د.جمال عبدالعزيز أحمد ✽

نستكمل اليوم معك ـ عزيزي القارئ ـ الجزء الأخير وهو ما تبقى من هذا الموضوع عن سورة الزلزلة .. ونقول: إن هناك تثبيت الدلالة في نفوس المستمعين للقرآن الكريم، وبيان تمام صوتها، وقوته، ثم يتكلم القرآن عن شريحتين كبيرتين للبشر كلهم:(يومئذ يصدر الناس أشتاتًا) و(أشتاتًا) حال، أيْ: متفرقين، أصنافًا وأطيافًا، والمضارع:(يصدر) يفيد استمرار ذلك لكثرتهم كثرة كاثرة بملايينهم وملياراتهم، فهم كالفراش المبثوث أينما تتوجه بالبصر تجد على مرمى البصر البشر في كل مكان تنتشر، و(أشتاتًا) تبين كثرة التفرق، فـ(أشتاتًا) جمع (شتيت)، والشتيت: المتفرق المنقسم المتقطع هنا، وهناك، وهنالك، ثم ذكر القرآن العلة في ذلك، فقال:(ليروا أعمالهم) أيْ: ليُريهم الله، أو ملائكته، ومن يأمرهم الله بالبيان العملي للبشر سيريهم أعمالَهم، ليشاهدوا ما قدموه في حيواتهم، وشبه الجملة: (ليروا أعماله) لبيان سبب صدورهم وخروجهم من أجداثهم، وتَحَدُّثِ الأرض بأخبارهم، فشبه الجملة هو حال، أو متعلق بالفعل (يصدر) من شدة الارتباط اللغوي، حيث تواصل العطف بالواو مرتين، ثم جاء مقول القول المرتبط بفعل القول، وأتى الجواب المتوقف على السؤال المتقدم، فكل جملة ـ كما ترى ـ تأخذ بعنق أختها، وتمسك بحُجُزها مترابطةً أشدَّ ما يكون الترابط، متماسكة أبدعَ ما يكون التماسك، ترابطت حلقاتها في أبدع سلك منظوم، يظهر أجملَ التماسك، وجملة:(يومئذٍ تُحدّث أخبارها) مرتبطة بقوله: ما لها؟ حيث تفرعت عنها لتجيب عن السؤال والجواب متماسك مرتبط بالسؤال، ارتباط الجواب بسؤاله في حبْك قويٍّ، بعد سبك صفيٍّ، وشبه الجملة:(ليروا) مرتبط بفعله (يصدر) ارتباط التعلق الشديد، و(أشتاتًا) حال تبين هيئة الصدور، وشكل البروز، فكلُّ لفظةٍ آخذةٌ بتلابيبِ أختها، معلقة في رقبة ما قبلها، وصدر ما بعدها تعلقَ الأصل بالأصل، أو الفرع بالأصل، فالارتباط عضويٌ، أصيل، لا انفكاك منه، ولا محيص عنه، ثم فاء العطف المرتبطة بـ(مَنْ) الشرطية ، و(مَنْ) الشرطية تربط الجواب بالشرط ارتباطا قويًا متماسكًا:(فمن يعمل مثقالَ ذرةٍ خيرًا يره) فالكلام في السورة الكرمة كله متشابك، سواء فعل الشرط، وفاعله، ومفعوله، ومضافه، أو جواب الشرط بفعله، ومفعوله، و(مَنْ) اسم شرط عامٌّ، يحمل دلالة الذكر والأنثى، والقليل والكثير، والشباب والشيب، وهو اسم كذلك يمكن أن يكون اسما موصولًا عامًّا يدخل تحته كلُّ ما يمكن أن يدخل، والفعل:(يعمل) فعل مضارع يفيد الاستمرار، وتنكير:(خيرًا) ليشمل كل خير، ولو كانت خاطرة، أوهَمًّا داخليّا، أو نيَّة لم تحدث بعدُ، لكنَّ صاحبه انتواها، وأرادها نفسيًّا، وجوابالشر يأتي سريعًا دون تأخير: (يعمل .. يره)، ولعل الجزم وحذف عين الفعل، وتقصير النطق به مما يسارع في حذف الزمن لحصول الجواب، ثم واو العطف التي تفيد الربط الشديد:(ومن يعمل مثقالَ ذرةٍ شرًّا يره)، فقد ترابطا عَطْفيًّا، وشرطيًّا، ودلاليًا وتقابليًّا، فهما وردا على سبيل المقابلة والتضاد، والتقابل الدلالي يظهر مقابله، وبضدها تتميز الأشياء، والضد يظهر حسنَه الضدُ، و(خيرًا) يقابلها (شرًّا) لبيان حساسية الموازين التي تزن ما يدقُّ، وما يعنُّ وقد تمَ الترابط النصي، وبدا التماسك الدلالي في كل صوره، سواء أكان أداة شرط حرفًا أم اسمًا أم كان حرف عطف للجمل أم للمفردات، أم كان مقولًا للقول، أم ورد بدلًا من المبدل منه، أم جاء جوابًا وردًّا على السؤال، وقد دخل ذلك كلُّه جوانبَ السورة الكريمة، فأوضح مدلولها، وبيَنَ أغراضها، وكشف أهدافها، أسأل الله أن يبصرنا بجمال، وكمال، وجلال القرآن، وسمو أساليبه، وعلو وتشابك جمله، وتراكيبه.