ظلت الرسالة العمانية الأخلاقية على مدى التاريخ تنادي بالمساواة واحترام الذات الإنسانية وتكافؤ الفرص بين الجميع، ونشر المعرفة وتشجيع الإبداع وتحقيق التنمية الشاملة، وبسط الأمن والاستقرار وقيم التعايش والتسامح والحريات المضبوطة بضوابط القيم والمبادئ والأخلاق والالتزام والاحترام وعدم التعدي على حريات الآخرين، لأجل تمكين الإنسان من الحصول على حقوقه والتعبير عن فكره ورأيه والمساهمة في البناء الحضاري والإنساني.
هذا السبق العماني في مضمار الحضارة الإنسانية هو ذاته الذي تحقق مع نشوء مفاهيم حماية الحقوق وحفظها وإقامة دعائم البيئة الصحية الملائمة المنتجة والمحافظة على سلامتها، وكذلك حماية التراث الإنساني والمعالم الماثلة من دلائل الجهد التاريخي المتواصل لإقامة عالم متحضر ومسالم.
وبكل تواضع لم يسعَ العمانيون لتكريس حقهم في الريادة العالمية في مضمار الثقافة والعلاقات الدولية، لكن توازنات القوة المتباينة في عالم اليوم وبخاصة قوة الرسالة الإعلامية الغربية والتي تحولت إلى رسالة دعائية للترويج لتفوق كل ما يهب علينا من اتجاه الغرب، تجعلنا أصحاب حق في أن نقيم أركان رسالتنا الحضارية الإسلامية والثقافية والاجتماعية والإعلامية على أسس ماثلة للعيان دون ادعاء أو مفاخرة، ولكن صيانة لحق تاريخي يحمينا من الشعور بالذنب كدول نكون ما يعرف بـ(العالم الثالث) بما يحمل المصطلح من دلالات التراجع الحضاري.
ومن منطلق الحرص العماني على نقل هذه التجارب في التعايش الإنساني والتسامح وحماية الحقوق واحترام الذات والرأي الآخر والحرص على التواصل الثقافي مع الشعوب الأخرى، جاء المؤتمر الدولي "القيم المشتركة في عالم التعددية الثقافية الـ(28)" بتنظيم وزارة الأوقاف والشؤون الدينية بالتعاون مع الأكاديمية اللاتينية بالبرازيل، والذي اختتم أعماله أمس بمقر مجلس عُمان بعقد جلسة واحدة بعنوان "الاندماج الاجتماعي والتمثيل" قدمت خلالها ثلاث ورقات عمل بعنوان "الديموقراطية دون السياسة: كيف تستطيع الديموقراطية الإضرار فعلًا بالشعب"، و"التنوع والاندماج والتحكم في المشهد الاجتماعي لجنوب شرق آسيا"، و"الصدام العالمي لعدم المساواة والتعددية الثقافية وحدودها".. حيث كانت هذه الأوراق من الأهمية بمكان في ظل المهددات لعوامل الاستقرار والأمن والتعايش والتسامح الديني والثقافي والعرقي والطائفي، والهدم الحاصل للمُثل والقيم والمبادئ والأخلاق وكل خصال الخير والفضائل من خلال هدم الإنسان هذا الكيان الذي أوكلت إليه مهام حضارية وإنسانية عظيمة، وحظي بالثقة الربانية في تحقيق أهداف الخالق من استخلاف هذا الكيان في الأرض ليقوم بعملية البناء والتعمير، وأداء ما حُمِّل من رسالات أخرى.
والمؤسف أن هذه القيم والمُثل والمبادئ والحريات والتعايش والتسامح كلها تنتهك اليوم إما نتيجة الصدام العالمي الناشئ عن صراع المصالح بين القوى الرأسمالية ونظيراتها المخالفة، وطغيان عنصر المادة على عنصر الروح، وطغيان الأنانية على الإيثار وحب الشراكة المبنية على تبادل المنافع والمصالح والتعايش والاحترام والاستقرار والسلم، وإما نتيجة استغلال الديموقراطية كمبدأ إنساني له دوره في تحقيق مصالح الناس، في خدمة أهداف مغايرة ومعادية للاستقرار والسلم والحياة والتعايش والتسامح، فما قدمته يد الصهيونية والقوى الكبرى القائمة على سياسة استعمار الشعوب واستعبادها من قتل ودمار وتهجير وإرهاب خلف أستار الديموقراطية وحقوق الإنسان وغيرها من شعارات باهتة تضمر سوء النية وفاسد الطوية، لا يكاد يضاهيه فعل إجرامي بحق البشرية في التاريخ.
ولهذا ووسط هذا الدمار الممنهج والتشويه المتعمد للبناء الحضاري والإنساني في العالم وبالأخص منطقتنا، تزداد الرسالة العمانية الحضارية والإنسانية والثقافية حضورًا وألقًا وتستقطب مزيدًا دائمًا من الاهتمام العربي والعالمي.