د.جمال عبدالعزيز أحمد:
هناك مصطلح نحوي قديم، وهو في الوقت نفسه حديث، هو(التلازم التركيبي)، ويعنون به كلَّ ما ورد متجاورًا وجوبًا في القواعد النحوية إذ لا يتصور وجود فاصل بين جزأيه، وركنيه الأساسيين لكي يقوما بوظيفتهما النحوية، والدلالية، وينهضا لبيان المعنى المراد من إيرادهما، وهذا التلازم النحويُّ له صور عدة، منها التلازم بين المبتدأ والخبر، وبين الفعل والفاعل، وبين الفعل ونائب الفاعل، وبين (ما) التعجبية وفعل التعجب، وبين فعل المدح وفاعله، وبين فعل الذم وفاعله، وكذا تتابع الحال مع عاملها وصاحبها، والتلازم بين التمييز ومميزه، وبين الجار والمجرور، والمعطوف والمعطوف عليه، والصفة والموصوف، أو النعت والمنعوت، ومنها تتابع الأفعال الناسخة، ومعموليها، مثل: كان وأخواتها، وكاد وأخواتها، ومنها تتابع الحروف الناسخة ، ومعموليها ، مثل: إنَّ وأخواتها، ولا النافية للجنس، والمشبهات بليس، وما إلى ذلك من تلازم تركيبي، بيَّنته القواعدُ النحوية التي وضعها، واصطلح عليها النحاةُ على اختلاف مدارسهم، وتباين آرائهم، واختلاف اصطلاحاتهم، وكتبهم، واجتهاداتهم، وجمعهم كلَّ تلك التلازمات التركيبية، وتنبيههم عليها بتسميتها المركب الإسنادي أو المركب التقييدي، ويدخلون معها المركب غير التقييدي وغير الإسنادي، والتركيب المزجي والعطفي والإضافي والبياني، والعددي، والظرفي، والحالي .. وغيرها ما نبهوا عليه في كتبهم وتحشياتهم.

ونحاول هنا تطبيق هذا (التلازم التركيبي) في سورة نقرؤها يوميًّا في الفرائض فقط سبع عشرة مرة، بخلاف النوافل، ومَنْ زاد زاد اللهُ عليه، وهي:(سورة الفاتحة)، حيث يقول الله تعالى فيها:(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7).

نبدأ ذلك التحليل بالبسملة (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) بوصفها هنا آيةً تامةً، أخذتْ رقمها في السورة، فهي شبه جملة متعلق بفعل محذوف تقديره، والله أعلم، (أتلو، أو أقرأ، أو أبدأ، أو أبتدئ تلاوتي بسم الله الرحمن الرحيم)، وهذا الشبه متعلق بفعلها لزومًا، فهو أول أنماط التلازم التركيبي في السورة الكريمة، وتخلَّله تركيبٌ إضافيٌّ، وهو قوله:(بسم الله) حيث تلازم المضاف والمضاف إليه، فهما ـ كما قال النحاة ـ كالشيء الواحد لشدة تلازمهما، وتتابعهما، ثم تتابعت بعدهما الصفتان:(الرحمن الرحيم) تتابعا حميمًا، مترابطًا مع دلالته كما أسهب لها المفسرون في معنيهما، مبينين الفوارق المعنوية بين (الرحمن)، و(الرحيم)، ومدى كون هذا التتابع بليغًا متمِّمًا بعضه، واضعًا أسمى معاني الكلمتين، وبيان إعجاز تتابعهما بهذا الشكل الكريم، فقد وقعتْ الكلمتان هنا صفاتٍ مشبهةً تَلَتِ اسمَ الجلالة، فأرستْ تلك الصفات الكاملة التامة التي تبيِّن كلُّ واحدة منها صفةً من صفات الجلال، والكمال لله رب العالمين، وكنتُ قد قرأتُ قديمًا تحليلًا موفقًا لطبيب مصري الذي أجرى عملية معملية عجيبة على السورة الكريمة، حيث جاء بطعامٍ، وبدأ يُسَمِّي الله تعالى عليه كلمةً كلمةً فَوُجِدَ بالتحليل أن الطعام فِعْلا يتحلل إلى عناصره الأولية، بحيث يسهل هضمه، ويكون خفيفًا على المعدة حتى انتهى هذا الطبيب من البسملة كاملة فوجد الطعام كان قد تيسر هضمه وتحليله كله تمامًا، وفَعَل ذلك على كمية من الماء، فوجدها تتشكَّل تراكيبُها الكيمائية شيئًا فشيئًا حتى إذا ما انتهى من القراءة كلها للسورة الكريمة وُجِدَت السلاسل السداسية للماء، وبدت وكأنها قد تشكلت في منظر عجيب، بديع، رهيب، وكان يريد أن يقف على جلال القول النبوي:(كل شيء لا يُبدَأ فيه بباسم الله فهو أبتر) أو (خداج) بمعنى: مقطوع البركة، أو في رواية:(كل عمل لا يُبدَأ فيه بباسم الله فهو خِدَاج) أيْ: لا بركة فيه، أو تكون بركته ناقصة، فالتتابع في ترتيب كلمات البسملة في حدِّ ذاته إعجاز، واجتماعها إعجاز، وفيه كذلك تلازم تركيبي أشار إليه النحاة، ونود أن نشير إلى أن (الرحمن) و(الرحيم) من الصفات المشبهة، أي تتلازم فيها الصفة بكمالها، وجلالها، وتستمر الصفة أزلًا وأبدًا لله رب العالمين، ليست كصفاتنا تروحُ، وتجيءُ، وتقل، وتكثر، ولكنها صفات ملازمة له ـ عز وجل ـ بكل كمالها، وجلالها، وبهائها، وتمامها على الوجه الذي يريده ـ سبحانه ـ مع كل الإجلال، والتوقير لأسماء الله، وصفاته ـ جل في علاه.

والآية الثانية جملة اسمية:(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، مكونة من مبتدأ معرف بأل، وخبر هو شبه جملة (لله)، وفيه تركيب إضافي (رب العالمين)، على سبيل الوصف لاسم الجلالة، فـ(رب العالمين) تركيب إضافي على معنى اللام، أيْ: ربٌّ للعالمين كلها، عالم الإنس، والجن، والملائكة، والكائنات كلها، وما نعلم، وما لا نعلم من خلق الله، والجملة الاسمية تفيد في أصل وضعها الاستمرار، والثبات، وهو يتلاءم مع طبيعة الصفات الإلهية في أزليتها، وسرمديتها، واستمرارها، وتتابعها بكل كمال، وجلال، ثم تأتي الآية الثالثة:(الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) بتلازمها التركيبي، حيث إنه تركيب نعتي، أو وصفي لاسم الجلالة، كما كان في البسملة المتقدمة؛ ليؤكد على طبيعة الصفتين، وتلازمهما، وسرمديتهما بالجلال، والكمال، والتمام، فهما صفتان تتمثلان كثيرًا في كل ما لله تعالى، فهو الرحمن الرحيم على الدوام، وهو الرحمن الرحيم في كل مكان، وزمان، وعمل يخص الإنسان، وغير الإنسان، وسائر المخلوقات في كل الأكوان، على ما في الصفتين من تفصيل، وشرح وبيان لماهية كل صفة منهما، ولجلال تتابعهما معا، وترتيبهما، ويرجع في ذلك لأُمَّات الكتب.

ثم الآية الرابعة:(مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)، فقد جاءت صفة رابعة لاسم الجلالة (رب العالمين ـ الرحمن ـ الرحيم ـ مالك يوم الدين)، فلا مالك سواه، ولا أحد يملك شيئًا، فالأمر كله لله، ومالك اسم فاعل على الحقيقة، والإضافة على معنى اللام حقيقة فهو مالك ليوم الدين ملكًا حقيقيًا لا إضافيًا، ومالك مضاف ويوم مضاف إليه، وهو في الوقت نفسه مضاف، والدين مضاف إليه، فقد تلازمت تلك الإضافتين تلازمًا قويًا، لا ينفك أحدهما عن الآخر، وكلها تتآزر معًا لكشف الصفات الجليلة لله رب العالمين بكل ما فيها من جلال وكمال، وكل صفة وحدها لها ما لها من الدلالات المشحونة والمعاني المنظومة في سلكها العقدي الجليل الذي يتناسب والجلال كله.

ناهيك عن القراءات التي تبيِّن في كلٍّ منها منحًى من مناحي الجمال، فمنها )مالك) (اسم فاعل) سواء نُوِّنَ، أو أضيف، وما يترتب على كلٍّ من التنوين، والإضافة من معانٍ، وأعاريب، ودلالات، ومنها (مَلَكَ) بالفعل الماضي على أن (يومَ) مفعوله، و(مليك) يومِ الدين على ما في (مالك، ومليك) من فوارق دلالية واسعة، تجمع بين الملك المادي، والمعنوي، الدنيوي، والأخروي، الذي هو فوق ملك البشر، وجميع الخلائق.

.. وللحديث بقية.

* جامعة القاهرة ـ كلية دار العلوم بجمهورية مصر العربية

Drgamal2020@ Hotmail.com