د. وليد أحمد السيد
ربما كان خط سير رحلة الطائرة عبر فلسطين المحتلة وعلى طول الساحل الإفريقي الشمالي المحاذي للبحر الأبيض المتوسط وصولا لمطار هواري بومدين متماشيا مع تاريخ عربي طويل في الكفاح والنضال من أجل نيل الحرية وتحقيق الإستقلال – ماضيا وما يزال! من نافذة الطائرة المحاذية للمحرك الأيمن الذي كانت تعلوه أصباغ حمراء وألوان عكست ملامح الخطوط الجوية الملكية الأردنية في ذلك اليوم المشمس من نهاية شهر أكتوبر – ما خلا بعض سحابات أواخر الصيف العابرة، كانت مناظر التضاريس الطبيعية تلاحقها أمواج البحر الأبيض المتوسط الهادرة في الأسفل، رغم أن المشهد كان يبدو بالأسفل، هادئا، وخادعا!
علاقتنا بالشعب الجزائري الطيب والشجاع تاريخية وطويلة، فقد جاورنا الكثيرون منهم في لندن وغدا منهم أصدقاء مقربين للعائلة، فضلا عن كونهم كجالية ملتحمين إجتماعيا ولهم منافع اقتصادية تجارية تربطنا بهم أكثر وأكثر كتجار للمواد التموينية والغذائية وبخاصة في المناسبات الإجتماعية والسنوية والخاصة. وقد اعتدنا اسبوعيا على الأقل التسوق من متجر قريب يملكه بعض الأخوة الجزائريين، وفي الصيف الفائت في مباريات كأس العالم حين تأهب المنتخب الجزائري الشقيق لملاعبة الفريق الألماني، كان التأهب على أشده وعبّر التلاحم العربي، وبخاصة بين الشعبين الفلسطيني والجزائري، عن مشاعر أكثر من كونها تعبيرا عروبيا أو قوميا ليعكس تضامنا مع الواقع العربي المؤلم والجراح الدامية التي باتت تنزف في جسد الأمة العربية الواحدة.
هذه الرحلة الثقافية الأكاديمية لحضور المؤتمر الدولي الأول حول موضوع المدينة والطفل لأهمية المضمون في علاقة التنشئة البيولوجية والنفسية في مضامينها الإجتماعية وتشكيل الثقافة العامة ومن ثم البيئة المبنية المناسبة في عالم متغير أبرز ملامحه التطورات التكنولوجية والإتصالاتية المتسارعة يضاف إليها تكنولوجيا المعلومات الرقمية ومجالات الشبكة العنكبوتية ومداها الذي غزا أخص المجتمعات التقليدية المحافظة واللبرالية على حد سواء.

خواطر على الطريق: في اليوم الأول
من المدهش جدا ما آلت إليه أحوال السفر في هذه الأيام، إذ يكفي أن تتصل بالإنترنت المفتوح (الواي فاي) بالمطار مع برنامج مثل سكايب لتكون في بث حي ومباشر مع من تحب وترغب التواصل معه. وقد اعتدت في أسفاري، إن لم يكن موسى برفقتي، التواصل معه من المطار، ليصبح العالم صغيرا فعلا وحيث ينطوي الفراغ لتتصل نقطتين به أولاها في آسيا والأخرى في أوروبا في تواصل مدهش وعجيب وغير مسبوق ربما في التاريخ البشري كله – إلا ما كان يعدّ تاريخيا ضربا من ضروب الخيال أو السحر أو الشعوذة أو ربما كرامات الأولياء والصالحين السابقين.
وصلت مطار هواري بومدين بعد زوال شمس ظهيرة ذلك اليوم، وكان ملفتا أناقة ونظافة وعصرية المطار وردهة الإستقبال به. موظفو جوازات المطار كانوا من الجيل الشاب، وحين خلا المصطفون في الطابور أمامي، باغتني الضابط القابع خلف المكتب المرتفع بإيماءة خفيفة تقدمت نحوه على أثرها. سرّني هدوءه وأدبه حين أخرج بطاقة الدخول وشرع في تعبئة بياناتها بنفسه بالنظر إلى جواز السفر خاصتي قبل أن يسألني بضعة أسئلة قليلة عن مهنتي وسبب قدومي ومكان المؤتمر. تقدمت نحو ردهة استقبال الأمتعة، وراقني تماما هدوء المطار والناس على حد سواء. كانت ثمة سكينة ووداعة تنتشر في الأرجاء، جنبا إلى جنب مع موظفي المطار باللباس الرسمي.
للوصول إلى مدينة باتنة كان يتعين ركوب رحلة طيران داخلية على متن الخطوط الجزائرية من محطة أخرى بالمطار يتم الوصول لها بالخروج من الصالة الأولى والإنعطاف يمينا والمشي مسافة عشر دقائق تقريبا. لكن ترتيب المطار وانتشار الطبيعة الخضراء والمناطق المظللة كانت ملفتة للنظر بدرجة فائقة، فيما راحت نسمات خفيفة تنتشر في الأجواء مضيفة جمالا إلى ما صنعته يد الإنسان في هذه النقطة الحدودية التي يتقاطر إليها ويمر عبرها مئات الآلاف في فترات زمنية قياسية. جلست في صالة الإنتظار بانتظار رحلتي لمدينة باتنة أكتب هذه الكلمات وأحاول الإتصال على الواي فاي واسترق النظر بين فينة وأخرى للوحة البيانات انتظارا للإعلان عن موعد الرحلة الداخلية.
**********
باتنة: تاريخ عريق ونقطة إنطلاق
ربما كان اختيار مدينة باتنة مكانا لانعقاد المؤتمر الدولي الأول للمدينة والطفل بادرة موافقة لتاريخ عريق للمدينة، حيث يصادف بعد أيام قليلة من انعقاده وفي الأول من نوفمبر ذكرى الثورة الجزائرية، والتي وللمفارقة، انطلقت من هذه المدينة الجبلية، والتي وللمفارقة أيضا، كانت المدينة التي أسسها الفرنسيون في القرن التاسع عشر لتكون مهدا للثورة التي انطلقت ضد حكمهم الإستعماري المستبد. فقد اندلعت ثورة التحرير الجزائرية في 1 نوفمبر 1954 ضد الاستعمار الفرنسي الذي احتلّ البلاد منذ سنة 1830 (احتلال دام 132 سنة)، ودامت ثورة التحرير الجزائرية طيلة سبعة سنوات ونصف من الكفاح المسلح والعمل السياسي، وانتهت بإعلان استقلال الجزائر يوم الخامس من يوليو عام 1962 بعد أن سقط فيها أكثر من مليون ونصف مليون جزائري، وذلك ما أعطى الجزائر لقب بلد المليون ونصف المليون شهيد.
وتروي الأحداث التاريخية انتهاء الحرب بإعلان استقلال الجزائر، وهو نفس التاريخ الذي أعلن فيه احتلال الجزائر في سنة 1830. وقد جاءَ الاستقلال نتيجة استفتاء تقرير المصير في الأول من يوليو، المنصوص علية في اتفاقيات إيفيان في 18 مارس 1962، وأعلن على إثره ميلاد الجمهورية الجزائرية في 25 من سبتمبر ومغادرة مليون من الفرنسيين المستعمرين بالجزائر منذ سنة 1830. ويلاحظ أثر المستعمر على المشروع الجزائري والبيئة المبنية على حد سواء، حيث عملت فرنسا على إيقاف النمو الحضاري والمجتمعي للجزائر مائة واثنتين وثلاثين سنة، وحاولت طمس هوية الجزائريين الوطنية، وتصفية الأسس المادية والمعنوية، بضرب وحدته القبلية والأسرية، وكان التوجه الفرنسي يعتمد على معاداة العروبة والإسلام، فعملت على محو اللغة العربية، وطمس الثقافة العربية والإسلامية، وبدأ ذلك بإغلاق المدارس والمعاهد، ثم تدرج مع بداية القرن العشرين إلى منع تعلم اللغة العربية باعتبارها لغة أجنبية، وعدم السماح لأي شخص أن يمارس تعليمها إلا بعد الحصول على ترخيص خاص وفي حالات استثنائية، ومن ناحية أخرى عملت على نشر الثقافة واللغة الفرنسية، واشترطوا في كل ترقية اجتماعية ضرورة تعلم اللغة الفرنسية، كذلك عملوا على الفصل بين اللغة العربية والإسلام، والترويج لفكرة أن الجزائريين مسلمون فرنسيون.
ومن ناحية أخرى فقد اهتم الفرنسيون بالترويج للهجات المحلية واللسان العامي على حساب اللغة العربية، واتبعوا كل سبيل لمحاربة اللسان العربي، واعتبروا الفصحى في الجزائر لغة ميتة. وحسب الإحصائيات الفرنسية بالجزائر فإن منطقة القبائل كان بها مدرسة لكل (2100) طفل، في حين كانت هناك مدرسة لكل أربعين ألف طفل في بعض المناطق الأخرى بالجزائر. وسعى الفرنسيون إلى عزل بعض المناطق بالجزائر والحيلولة دون اتصالها أو تفاعلها مع باقي المناطق الأخرى، وكان تركيزهم على منطقة القبائل، ورعوا نزعاتها الإقليمية التي تتنافى مع وحدة الشعب الجزائري، وذلك بالاهتمام بالأعراف والتقاليد واللهجات والفولكلور على حساب الثقافة العربية الإسلامية. في مقابل هذه الخلفية التاريخية تنحني القامات احتراما للتوجه العروبي السائد والمد المعاكس الداعي للتمسك بالجذور الوطنية والهوية العربية في مقابل موجات التغريب والتذويب التي تجتاح العالم قاطبة في عصر العولمة وذوبان الحدود والجغرافيا والتاريخ الذي باتت تعاني منه الكثير من المجتمعات المعاصرة. وفي رحلة الجزائر المزيد مما سيتسع له المقام في مساحات أخرى.
**********
الملتقى الدولي الأول حول المدينة والطفل (26-28اكتوبر2014)
في الأيام الثلاثة بين 26 و 28 أكتوبر، افتتح رئيس الجامعة أ.د.الطاهر بن عبيد بجامعة الحاج لخضر- باتنة، الملتقى الدولي الأول حول المدينة والطفل والذي نظمه مخبر "الطفل، المدينة، البيئة"، بحضور عدد كبيرة من الباحثين والخبراء من جامعات دول شقيقة وصديقة: بريطانيا ومصر والسودان والأردن والسعودية، ومن مختلف جامعات الجزائر والمدعوين من مختلف الجمعيات المدنية والهيئات التنفيذية، كما شارك في فعاليات الملتقى جمع غفير من الطلبة. وبرغم هذا الجمع الوفير إلا أن الوقائع الإقليمية والعالمية قد ألقت بظلالها على الملتقى وتمثلت في غياب بعض الباحثين المشاركين من فلسطين واليمن وسورية والعراق، للظروف الصعبة التي تعرفها بلدانهم والتي حالت دون وصولهم لبلد المؤتمر (مما دفع بعضهم للمشاركة عن طريق الفيديو).
وقد قدم إشكالية الملتقى الأستاذ الدكتور الديب بلقاسم بصفته رئيسا للملتقى كافتتاحية شاملة تمهيدا لتقديم الأوراق العلمية، وقد قدمت أكثر من 75 ورقة بحثية تناولت المحاور الرئيسية الأربعة الواردة في اعلان الملتقى حق الطفل في المدينة، البيئة العائلية، الطفل والبيئة المدرسية، البيئة الحضرية والطفل. وبعد انتهاء فعاليات الملتقى، كان الانطباع العام حول كمية ونوعية الأوراق العلمية إيجابيا، حيث تميزت الورشات بحضور أعمال مميزة وتجارب دولية مختلفة تناولت موضوع الملتقى بشكل مناسب، وبعد طرح ومناقشة جميع المداخلات المقدمة من طرف الباحثين أوصى الباحثون بمجموعة من النقاط المحورية التي لا بد من تطويرها ومتابعة تنفيذها والعمل على بلورتها ومنها: ضرورة الأخذ بنتائج الدراسات والأبحاث التي تجرى في مختلف التخصصات العلمية والتي تهتم بالطفل داخل البيئة العمرانية. وضرورة اعتماد مبادئ التخطيط العمراني المستدام كمخرج وحل للمشكلات التي تواجه الطفل في المدينة على الصعيدين الوطني والعربي. وتفعيل ضوابط التخطيط العمراني في المدن لإعادة حق الطفل في اللعب وانفتاحه على البيئة العمرانية المحيطة لينمو بشكل متوازن. بالإضافة إلى ضرورة تشكيل هيئة وطنية تُعنى بضرورة انشاء مرافق خاصة بالطفل داخل المدينة، تتكون من فريق عمل متعدد الاختصاصات يضم مختلف الفاعلين في مجال رعاية الطفل، هدفها البحث عن سبل ضمان بيئة مناسبة للطفل في المدينة. والعمل على توفير بيئة عمرانية مستدامة تراعي في تخطيطها الخصوصيات النفسية والاجتماعية لمختلف الفئات العمرية خاصة فئة الأطفال. وضرورة الاهتمام بفئات الأطفال من ذوي الاحتياجات الخاصة عند إعداد المخططات والتصاميم وذلك على الصعيدين المعماري والعمراني. وتدعيم النصوص التشريعية بمواد قانونية وتنظيمية تحفظ نوعية التهيئة المناسبة داخل المدينة، لتلبية الاحتياجات الخاصة بالطفل مع الاهتمام بالأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة، وتطوير مخططات مستدامة ضمن السياسات الحضرية لدعم الأطفال المسعفين ورفع كفاءة البيئة المبنية من حيث النظافة وتحسين الظروف الاجتماعية. وإعادة النظر في التصميم المعماري المتبع في المباني المدرسية وفضاءات الطفل بصفة عامة لمجاراة التطور المتسارع للمنظومة التربوية. والتركيز على استخدام مختلف الأدوات التي من شأنها ضمان تواصل أفضل مع الطفل داخل الفضاءات الخاصة به، والعمل على اشراكه في تصميم بيئته. والعمل على خلق فضاءات ضمن الوحدة السكنية على شكل حدائق منزلية أو أسطح توفر لهم مجالات شبه خاصة لممارسة نشاطاتهم اليومية من لعب و ترفيه بحيث تضمن لهم الأمان و تشعرهم بالحرية، وضرورة إعداد استراتيجية واضحة وشاملة لتقييم بيئة الأحياء السكنية من أجل خلق بيئة صديقة للطفل. ومعالجة التلوث البصري والضجيج من خلال الحلول العمرانية والتخطيطية لرفع كفاءة ودرجة الهدوء النسبي في البيئة المبنية. وقد وجدت الدراسات أن للبناء الفوضوي آثارا سلبية على تحديد شخصية الطفل ولذا تطالب الدراسات بحل إشكالية البناء الفوضوي وتفعيل التشريعات الخاصة بحماية بيئة الطفل الاجتماعية داخل تلك الأحياء.
كما خلص المشاركون إلى ضرورة عرض وإرسال التوصيات والنتائج المستخلصة من الملتقى إلى الجهات المسئولة عن اتخاذ القرار لوضع آليات تنفيذية تضمن تحقيق ما جاء فيه. كما أقترح المشاركون تنظيم ملتقيات أخرى تهتم بهذا الموضوع. باسم الرئيس الشرفي للملتقى مدير جامعة الحاج لخضر بباتنة، ونيابة عن أعضاء اللجنة العلمية وكافة أعضاء اللجنة التنظيمية وأصالة عن نفسه، شكر السيد رئيس الملتقى الأستاذ الدكتور الديب بلقاسم جميع الباحثين والحضور.
ويأتي هذا الملتقى الدولي الأول مهما ومتميزا للعديد من الجوانب والميزات أهمها توقيت وموضوع ومضمون هذه التظاهرة الدولية، بالإضافة إلى أنه يسجل للقائمين عليه وتحديدا البروفسور الديب بلقاسم وزملائه القلائل من مخبر جامعة بلحاج لخضر الذين عملوا على مدار الساعة لتأمين القادمين من مختلف البلدان والعمل على راحتهم ورعايتهم، فضلا عن الحرص على إنجاح هذه البذرة الطيبة على طريق مزيد من البحث والدراسة والنقاش في هذا الموضوع المتميز. وقد كان جانب تأمين الوفود المشاركة على قدر من الأهمية، وفيه من القصص التي لا متسع لها في هذه المساحة، إذ للحديث بقية!