تاريخيات
بدأت علاقة اليعاربة بالإنجليز منذ تأسيس دولتهم، أي على عهد الإمام ناصر بن مرشد، وإن كانت تلك العلاقات لم تتصف بالاستمرارية في عهد أسرة اليعاربة على عكس ما سيحدث في عهد أسرة البوسعيد.
وقد بدأت العلاقات بين اليعاربة والإنجليز في عام 1645م، حين حاول الإمام ناصر بن مرشد أن يحكم الخناق على البرتغاليين اقتصاديا، ولذلك طلب من شركة الهند الشرقية الإنجليزية من مركزها في سورات إرسال مبعوث من قبلها للتفاوض من أجل إقامة علاقات تجارية، وعلى الفور وفد فيليب وايلد (Wylad) إلى ميناء صحار، حيث نجح في التوصل إلى اتفاقية كانت تنص على أن يتمتع الإنجليز بحرية التجارة في مسقط وحرية حمل السلاح وممارسة شعائرهم الدينية، كما نصت الاتفاقية إلى جانب ذلك على تنظيم القواعد الخاصة في حالة وقوع منازعات بين الرعايا الإنجليز وبين رعايا الإمام. وعلى الرغم من أن هذه الاتفاقية وقعت في فبراير عام 1646م، إلا أن الإنجليز لم يجدوا أي حافز لوضعها موضع التنفيذ، ولعل ذلك يرجع إلى الانكماش الواضح في التجارة الإنجليزية في منطقة الخليج العربي، على أثر تصاعد المصالح الهولندية، ومع ذلك فإن أهمية هذه الاتفاقية، ترجع إلى كونها الحلقة الأولى في سلسلة معاهدات الصداقة والتجارة التي وقعت بين شركة الهند الشرقية الإنجليزية وعمان.
وقد ظهر التقارب الإنجليزي العماني واضحاً على عهد الإمام سلطان بن سيف (1649 ـ 1679م)، حين رست إحدى السفن التابعة لشركة الهند الشرقية الإنجليزية في ميناء مسقط في عام 1658م، وبادر الإمام إلى استضافة قائدها، وكانت الدلائل تشير إلى احتمال التوصل إلى اتفاقية أخرى بين شركة الهند الشرقية الإنجليزية وإمام عمان لإقامة وكالة تجارية في مسقط، ولما كان ممثلو الشركة في سورات أكثر حماساً لإقامة هذه الوكالة، فقد بادروا بإيفاد الكولونيل رينسفورد (Rainsford) في عام 1659م إلى مسقط، للحصول على موافقة الإمام على إقامتها وأثمرت المفاوضات أن توقيع اتفاقية بين الإمام وبين ممثل الشركة، وكانت تنص على أن يمنح الإمام الإنجليز إحدى القلاع في مسقط، وأن يكون لهم حق إقامة حامية بها، بشرط إلا يزيد عدد أفرادها عن مائة جندي، وأن يتقاسم الإنجليز مع الإمام الإيرادات الجمركية. على أن هذه الاتفاقية لم توضح موضع التنفيذ أيضاً، ولعل ذلك كان بتحريض الهولنديين الذين أخذوا يبرزون كمنافسين أقوياء للإنجليز في احتكار تجارة المنطقة، أو أن يكون الإمام قد تقاعس عن تنفيذها بسب الاتجاه الديني للإمامة، وهو عدم السماح لأية قوة أجنبية بالاستقرار في أراضيها، وهو تقليد سيتبعه الأئمة المتعاقبون على عمان.
على أن التحالف الإنجليزي الهولندي لم يلبث أن ترك أثراً واضحاً في عمان من حيث ترجيح كفة الإنجليز في تعاملهم التجاري مع عمان، ولعل ما يؤكد لنا ذلك الزيارات المتكررة التي كانت تقوم بها سفن شركة الهند الشرقية الإنجليزية إلى الموانئ العمانية، حتى وصل الأمر إلى التفكير في إعادة مشروع انشاء الوكالة التجارية في مسقط. وعلى الرغم من أن بوكسر (Boxer) وهو أحد الباحثين الثقاة في الصراع البرتغالي العماني في المحيط الهندي يجيب على هذا السؤال، بتأكيده أنه كان هناك تعاطف إنجليزي مع العمانيين ضد البرتغاليين، يرجع أسبابه إلى الصراعات المذهبية بين الإنجليز الآنجليكان وبين البرتغاليين الكاثولويك، بالإضافة إلى سياسة الاحتكار التي كان يفرضها البرتغاليون، إلا أنه لا يعتقد أن الإنجليز قدموا مساعدات كبيرة للعمانيين، وإن كان يقرر في نفس الوقت أن بعض البحارة الإنجليز عملوا في الأسطول العماني، ولكنهم لم يكونوا بالكثرة التي تستلفت النظر، كما أنهم كانوا يقومون بهذه المهمة كإجراء لدى العمانيين، وليسوا بصفة رسمية، بل نكاد نصل إلى عكس هذه الفكرة تماماً، حينما نعلم أن الإنجليز كانوا قلقين من تصاعد القوة العمانية، ويفهم ذلك من المعاهدة التي وقعت بين إنجلترا والبرتغال في عام 1661م، وهي المعاهدة التي توجت بزواج الملك شارل الثاني من كاترين أوف برجنزا، حيث نصت إحدى موادها على أن يقدم الإنجليز مسقط إلى البرتغال، إذا ما قدر لهم في أى وقت السيطرة عليها. ويمكن أن نضيف غلى ما ذكره بوكسر، أن العلاقات أخذت تسوء بين اليعاربة والإنجليز إذ كان اليعاربة يهاجمون السفن الإنجليزية، ويجبرون بحارتها على مشاركتهم في بعض عملياتهم العسكرية ضد البرتغاليين، أي أنه لم يكن هناك تحالف بين الفريقين، بل على العكس من ذلك فقد أفزع التفوق البحري العماني الإنجليز. وقد عبر المستر برانجون "Brangwin" وكيل شركة الهند الشرقية الإنجليزية في بندر عباس عن تلك المخاوف، بقوله في ديسمبر عام 1694م إن العمانيين سيصبحون كارثة على الهند مثلما كان الجزائريون كارثة على أوروبا.
ولا شك أن التفوق البحري العماني قد أفزع الإنجليز، وعلى الرغم من أن التفوق البحري لليعاربة كان كافياً لكي يحرك الإنجليز للتصدي لذلك النفوذ الذي بلغته عمان، إلا أن الإنجليز لم يقدموا على ذلك، ولعل انشغال الإنجليز في تثبيت نفوذهم في الهند، وتورطهم في حرب الوراثة الأسبانية، هو الذي منعهم من الإقدام على ذلك، كما أن القوة البحرية الكبيرة التي بلغتها عمان في نهاية القرن السابع عشر جعلت مجرد تفكير الإنجليز في التصدي لها، بمثابة مجازفة لم تكن شركة الهند الشرقية الإنجليزية مستعدة لتحملها.
وكان مما مكن أئمة اليعاربة من تكوين أسطولهم، أنهم استطاعوا بفضل صداقتهم لبعض أمراء الهند، أن يضمنوا جلب الأخشاب اللازمة لبناء السفن، وهناك عدة اتفاقيات عقدها اليعاربة مع حاكم مقاطعة جوا في الهند منذ عام 1707م، ولعل ذلك مما سيدفع جون مالكولم "Malcolm"، في أوائل القرن التاسع عشر، إلى الاعتقاد بأن أحسن الوسائل للقضاء على القوة البحرية العمانية، هو قطع الصلة بين عمان وأمراء الهند.
ويمكننا أن نتعرف على المدى الذي وصلت إليه القوة البحرية العمانية على عهد اليعاربة من قراءتنا لما كتبه هاميلتون ،"Hamilton" الذي تحدث عن قوة عرب عمان، وذكر أن أسطولهم كان يشتمل على مئات من السفن الكبيرة ذات الحمولات المختلفة من المدافع الثقيلة.
وأكد الرحالة "فريزر" أن الاحتراز يتطلب عدم استفزازهم، إذ أننا لن نجني من وراء ذلك سوى ضربات تكال علينا، كما كتب الرحالة بروس "Bruce" في عام 1695م مؤكداً أن عرب عمان سوف يحرزون القيادة والنفوذ في الخليج العربي، وكذلك تحدث كولومب "Colomb" عن التفوق الملاحي الذي بلغة اليعاربة في عمان. على أن هناك مصادر كثيرة وصفت الحرب البحرية التي كان يقوم بها اليعاربة ضد البرتغاليين وغيرهم من القوى الأوروبية الأخرى التي حلت محلهم في السيطرة والنفوذ في بحار الشرق، بأنها كانت نوعاً من القرصنة، ولعل هذه المصادر قد تجاهلت ما ارتكبه البرتغاليون في بحار الشرق من أعمال شاذة غير إنسانية، وربما يرجع تعليل ذلك الأمر إلى عدم اعتراف القوى الأوروبية بالتنظيمات السياسية العربية في الخليج العربي، ورفض إطلاق لفظ الدولة عليها، ومن ثم لم تفرق هذه المصادر بين العمليات البحرية التي كان يقوم بها اليعاربة تحقيقاً لسيادتهم وبين ما كان ممارس من قرصنة فردية، ومع عدم التسليم بما جاء في تلك المصادر فإنه مما يدعو للدهشة أن تكون القرصنة عملاً قومياً إذا ما ارتبطت بالأوروبين، أما إذا ارتبطت بالعرب أو المسلمين فإنها تعد عملاً من أعمال السلب والنهب.
يتبع،،،،

محمد بن حمد الشعيلي
اكاديمي في الجامعة العربية المفتوحة
[email protected]