محمود عدلي الشريف ✱
لقد علمنا ديننا الحنيف أن على مبادئنا وأخلاقنا لا نتزحزح مهما كان علينا من أمور مغرية أو أخرى مزرية، فالمؤمن صاحب مبدأ .. هذا ما علمنا القرآن الكريم ورسولنا العظيم ـ عليه أكمل الصلاة وأفضل التسليم.
فالإنسان ـ أي إنسان ـ يعيش حياة واحدة ذات عمر واحد، بأجل مكتوب وعمل محسوب، والمؤمن هو أول من يدرك ذلك، ويقضي حياته في ضوئه، ولا يعنيه حلاوة العيش أو مرّه، أو طول العمر أو قصره، أو غناه وفقره، فالمؤمن صاحب مبدأ ورسالة، يؤديها بمنتهى الشجاعة والبسالة، رجل للمواقف شامخ ثابت، فالمؤمن على مبادئه محافظ، وعلى عهد الله وطريقه قائم، مستبصر بمنهج دينه، محدد لأولويات أهدافه ويقينه، فحياته مهما طالت لله، إذا أحب أحب لله، وإذا كره كره لله، وإذا غضب فهي غضبة لله، أمره كله لله، (يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ ..) ( آل عمران ـ ١٥٤).
فحياته كلها لمولاه، ولا يبغي بها إلا رضاه، ولا يعيش فيها لسواه، (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأنعام ـ ١٦٢)، لهذا كان (صلى الله عليه وسلم) راضيًا ربه، قاصدًا دربه، مجدًا في قصده، وها هو ـ عليه الصلاة والسلام ـ يعلمنا الثبات على المبدأ، والصلابة في العزم، والقوة في القصد، والاستقامة على الطريق، فقد جاء:(إن قريشًا مشوا إلى أبي طالب تارة أخرى فكلموه، وقالوا: ما نحن يا أبا طالب، وإن كنت فينا ذا منزلة بسنك وشرفك وموضعك، بتاركي ابن أخيك على هذا حتى نهلكه أو يكف عنا ما قد أظهر بيننا من شتم آلهتنا، وسب آبائنا، وعيب ديننا، فإن شئت فاجمع لحربنا، وإن شئت فدع، فقد أعذرنا إليك، وطلبنا التخلص من حربك وعداوتك فكل ما نظن أن ذلك مخلصًا، فانظر في أمرك، ثم اقض إلينا قضاك، فلما قالت قريش لأبي طالب هذه المقالة بعث إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال له: ياابن أخي إن قومك قد جاءوني فقالوا: كذا وكذا، للذي قالوا له، وآذوني قبل، فأبق علي وعلى نفسك، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق أنا ولا أنت، واكفف عن قومك ما يكرهون من قولك هذا الذي فرق بيننا وبينهم، فظن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه قد قدًّا لعمه فيه بداء، وأنه خاذله ومسلمه، وضعف عن نصرته والقيام معه، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم):(يا عم لو وضعت الشمس في يميني والقمر في يساري ما تركت الأمر حتى يظهره الله أو أهلك في طلبه، ثم استعبر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فبكى، فلما ولى قال له ـ حين رأى ما بلغ الأمر برسول الله (صلى الله عليه وسلم): أقبل يا ابن أخي، فأقبل عليه، فقال: امض على أمرك وافعل ما أحببت، فو الله لا نسلمك بشيء أبداً)، اشتد وجدهم، وآذوا النبي (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه أذى شديدًا وضربوهم في كل طريق وحصروهم في شعبهم وقطعوا عنهم المادة من الأسواق، فلم يدعوا أحدًا من الناس يدخل عليهم طعامًا ولا شيئًا مما يرفق بهم). (سيرة ابن اسحاق .. السير والمغازي ص: 158).
وهذا هو مكرهم، ولكن الله الذي يكتب ما يبيتون ويعلم ما يفعلون لم يتخل عن رسوله (صلى الله عليه وسلم) فأوحى إليه بما دبره له الأعداء في ندوتهم، وأمره بالهجرة من مكة إلى المدينة، مما اضطر رسول الله وأصحابه أن يتركوا لهم مكة بأكملها، مهاجرين بعقيدتهم ثابتين على مبدأهم، ورأوا من أهل مكة ما رأوا، (فهاجروا بعد أن ذاق (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه منهم شدة إيذاء المشركين من قريش للرسول (صلى الله عليه وسلم) وللمسلمين، وقد بلغ هذا الأذى نهايته في الفترة الأخيرة، أي بعد وفاة السيدة خديجة ـ رضي الله عنها ـ ووفاة أبي طالب، عم الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وأيضًا بعد (المؤامرة الكبرى) وهي تلك المؤامرة التي اتفق المشركون فيها على قتل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) والتخلص منه ليخلو الجو لهم، ويرجع المجد والسلطان لآلهتهم المزعومة، وعقائدهم الفاسدة) (القول المبين في سيرة سيد المرسلين ص: 174 بتصرف بسيط).
فلم يكن (صلى الله عليه وسلم) ولا أصحابه ولا المؤمنين الصادقين من بعده من المتلونين بألوان الكذب أو النفاق، أو المجاراة على الخطأ، أو المباركة والتأييد لكل ناعق ومناد، فقد كان لا يخشى في الله لومة لائم، نعم! ولِمَ لا؟! وهم أصحاب مبادئ ولا يكتفون بالإيمان بعقيدتهم، بل إنهم في دفاع دائم عن مبادئ عقديتهم، يوطنون أنفسهم دومًا للدفاع عن الحق والخير وهم يعلمون أن المعركة بين الحق والباطل مستمرة، فسجل التاريخ لهم تلك المواقف الحازمة، والعين اليقظة، والبصيرة الثاقبة، والفكرة النيرة، والهمة المتجددة، والأفاق الواسعة، و(بذلك قد ضربوا للناس في كل زمان ومكان أروع الأمثال في التضحية من أجل العقيدة، وفي الوقوف أمام الطغيان بثبات وعزة، وفي الصبر على المكاره والآلام، وفي المسارعة إلى الدخول في الطريق الحق بعد أن تبين لهم، وفي التعالي عن كل مغريات الحياة) (التفسير الوسيط للطنطاوي 5/‏ 352).
.. وللحديث بقية.