قراءة فـي آية من آيات سورة الكهف «1 ـ 2»

د.جمال عبدالعزيز أحمد ✽
كثيرًا ما يتكلم النحاة المعاصرون عن قضايا الروابط اللفظية، أو ما يسمونه كذلك بـ(السبك)، ويبيِّنون دورها، أو دوره في تآزر النص، وتماسك أجزائه، بحيث يُقرَأ، ويتأمل كأنه جملة واحدة، وكذلك يتفوَّهون بمصطلح (نحو الجملة)، و(نحو النص)، و(نسيج النص)، وهنا أدور حول تلك الفكرة، وأبيِّن مدى تداخل الروابط في نسيج النص، وتمتين أواصره، وتماسك أركانه، فلولا تلك الروابط اللفظية لَانْفَكَّ عقدُه، وتناثرت حباتُه، ولغة القرآن الكريم هي أسمى لغات الأرض، ومن ثَمَّ فقد جعلها الله تعالى لغة كتابه الكريم، وأنزل بها رسالته الخالدة إلى خلقه، فلم يشأ ـ سبحانه ـ أن تكون رسالته الخالدة بغير اللغة العربية، مما يدل على مكانتها، ومقامها، ومنزلتها، وكونها سيدة اللغات، حيث تتضمن من الطاقات، والإمكانات ما ليس في غيرها من اللغات، وتمتلك في طياتها عواملَ شموخها، ووسائل بقائها، حيث ماتتْ لغات، واندثرتْ لهجاتٌ، وضاعتْ أبجديات، وبقيتْ لغة اللغات، اللغة العربية، لغة القرآن الكريم التي دامتْ، وبقيتْ، وستبقى عالية، سامية، باذخة، شامخة، وستظل على هذا السمو، وذاك العلو إلى يوم الدين؛ بسبب ارتباطها بهذا الكتاب الكريم، كتاب الله رب العالمين، إلى كل العالمين، يقول الله عز وجل:(إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون)، ويقول تعالى:(بلسان عربي مبين)، ويقول تعالى:(ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا)، ومن تلك الروابط اللفظية الكثيرة في لغتنا الجميلة: حروف العطف على تنوعها، وحروف التوكيد على كثرتها، وكون التوكيد نوعين: لفظيًا ومعنويًا، وله طرقه، وأنماطه اللغوية المعروفة في كتب النحاة، وكذا منها حروف وأدوات الشرط بعامة، والتوابع على اختلافها، ومنها كذلك حروف التعليل والأجلية، وحروف القسم، وارتباطه بالشرط في جملة واحدة، وهكذا تأتي روابط اللغة اللفظية متعددة، ومتنوعة، وكثيرة، ونبحث هنا دورَها المباشر في تماسك نسيج النص، وترابط كلماته من خلال النظر والتحليل لتلك الآية الكريمة في سورة الكهف، التي يقول الله تعالى فيها:(قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) (الكهف ـ 110).
بدأت هذه الآية المباركة بفعل الأمر:(قل) الذي يتطلب مقولَ القول، فيزيد الكلام تماسكًا لأنه لا قول دون المقول، والمقول مرتبط بالقول أشدَّ الارتباط، وكل الآية مقول القول، فهي التي طُلِبَ من الرسول أن يقولها وتبدأ من قوله:(إنما أنا بشر ..)، وتنتهي بنهاية آخر كلمة في الآية، فكلها متماسكة بكل كلماتها، ونسيجها، وعباراتها، وتراكيبها، وأساليبها، وسوف نتوقف هنا عند كل كلمة فيها.
والفعل:(قل) أحرفه تفيد علو الصوت، حيث القاف المفخمة، واللام التي تخرج من جوانب الفم، وتملؤه، فالفم كله يقين، واعتقاد، وجزم بما سيكون من شأن القول الكريم، ثم تأتي (إن) المكفوفة بـ(ما)، والتي تفيد الحصر والقصر للقضية العقدية الآتية:(أنا بشر)، فليس الرسول الكريم إلهًا، ولا ربًا، ولا مولى لأحد، رغم أنه سيدُ الناس، وخاتمُ المرسلين، ونعمة الله للعالمين، وهديته للخلق أجمعين، لكنَّ ذلك لا يُخرِجه عن بشريته، وإن كان أفضل الخلق، وليس مثلَه أحدٌ من البشر:(طهرًا، وعفافًا، وصدقًا، واتصالًا بربه، وحياءً، ونقاء) (صلى الله عليه وسلم) فهي قضية مفروغ منها، جاءت بأسلوب الحصر، والقصر الحقيقي، لا القصر الإضافي، ثم تابعَتِ العبارة بقوله:(مثلكم)، فالرسول مثلنا، ومن البشر، غير أنه يتمتع بأنه: (يُوحَى إليه)، فهو موصول بربه، لا يأتي بشيء من عنده، (إِنْ هو وحي يُوحَى)، كل حياته موصولة بربه، فهو موصول في أنفاسه، ونبضات قلبه الشريف، وما يتفوه به لسانه الطاهر بالله، كلُّه بوحْي من ربه، ينزل به جبريل (عليه السلام)، فجبريل ينزل عليه بالوحي، يقطر به سلسلا من سلسل، وهو رَوَّاحٌ بها غَدَّاءٌ، فكلمة (بشر) هي خبر للضمير (أنا)، ثم جاء الخبر موصوفًا بعدة صفات، هي:(مثلكم)، و(يوحى إليَّ)، وشبه الجملة (إليَّ) متعلق بالفعل (يوحى)، أو في محل نصب حال لأن (بشر) وُصِفَتْ مرتين، والصفة الأولى تُنَزَّل من النكرة منزلة (أل) فكأنها بعد الصفة الأولى أمست معرفة، فيمكن للصفة الثانية أن تُوَجَّهَ على أنها صفة ثانية، ويمكن أن تقوم مقام الحال، وكلها تترابط في توضيح تلك الشخصية النبوية الكريمة، في كونه بشرًا مثل الناس غير أنه يوحى إليه، وهي كناية عن اختياره من ربه رسولًا، ونبيًا، ومبلغًا للوحي الكريم، واستعمال المضارع (يوحى) يفيد الاستمرار، وكون شبه الجملة هنا (إليَّ) يفيد التخصيص، فهو مخصص له، لا لغيره، فالمُوحِي هو الله، والموحَى إليه هو الرسول الكريم، ثم بعد هذا التماسك بين الكلمات، والارتباط بين العبارات، يأتي الموحَى به، وهو:(إنما إلهكم إله واحد)، حيث جاءت أداة التوكيد:(إن) مكفوفة بـ(ما) الكافة لمزيد توكيد، وتثبيت في القلب، وتعميق في الفؤاد، وتأتي العبارة المطلوب قرارُها في عمق القلوب، وسويداء الأفئدة:(إلهكم إله واحد) تأتي بالجملة الاسمية المفيدة للثبات، والدوام، والاستمرار، وفيها الرابط اللفظي الجديد وهو الصفة المفردة:(واحد) فهي جملة اسمية أركانها الأساسية موجودة بكلِّ وضوح، ومقتصرة على العناصر الإسنادية الأساسية التي أرسَتِ الأركان المطلوب تغلغلها في حنايا الروح، وزوايا القلب، وجوانب الجسد، وبِنية العقل، وحنايا الفكر والذات، واستمرارها بين ناظرَيِ المسلم، تلازمه صباح مساء، ليل نهار في الصيف والشتاء، وفي الخلوة والجلوة، والسفر والإقامة، والحضر والمدر، وفي كل لحظة، هي معه لا تفارقه، وعليها تسير كلُّ حياته، يُمسِي بها ويُصبِح معها، ولا يمكن أن ينساها، ومقتضى ذلك، ولازمه ألا يشرك المسلم بربه أحدًا، وأن يكون وقَّافًا عند حدود ربه، عاملًا بتعليمات مولاه، وما أتى به رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قائمًا على حدود الله، مجتهدا في توحيده، وإجلاله وتعظيمه ـ جل في علاه ـ وتعاظم في أرضه وسماه، قال سبحانه:(لتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلًا).


✽ كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة - جمهورية مصر العربية
[email protected]