محمود عدلي الشريف:
لقد كانت الهجرة النبوية نموذجًا جليًّا لكل ذي ناظرة عبر التاريخ وإلى أن تقوم الساعة حول الثبات على المبدأ، والقوة في الحق، وأن يخاف المؤمن في الله لومة لائم، وهذا ما قدمه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من خلال حياته كلها، وهجرته المباركة أكبر دليل وأعظم برهان، كما أنه (عليه الصلاة والسلام) قد ربا أصحابه على هذا الثبات على الحق، وقد وضحوا لنا بما قدموا الحقيقة.
وإليكم ـ قرائي الأكارم ـ بعض النماذج من ثباتهم على المبدأ: ذكر غير واحد منهم صاحب كتاب (حياة الصحابة 1/ 361) عن (تحمل عبدالله بن حذافة السهمي ـ رضي الله عنه ـ الشدائد والأذى من ملك الروم، مما جعل عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يقبّل رأسه حين قدم عليه)، أخرج البيهقي، وابن عساكر عن أبي رافع قال: وجّه عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ جيشًا إلى الروم وفيهم رجل يقال له عبدالله بن حذافة من أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) فأسره الروم، فذهبوا به إلى ملكهم، فقالوا له: إنَّ هذا من أصحاب محمد، فقال له الطاغية: هل لك أن تَنصرَّ وأشرِكَك في ملكي وسلطاني؟ فقال له عبدالله: لو أعطيتني ما تملك وجميع ما ملكته العرب، على أن أرجع عن دين محمد (صلى الله عليه وسلم) طَرْفة عين ما فعلت، قال: إذاً أقتلك، قال: أنت وذاك، فأَمر به فصُلب، وقال للرماة: أرموه قريباً من يديه، قريباً من رجليه، وهو يعرض عليه وهو يأبى. ثم أمر به فأنزل، ثم دعا بقدر فصبَّ فيه ماء حتى احترقت، ثم دعا بأسيرين من المسلمين فأمر بأحدهما فألقي فيه وهو يعرض عليه النصرانية وهو يأبى، ثم أمر به أن يُلقى فيها، فلما ذُهب به بكى، فقيل له: إنه قد بكى، فظنَّ أنه جزع فقال: ردّوه فعرض عليه النصرانية؛ فأبى. فقال: ما أباك إذاً؟ قال: أبكاني أني قلت في نفسي تُلقى الساعةَ في هذه القدر فتذهب، فكنت أشتهي أن يكون بعدد كل شعرة في جسدي نَفْس تُلقى في الله، قال له الطاغية: هل لك أن تقبّل رأسي وأخلّي عنك؟ قال له عبد الله: وعن جميع أُسارى المسلمين؟ قال: وعن جميع أسارى المسلمين، قال عبد الله: فقلت في نفسي: عدوٌّ من أعداء الله، أقبّل رأسه يخلِّي عني وعن أسارى المسلمين لا أُبالي، فدنا منه فقبّل رأسه، فدفع إليه الأسارى، فقدم بهم على عمر ـ رضي الله عنه ـ فأُخبر عمر بخبره، فقال عمر: حقٌّ على كل مسلم أن يقبّل رأس عبدالله بن حذافة وأنا أبدأ، فقام عمر فقبّل رأسه، كذا في كنز العمال، قال في الإِصابة: وأخرج ابن عساكر لهذه القصة شاهداً من حديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ موصولاً، وآخر من فوائد، هشام بن عثمان من مرسل الزهري.. انتهى، وها هو مصعب بن عمير : فيما أخرجه ابن سعد عن محمد العبدَري عن أبيه قال: كان مصعب بن عمير فتى مكة شباباً وجمالاً وسبيباً، وكان أبواه يحبَّانه، وكانت أمه مليئة كثيرة المال تكسوه أحسن ما يكون من الثياب وأرقّه، وكان أعطر أهل مكة، يلبس الحضرمي من النعال. فكنت يذكره ويقول:(ما رأيت بمكة أحداً أحسنَ لِة، ولا أرقَّ حُلَّة، ولا أنعمَ نعمة من مصعب بن عمير، فبلغه أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يدعو إلى الإِسلام في دار أرقم بن أبي الأرقم فدخل عليه فأسلم وصدَّق به، وخرج فكتم إسلامه خوفًا من أمه وقومه. فكان يختلف إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) سرًّا، فبصرُ به عثمان بن طلحة يصلِّي فأخبر أمه وقومه. فأخذوه فحبسوه فلم يزل محبوسًا حتى خرج إلى أرض الحبشة في الهجرة الأولى، ثم رجع مع المسلمين حين رجعوا، فرجع متغيِّر الحال قد حرج ـ يعني غَلُظَ ـ فكفَّت أمه عنه من العذل) (حياة الصحابة 1/ 361)، وذكر غير واحد منهم صاحب كتاب (المطلب الحميد في بيان مقاصد التوحيد ص: 135) قائلًا:(وكما كان بلال ـ رضي الله عنه ـ يأبى على المشركين ذلك وهم يفعلونه به الأفاعيل حتى أنهم ليضعون الصخرة العظيمة على صدره في شدة الحر ويأمرونه أن يشرك بالله فيأبى عليهم وهو يقول: أحد أحد، ويقول: والله لو أعلم كلمة هي أغلظ لكم منها لقتلها، وقال ابن إسحاق: وكانت بنو مخزوم يخرجون بعمار بن ياسر وبأبيه وأمه ـ رضي الله عنهم ـ وكانوا أهل بيت إسلام، إذا حميت الظهيرة يعذبونهم برمضاء مكة فيمر بهم رسول الله (صلى لله عليه وسلم) فيقول فيما بلغني: صبرًا يا آل ياسر فإن موعدكم الجنة، فأما أمه فقتلوها وهي تأبى إلا الإسلام، وكذلك حبيب بن زيد الأنصاري ـ رضي الله عنه ـ لما قال له مسيلمة الكذاب: أتشهد أن محمدًا رسول الله فيقول: نعم فيقول: أتشهد أني رسول الله فيقول: لا أسمع فلم يزل يقطعه إربًا إربًا وهو ثابت على ذلك) فهذه حال أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وما لقوا من المشركين من شدة الأذى فأين هذا من حال هؤلاء المفتونين الذين سارعوا إلى الباطل وأوضعوا فيه وأقبلوا وأدبروا وتوددوا وداهنوا وركنوا وعظموا ومدحوا؟!!.
نعم أنه الثبات، إنه المبدأ، إنه صوت أهل الحق، فعَنْ خَبَّابِ بْنِ الأَرَتِّ، قَالَ:(شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الكَعْبَةِ، قُلْنَا لَهُ: أَلاَ تَسْتَنْصِرُ لَنَا، أَلاَ تَدْعُو اللَّهَ لَنَا؟ قَال: كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهِ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لاَ يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ، أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ) (صحيح البخاري 4/ 201 وغيره).

*[email protected]