د.جمال عبدالعزيز أحمد:
.. ثم تأتي الآية الخامسة مترابطة ترابطا متينًا مبينة معنى التلازم في الجملة الفعلية، كما بُيِّنَتْ سلفًا في الجملة الاسمية، وتوابعها:(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)، فالمفعول به (إياك)، وهو الضمير المنفصل المتقدم وجوبًا للجانب العقدي الذي يعني كمال التوحيد، وجلال الإخلاص، حيث لا يتقدم المؤمنُ كاملُ الإيمان بعبادته إلا إلى ربه ـ جلَّ جلاله ـ فَقُدِّمَ المفعول لتتقدم القلوب بتوحيدها إلى ربها، لا تشرك به شيئًا، فكأنَّ أسلوب القصر هذا بالتقديم إنما جاء لبيان جلال التوحيد، ومهابة الإخلاص في العبادة، ولتتقدم معه النفس البشرية المؤمنة في طريقها إلى ربها، وسلوكها في عبادتها لمولاها وربها، تتقدم تقدمًا يرقى بها إلى مستوى العبودية الحقة، والعلاقة الأسمى، والعبادة المثلى، فتقديم المفعول هنا وجوبا ليتضمن كل تلك الدلالات والقيم.

فهو يعني أنه لا عبادة إلا لله، وأنه وحده ـ جلَّ جلاله ـ المستحق للعبادة، ولا يستحق سواه أن تُوَجَّه إليه عبادةُ العابد، ولا يستأهل بشرٌ مهما علا أن نقدم إليه أيَّ عبادة مهما كانت، فهو المعبود وحده ـ جلَّ في علاه ـ وعز، وتعالى في أرضه وسماه، فتقديم المفعول هنا واجب لتحقيق هذه الدلالة العقدية من أول سورة في كتاب الله؛ ليكون العابد لله على ذكْر من توجُّهه، وحسن عبادته، وجليل طاعته لربه، وخشيته.

وقد تلازم الفعل والفاعل والمفعول تلازمًا تركيبيًّا شديدًا، ولعلك تلحظ أن المضارع قد ورد بالنون(نعبد) مع أن العابد قد يصلِّي وحده، ويُغلق عليه ستار بيته، لكنه لا ينسى إخوانه في العقيدة، فهم جميعًا كالنَّفْس الواحدة، وكالنَّفَس الواحد، فعندما يعبد الفرد ربه يتذكر إخوانه في العقيدة، وكأنه لا ينساهم، وهم كذلك لا ينسونه، وهو يَشِي بأثر العبادة في وحدة الأمة، وأن كل فرد فيها يستشعر تلك الوحدة، والقوة، ولو كان وحده يؤدي فرضَ ربه، فكلنا قلب واحد، وجسد واحد، وشعور وإحساس واحد، ثم تأتي تكملة الجملة متلازمة تلازمًا عطفيًّا، باستعمال الواو التي لعطف الجمل:(وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)، وكما قلنا في (إياك نعبد)، من حديث تقديم المفعول به، نستدعيه هنا في الاستعانة كذلك، حيث إنهما أساسًا علاقةِ العبدِ بربه: العبادة، والاستعانة، وتُعرَف صحة عقيدة المرء بهذين الوصفين؛ لأن العبادة الحقيقية قد يأتي من ورائها ابتلاء بسبب تحمل أعباء الدعوة، وتكاليفها، وهو مدعاة إلى الاستعانة بالخالق؛ لرفع ذلك، ودفعه، ولا يقدر على رفع البلاء، ودفع الابتلاء إلا الله، ومن ثَمَّ كتب الكثيرون من الدعاة والعلماء حول هذين الأمر العبادة والاستعانة لارتباطهما ترابطًا عضويًّا ببعضهما، ولابن قيم الجوزية كتاب حول هذا المعنى عَنْوَنَهُ بقوله:(مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين)، وهو لمحمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية (المتوفى: 751هـ)، فجعلها منازلَ، ودرجاتٍ، وربط بين العبادة، والاستعانة ربطا واقعيًّا حياتيًّا يبيِّن مدى صلتهما ببعضهما، وقد تلازم فيهما التركيب النحوي كذلك، حيث إن (إياك) مفعول به مقدم للفعل (نستعين) الذي فاعله الضمير المستتر وجوبًا، وتلاحظ كذلك ورود الفعل المضارع مبدوءًا بالنون لما ذكرته سلفًا، من أن الجسد المسلم جسد واحد، يشعر بشعور بعض، ويحس بإحساس بعض، فهو على تعدده، وكثرته إلا أنه جسد واحد، ونبل واحد، وشعور، وترابط واحد، متكامل: عبادةً لله، وتوحيدًا لجلاله، وكذلك استعانةً به، وتوكلًا ويقينًا.

ثم تأتي الآية السادسة مترابطة أيما ترابط، وفيها كذلك التلازم التركيبي:(اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)، فهي جملة فعلية تصدرها فعل الطلب (الأمر على سبيل المجاز)، فهي فعل، وفاعل، ومفعول به أول، ومفعول به ثان، والمستقيم هنا ترابطت وصفيا أو نعتيا، ففيها تلازمان تلازمًا عضويًّا، حيث يطلب الفعل فاعله ومفعوليه، وتلازم نعتي يصف الصراط بأنه مستقيم، ولعلك تلحظ أن الاستقامة وصف بها الطريق فكأنه يعي مهمته، ويدرك رسالته، ويعرف وظيفته، فهو صراط واعٍ لمهمته، مدركٌ لاستقامته، ويقولون: فيه استعارة، لكنه عند التحقيق تعبير حقيقي، لا مجازي إنْ أخذنا بسلوك ومعاني الآيات القرآنية الأخرى، من نحو:(وإن من شيء إلا يسبح بحمده)، فكلُّ شيء يعي في الكون مهمتَه، ويدرك فيها رسالته حتى لو بدا لنا أنه جماد، أو شيء معنوي، لكنه في منظور الإسلام يحس، ويعي، ويدرك كما في:(.. جدارًا يريد أن ينقض)، ونحو:(فما بكت عليهم السماء والأرض)، ونحو:(يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون ..)، وهكذا، فكل شيء يعي ويدرك، ويعلم ويفهم، ويفقه ويعمل.

ثم تأتي الآية السابعة والأخيرة، والختام الجليل:(صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) وقد ترابط الكلام فيها وتلازم مع ما قبله على البدلية التي هي إحدى صور التوابع الأربع:(النعت والتوكيد والعطف والبدل)، وهو تلازم تركيبي أصيل، فقد جاءت بدلا من (الصراط) المعرف بأل، وقد جاء البدل مضافا إلى اسم الموصول (صراط الذين..)، وترابطت تلازميًّا صلة الموصول مع الموصول، فلا موصول بغير صلة، ولا صلة إلا ومعها موصولها؛ ليتم معناها، ويُفهَم مبناها، فلا تستغني صلة عن موصول، ولا موصول عن صلة، ولا ينفكان عن بعضهما أبدًا، فالتلازم التركيبي واضحٌ بين البدل والمبدل منه، وبين المضاف والمضاف إليه (صراط الذين) وبين الموصول وصلته (الذين أنعمت عليهم)، والصلة تلازم كذلك فيها فعلها وفاعلها:(أنعمت)، وارتبط بها متعلقها، فالتلازم كذلك حاصل بين المتعلق والمتعلق به (أنعمت عليهم)، ثم شبه الجملة يمكن أن يُوجَّه على الحالية، فيكون التلازم كذلك بين الحال وعاملها، فالتلازم أشد ارتباطا في كل توجيه، وتخريج، وإعراب، ثم تأتي الصفة:(غير المغضوب عليهم) التي تصف الضمير في (عليهم) فهم منعَمٌ عليهم، وغيرُ مغضوب عليهم، ثم يأتي التلازم العطفي المنفي المتناغم مع (غير) بقوله:(ولا الضالين) حيث عطف (ولا الضالين) على (المغضوب عليهم)، ولكن بالنفي، فإن الدعاء هنا بأن يُنعِم الله عليهم، وهم المهديُّون إلى الصراط المستقيم، وهو بلا شك صراط الذين أنعم الله عليهم، فلا هم مغضوب عليهم، ولا هم ضالون، فارتبطت الآية ارتباطًا شديدًا ببعضها، ووضح فيها أمرُ التلازم التركيبي بشكل كامل، وتام، وشامل، وعلى هذا، فالسورة كلها تلازم تركيبي بكلِّ صوره، سواء ما تعلق منه بالجملة الاسمية، أو ما ارتبط منه بالجملة الفعلية، أو بالتوابع مثل: العطف، أو البدل، أو النعت، أو مثل الإضافة، وتعددها، وتتابعها، وسواء كان ذلك إثباتًا، أو نفيًا، فقد تآزرت السورة الكريمة على بيان كلِّ ألوان التلازم التركيبي في كثير من أنماطه اللغوية، وصوره التركيبية، وأساليبه النحوية، ودلالاته المعنوية، وتلك من بلاغات السورة الكريمة، وجلالها، وكمالها، ولذلك تتكرر في كل يوم، وعلى كل لسان، وفي كل محفل؛ لما تضمنتْه من قيم، وتربويات، وقواعد، وأساليب، ومعطيات دلالية متعددة، لا حصر لها، وهذا عهدُنا بكتاب الله تعالى في كل سُوره، وآياتِه.

* جامعة القاهرة ـ كلية دار العلوم بجمهورية مصر العربية.
Drgamal2020@ Hotmail.com