الهاتف النقال نعمة قربت بين الناس واختصرت المسافات ولكن عبر هذه الهواتف تنتشر رسائل تكون بالترغيب تارة وبالترهيب تارة أخرى كعبارة:(انشر ولك الأجر) للترغيب، (سوف تصاب في نفسك ومالك إن لم تفعل) للترهيب، كما تنتشر رسائل تحذر الناس مثلًا من فاكهة يبيعها الناس باطمئنان، ويحذر بعضها من أنواء مناخية قادمة توجب الهلع والخوف، وأخرى تدعو لمقاطعة مركز أو محل تحت ذرائع مختلفة، ولم يفت أصحاب هذه الرسائل أن يختموا عبارتهم بهذه الجملة (انشر ولك الأجر)، وآخرون ينشرون خرافات كطفلة شفيت بسبب رؤيا أو بسبب وِرد محدد أو دعاء معين، ويأتي أيضًا في آخر أمثال هذه الرسائل (أمانة في عنقك أن ترسلها إلى خمسين شخصاً وإلا فإن الله سيحاسبك)، وعبارة أخرى (من لم يرسلها سوف يصاب بكذا وكذا من المصائب) .. ما حكم هذا، وهل لأحد أن يحدد مقدار الأجر والثواب وهل يمكن أن يتحول التبشير بالأجر إلى وزر محقق؟ وما طريقة استغلال نعمة التواصل بين الناس وكيف تشكر؟.

هذه الآلات هي نعم من الله، ونعم الله سبحانه وتعالى يجب أن تُشكر لا أن تُكفر، وشكرها في تسخيرها لما يرضي الله تعالى لا لما يُسخطه، فالاتصال يجب أن يكون في الحدود الجائز لا في حدود غير الجائز، فإشاعة الفتنة أو إشاعة الرعب أو إشاعة ما يوجب القطيعة بين الناس أو ما يوجب احتراز مما لا يجب أن يحترز منه كأكلة بعينها أو بضاعة تباع في السوق أو أي شئ من هذا القبيل من غير أن يكون هذا الذي يحذر مستوثقاً من ذلك استيثاقًا تامًا يعد ذلك من قول الكذب ومن الزور ومما يؤدي إلى الفتنة، فقد تكسد بضاعة إنسان بسبب ما يُشاع عنها من مرض تسببه أو من حرمة تكتنفها، تكسد هذه البضاعة فلا يجد لها مشترياً، ويتحمل وزر ذلك من أشاع هذا الخبر، يشترك كل من أشاع في وزر ذلك (.. وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (النور ـ 11)، وكذلك بالنسبة إلى ما يسبب القلق ويسبب الإزعاج للناس، كأن يُنذر الناس بما لن يتحقق، أن يُنذر الناس من أحوال تأتي في المستقبل مع هذه الأحوال غير متحققة، هذا مما يجب أن يكون الإنسان فيه على بينة من أمره لا يقدم عليه إلا عندما يستوثق منه تمام الاستيثاق، أما بالنسبة إلى ما يشاع من شفاء أحد برؤيا منامية أو يشاع من شفاء أحد بتلاوة تلاها فلا ريب نحن نقول بأن ذكر الله سبحانه وتعالى وتلاوة أسمائه وتلاوة آياته فيها من البركات وفيها من الخير الشيء الكثير، والله سبحانه وتعالى أخبرنا في كتابه العزيز عمن ضرعوا إليه فاستجاب لهم، فحكى سبحانه وتعالى عن أيوب عليه السلام عندما ابتلاه الله سبحانه وتعالى أنه تضرع إلى الله سبحانه وتعالى وقال:(أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (الأنبياء ـ 83)، ماذا كانت النتيجة؟ (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ) (الأنبياء ـ 84)، وكذلك ذكر الله سبحانه وتعالى عن ذي النون بأن نادى في الظلمات، نادى في بطن الحوت، نادى ربه سبحانه وتعالى:(لا إِلَهَ إِلا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) (الأنبياء ـ 87)، واتبع ذلك قوله:(فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ) (الأنبياء ـ 88)، أي كهذه التنجية التي نجيناها يونس (عليه السلام) ننجي المؤمنين عندما يسلكون هذا المسلك، فلا داعي أن تكون إشاعة ويؤمر الناس أن ينشروا هذا إلى خمسين شخصا وإلى غير ذلك، هذا تشريع، والتشريع يتوقف على وحي من الله سبحانه وتعالى (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ) (الشورى ـ 21)، من أين جاء هذا الإنسان بهذه الإشاعة ولزوم أن يُبلّغ الإنسان خمسين شخصا؟ من أين جاء بهذا التشريع، التشريع إنما يأتي من عند الله، وليس للإنسان أن يشرع ما لم يأذن به الله (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ) (الشورى ـ 21)، فإذن على هؤلاء أن يتقوا الله سبحانه وتعالى في هذه الإشاعات، ثم تحديد العقوبات أو تحديد الأجور ذلك تدخل في الغيب، والغيب لله سبحانه وتعالى ليس للإنسان أن يدخل في عالم الغيب إلا ببينة من ربه سبحانه وتعالى، المرسلون عندما يتحدثون بالغيوب إنما يكون ذلك بوحي أوحاه الله سبحانه وتعالى إليهم (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً، إِلا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ) (الجن 26 ـ 27)، أي عندما يوحي إليهم، والمرسلون أنفسهم لا يعلمون الغيب إلا أن يوحي الله سبحانه وتعالى إليهم بهذا الغيب، فإذن ما يتصرفه الناس من التصرف الذي لم ينبني على أساس شرعي بحيث يندفعون إلى مثل هذه الإشاعات ويندفعون إلى تحديد الأجور أو تحديد العقوبات إنما كل ذلك تدخل في أمر الله سبحانه وتعالى، واقتحام لحرمٍ ما جعل الله سبحانه وتعالى لأحد أن يقتحم حماه، إنما ذلك اقتحام لحمى محظور من قبل الله (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) (الإسراء ـ 36).