محمود عدلي الشريف ✱

ثانيًا ـ أسماء ـ رضي الله عنها:(التي لا تزال في ميعة الصبا، ولم تنجب من الزبير بعد، تشارك في الأحداث بكل ما أوتيت من نباهة وذكاء، فتضع نطاقها وكاء للطعام والشراب، وتسارع في حل مشكلة المال المحمول مع أبيها فتخترع قصة الحجارة حتى تسكن الشيخ وتهدئ من روعه، وهي تعلم أن أباها قد حمل المال كله وتركهم لله ورسوله، ويصفعها الخبيث أبو جهل على وجهها فيطير قرطها من أذنها، وهي مُصرّة على قولها:(والله لا أدري أين ذهب أبي) (فقه السيرة النبوية لمنير الغضبان ص:347).
وتخيلوا معي هذه الفتاة المدللة التي ترعرعت في بيت يحيط به الحنان والرحمة، والمودة والرأفة، ثم تجد نفسها أمام رجلٍ فظٍّ غليظٍ قاسي القلب، لا تأخذه شفقة ولا رحمة، تخيلوا ثباتها وقوة دفاعها، وما كان من أبي جهل إلا أن يلطمها على خدها، فيقطع القرط من أذنها، وهي التي لم يرد أباها ضربها قط، فهل هناك أشد من هذا الموقف الحرج الشديد على قلبها، هذه الفتاة التي لم تعرف الغلظة في الحديث، ولا العنف في المعاملة، ولا القسوة مع الآخرين، ثم تجد نفسها في مواجهة عنيفة أمام هذا الجاهل الغاشم، ومع ذلك كله فقد أثبتت قواتها وبسالتها، وشجاعتها وقوة شخصيتها، فلم تخف أو تتقهقر، أو تهتز بل صمدت وواجهت في غير خوف أو تخاذل.
ثالثًا ـ عبدالله بن أبي بكر:(وهو غلام شاب ثقف لقن، وهو الذي حمل مسؤولية نقل الأخبار لرسول الله كل يوم بعد أن يختلط بقريش طيلة النهار، ويعود بها ليلًا بعيدًا عن أعين الرقباء، وفي قلب الخطر المحدق)(فقه السيرة النبوية لمنير الغضبان ص: 347).
والذي يعلم أن قريشًا تراقبه، فهم يعلمون أنه سيتواصل مع أبيه، ففي ذهابه وإيابه يستطلع الأخبار .. أليست هذه مخاطرة؟!، فمن السهل جدًا وليس من الممكن فقط أن يذهب فيقتل،حقًا إنها مواقف حرجة يقف العقل حائرًا أمام أصحابها الذين أثبتوا حقًا أنهم صفوة المختار وخيرة أصحابه.
رابعًا ـ تعمية أبصار المشركين عن إبصار رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأبي بكر في الغار:(جاء المشركون في طلبهما إلى ثور، وما هناك من الأماكن، حتى إنهم مروا على باب الغار، وحازت أقدامهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وصاحبه، وعمى الله عليهم باب الغار، ويُقال ـ والله أعلم ـ إن العنكبوت سدت على باب الغار، وإن حمامتين عششتا على بابه، وذلك تأويل، وذلك أن أبا بكر ـ رضي الله تعالى عنه ـ لشدة حرصه بكى حين مر المشركون، وقال: يا رسول الله، لو أن أحدهم نظر موضع قدميه لرآنا، فقال له النبي (صلى الله عليه وسلم): يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما) (الفصول في السيرة ص: 115).
تخيلوا حال الصديق مع رسول الله ـ وهو الواثق بربه ـ وهو يرى أقدامهم .. يا الله! لا يفصلهما عنهم إلا خيوط العنكبوت، واختلاف توازن الأرض بين العلو والدنو، ماذا لو رأوهما؟! ماذا لو دخلوا عليهما؟! ماذا لو أمسكوا بهما؟! كيف سيكون حالهما؟ يا الله!، والله لو كان ذلك ـ وما كتبه الله ـ لفعلوا بهما الأفاعيل، ولا شك أن أبابكر يثق بربه وبنبيه، ولكن له الحق ـ كل الحق ، في خوفه الشديد، فرسول الله معه، أليس له الحق أن يخاف على رسول الله؟!(وها هو يخاف على رسول الله لما قصدا المدينة، فقد قال: لما أدركنا سراقة، قلت: يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا، فلما كان بيننا وبينه قيد: أي مقدار رمح أو ثلاثة، قلت: يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا وبكيت، قال: لم تبكي؟ قلت: أما والله ما على نفسي أبكي، ولكن أبكي عليك، فدعا رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فقال: اللهم اكفناه بما شئت، فساخت به فرسه في الأرض إلى بطنها وكانت الأرض صلبة) (السيرة الحلبية .. إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون 2/‏ 60).
لقد كان الصديق حييًا، هادئًا، بكّاءً حين يتلو كتاب الله تعالى، رحيمًا، لكنه في المواقف الحرجة والصعبة قويًا، شجاعًا، وقف تلك المواقف العظيمة عندما تردد أناس وهو يؤمن بالنبي (صلى الله عليه وسلم)، ويصدقه في أحلك الظروف وأقساها، كليلة الإسراء والمعراج .. لم يتخلف في غزوة واحدة من غزوات النبي (صلى الله عليه وسلم)، بل كان يفتديه بنفسه .. (وكان مما قاله: إن هلكنا نحن فإن الأمر يهون لكن! إذا هلكت أنت يا رسول الله فمن يسد مكانك وبعد أن لحق النبي (صلى الله عليه وسلم) بالرفيق الأعلى وقف الصديق تلك المواقف العظيمة إزاء الردة، وذهول الناس لموت النبي (صلى الله عليه وسلم)، وإنفاذ جيش أسامة، و.. و..، فهل الصديق ـ رضي الله عنه ـ ذا شخصية قوية؟! هذه صفاته التي تجلت عمليًا وتطبيقًا ميدانيًا، فماذا عن تحديد الشخصية القوية من خلال النصوص الشرعية ولا شك أنها كثيرة) (أرشيف ملتقى أهل التفسير، تم تحميله في: المحرم 1432 هـ، ديسمبر 2010م، بالمكتبة الشاملة آليًا).
إنه الإيمان.. الذي ربا عليه رسول الله أصحابه، (وهو الذي جعل بلالًا ـ رضي الله عنه ـ يتحمّل ما تحمل، وصهيبًا يستعذب حرارة النار، وسمية تستخف بالقتل، إن هذا الإيمان هو الذي دعا غلام أصحاب الأخدود أن يضحي بنفسه لتنتشر عقيدته، وجعل أتباعه يفضلون النار المستعرة ولا يعودون إلى الكفر أبدًا) (أصول الدعوة ـ جامعة المدينة ص:195).
ولم تكن هذه المواقف وحدها حرجة في الهجرة المباركة، بل هناك ممن كان لهم مواقف شجاعة في إتمامها، لا يقل أهمية عما سبق، بل إن شئت قل، إن صحابة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) جميعًا كانوا أهل شجاعة وإقدام، وتحمل وصبر حتى في أحلك الظروف وأصعبها، بقوة إيمانهم ويقينهم بما عند الله تعالى ، حقا إنه الإيمان الذي صنع منهم المعجزات! من هنا فالأيمان بأن الله تعالى معنا وهو ناصرنا مهما ضاقت الحلقات أو أحكمت الأصفاد، أو اجتاحت العالم فيروسات.