقوة غريبة وخارجة عن المألوف . تلك الخيوط التي تشق جسد اللوحة تشعرنا بذلك التماسك المنشود و تنفي صفة التفكك وهذا يزيد من جمالية الفكرة و قوة تنفيذها.
كما يوزع الفنان داخل لوحاته مساحات لونية مختلفة من حيث الحجم حيث يغلب في الكثير من الأحيان المساحات السوداء عن غيرها والتي تعطينا انطباعا كبيرا بالاحتواء كما يوزع مساحات فاتحة وأخرى قاتمة لتعميق ذلك الإحساس لدينا بالعمق الفراغي معتمدا في ذلك عنصر اللون والذي يعد من أهم العناصر التي ركز عليها الفنان في أعماله حيث نلاحظ بوضوح انه من أساسيات التكوين لديه فهو يعي جيدا مميزاته و تأثيراته فكانت هذه الثنائية الطاغية والتي سيطرت على جل أعماله ساحرة و فيها ذكاء ودهاء تكويني ملفت.
أما على مستوى الملامس فان تنوّع الخامات داخل أثار الفنان أفرزت تنوعا ملمسيا ثريا وهذا ما زاد من أهمية العمل واكسبه بعض الصفات الجمالية الخاصة كالتذكير بالموضوع من حين لأخر كما حقق ذلك توازنا مع بقية العناصر المكونة للعمل والتي تحكم اللوحة،كالإيقاع والذي حضر في لوحاته من خلال أسلوب التكرار الذي جاء عادة من خلال استخدام تلك الخامات المتلفة كتكرار عقد الحبال وأعواد الكبريت ومشابك الشعر التي جاءت معلقة ،هذه الكتل كونت وحدات متماثلة حينا ومختلفة حينا آخر متباعدة ومتقاربة في آن لإنتاج إيقاعات جمالية تراعي النسب بين مجموعة الأشكال المكررة وإطار اللوحة.
هذا الإيقاع خلق بدوره حركية قادت العين إلى التجول داخل الأثر الفني و تحرك أكثر العناصر سكونا إلى أن تصل بنا إلى مركز العمل الفني والذي قادنا إليه الفنان من خلال عناصر التركيب واتجاه الخطوط بذكاء بالغ.
أما مواضيع الفنان فكانت مرتبطة به وباهتماماته فعبرت عنها خاماته ،ألوانه و تركيباته ،مواضيع في علاقة جدلية بين الأنثى والذكر بين الخير والشرّ ،كما أن التماسك الأسري احد أهم مواضيع العتيق ونلتمس ذلك جليا من خلال استعماله لتلك المهملات الصغيرة التي تستعملها الأسرة يوميا تقريبا.
الفنان محمد العتيق اتجه في أعماله الفنية نحو مسلك يتخطى البحث عن المتعة الجمالية كمتعة أنية عابرة بل تجاوزت أثاره ذلك بتجاوز الواقع القائم و التحرر من كل قيد للسائد والموضوعي ،وكأني بالفنان من خلال ما يقوم به يخبرنا بان الانتعتاق بكل أشكاله هو احد الرهانات الأساسية للفن و أن الحياة بالفن أجمل وأرقى وأ ستصبح أكثر دلالة.
مساحاته هندست بإحكام اللعب المدروس ،فضاءات بصرية ثرية بالمضامين الجمالية و الفكرية ،سواد منتشر في الفضاء يحتوي بكل أحكام تلك الخامات في تكوينات متناسقة ومتوازنة مفعمة بالحياة ،حيث تنعكس رؤى الفنان بنقله ذلك الحيّز الفكري والاجتماعي والأسري على سطح لوحاته ينقل بمقتضاه الجمال من حيّز اليومي والعائلي الى الحيّز الفني ،حيث يعطي للخامة الصغيرة منزلة ويرفعها الى درجة تكون فيها منهلا يستقي منه إبداعاته.
قيمة الأثر الفني لدى العتيق هو التعبير عن تجربة ذاتية إنسانية تنطلق من الموضوع وآلياته لتصل في النهاية إلى الشكل الذي سيصبح الموضوع عينه.فعندما يبتعد الفنان شيئا فشيئا عن الموضوع ويسرح من خلاله إلى عوالمه المنشودة يتخلص الأثر الفني رويدا رويدا من جنس المتعة الآنية العابرة ،هي في حقيقة الأمر متعة تشعر المتلقي بتلك القدرة على التجاوز تجاوز السائد والموضوعي.
فالخامات المستعملة هي نفسها صور لماهيات أخرى حيث يتولى العتيق مهمة الارتقاء بها إلى الأسباب العقلية التي تنبثق منها طبيعة هذه الأشياء،في هذه الأعمال تخلق تلك الخامات الصغيرة كثيرا من الأشياء بنفسها ،تضيف إلى حساسية الفنان في استعمالها ذلك الجمال الكامن في ذاتها ليتجاوز الفنان من خلالها الأبعاد المادية للشيء نحو العمق.
تحضر الخيوط والعقد والبياضات فوق تلك القماشة السوداء لتشعرنا بالتوازن رغم كل ذلك التضاد اللوني والملمسي الذي يثري القيمة البصرية للأعمال ،يخيط لنا العتيق أثوابا من أفكار ومعاني لنتلحف بها ،استطرادات واستعارات كثيرة تتوزع هنا وهناك داخل أثاره الفنية لتزيد من حيرتنا إزاء هذه التمائم المحبوكة بعناية وإلغاز بالغين. لتكوّن بالتالي وسائط الفنان منهج للمرور من الذاتية إلى كل ماهو كلي وكوني والكلي هو كل ما يتجاوز صفة الفردية والخصوصية والجزئية وهو يحيل على معنى المشترك والمطلق.
يتعالى الكلي في أعمال الفنان عن المعنى الزمني والتاريخي بما فيهما معاني التحويل والتغيير ولتحقيق الكلي يجب تجاوز نقص الواقع المعيش لأنه جزئي هو بحث في منزلة النقص الذي يكمن في الإنساني و للتوجه نحو الانفتاح فما يستعمله الفنان من ذاتي يومي وواقعي هو مطية للمرور به نحو الأكثر كلية وإعطائه قيمة كانت غائبة او ربما ماهية إضافية كانت مخفية .
لوحات الفنان محمد العتيق هي بمثابة نبش وتخصيب للسواد لإستشراف روح المعنى والدلالة ، هي لوحات الزمن الماضي وهي روح الحاضر كما هي أيضا تبصير للمستقبل.

دلال صماري* *باحثة وتشكيلية تونسية