[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/suodalharthy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]سعود بن علي الحارثي[/author]
” لقد ساهم الحوار عبر التاريخ الإنساني في إيجاد صيغ مشتركة تمكنت من جمع الفرقاء, وكان للحوار دوره الايجابي في إنهاء عدد من الصراعات المذهبية والفكرية والسياسية وأوصل المتخالفين إلى التعايش السلمي فيما بينهم, ومن قاعدة الحوار تنسج اتفاقيات السلام لتتوج أخيرا بتوقيع الأطراف المتفقة, ومن نافذة الحوار وعلى أسسه ومبادئه تنطلق دعوات الإصلاح والعدل والحرية,”
ــــــــــــــــــ

قال الإمام الزمخشري:” وحاورته: راجعته الكلام, وهو حسن الحوار”, فالأصل في الحوار, المراجعة في الكلام الدال على سماحة النفس ورجاحة العقل ورحابة الصدر , وارتباط الحوار ب ” الرجوع عن الشيء وإلى الشيء يثبت في الضمير فضيلة الاعتراف بالخطأ”, فالقبول بمبدأ الحوار يترتب عنه المراجعة التي قد تصل إلى الاعتراف بالخطأ والرجوع عنه. والحوار دعوة إنسانية ورسالة عالمية, يسقي بينابيعه العذبة تلك المساحة الجرداء القاحلة إلا من بذور لا تنتج سوى التعصب الأعمى, وينير باشعاعاته المتناغمة ظلمة النفس التي أثقلتها رواسب الأحقاد والكراهية, وشرح بواحاته الغناء صدورا ضاقت بهموم وأحزان مفتعلة وصور مغلوطة, ويثري بنسماته العليلة عقولا آن لها أن توظف طاقتها في ما يفيد صلاح الإنسان وعمارة الأرض, لقد ساهم الحوار عبر التاريخ الإنساني في إيجاد صيغ مشتركة تمكنت من جمع الفرقاء, وكان للحوار دوره الايجابي في إنهاء عدد من الصراعات المذهبية والفكرية والسياسية وأوصل المتخالفين إلى التعايش السلمي فيما بينهم , ومن قاعدة الحوار تنسج اتفاقيات السلام لتتوج أخيرا بتوقيع الأطراف المتفقة, ومن نافذة الحوار وعلى أسسه ومبادئه تنطلق دعوات الإصلاح والعدل والحرية, والحوار هو الداعم الأساسي والعلاج الفاعل للتخفيف من لهب التوترات وثورة الانفعالات, وعندما تنشأ العلاقات على الإيمان بالحوار يصبح العالم أكثر أمنا وطمأنينة.
كثيرا ما ندعو للحوار لمعالجة المشاكل والنزاعات والتوترات الساخنة الناشئة من رحم البؤر الخلافية, التي دائما ما تشتعل وتثور لأتفه الأسباب أحيانا ولأسباب جوهرية ومبررات مشروعة في أحيان أخرى, من منطلقات مذهبية أو فكرية أو فئوية أو حضارية ... تقف وراءها عوامل سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو تاريخية أو جغرافية , وتصبح نقاط الخلاف التي تنشأ وتنمو وتتضخم بين الأطراف أفرادا أو جماعات دول أو قبائل شعوب أو فئات أحزاب أو منظمات محور الاختلاف والوقود المحرك والموجه , وتنطلق شرارة الخلاف عندما تلقى الاتهامات على الآخر جزافا وتعمم الأفكار السوداء والقناعات السلبية ويساء الفهم عمدا أم بحسن نية, وتغيب عن البيئة التي ينشأ في ظلها الخلاف, الرأي السديد والفكر الرشيد والحكم الموضوعي وتبرز عقد بغيضة وسلوكيات كريهة تزودها بالوقود عصبيات ونعرات وتعصب أعمى, لا تلبث أن تتحرك وتثار بمجرد أن يتلاعب المتلاعبون بأوتارها الحساسة, فيتغلب الهوى وتتضخم عناصر الذات ويظهر الشعور بالقوة والفخر وتوظف النصوص والمبادئ في غير طريقها الصحيح ... ومن الطبيعي أن تنشأ الخلافات بين الناس بعضهم بعضا بحكم تباين انتماءاتهم من حيث النسب والبيئة والوراثة, وتنوع مذاهبهم السياسية والفكرية والدينية, واختلاف توجهاتهم وأفكارهم وتفاوت مستوياتهم وقدراتهم التعليمية والثقافية ودرجة حكمهم ومدى رؤيتهم للأشياء, فيبقى الحوار أداة مهمة وعنصرا فاعلا وسلوكا راقيا لتهيئة الساحة وتنقية المنغصات والدفع إلى الالتقاء والتفاهم , والخروج من مأزق المشاكل والنزاعات والمخاطر التي تتسبب فيها الخلافات. وما دام الناس مؤمنين بدور الحوار ومساهمته الايجابية فسوف تبقى الخلافات مهما تصاعدت وتيرتها محكومة آمنة لا يخاف انفلاتها أو خروجها عن المألوف.
ولكن هل الدعوة إلى الحوار التي تنطلق باستمرار من قبل عدد من الكتاب والدعاة والساسة ورجال الدين والتشجيع على ممارسته كافيا للانتقال بهذا النهج الحضاري كقيمة من قيم الحياة الإنسانية من إطار الدعوة اللفظي إلى آلية عمل ناجحة يرجى أن تؤتي أكلها وتحقق أهدافها على أرض الواقع؟. في الحقيقة يتطلب الحوار أرضية مشتركة صالحة وبيئة نقية وقاعدة صلبة تقوم أسسها على رجاحة العقل وعلى الاحترام المتبادل وعلى الإيمان بمبدأ الحوار وعلى الموضوعية والانصاف والتسامح, والقدرة على التنازل عن المصالح الضيقة والتحرر من سطوة الهوى والتعصب والانفلات من القيود البغيضة التي تراكمت عبر السنين فحورت وتحكمت في حركة الإنسان وفي أنماط سلوكه وفي طريقة تفكيره وحدت من حريته في التعبير .., إن افتقار الحوار لتلك المبادئ والأسس والتمسك بالصغائر والتركيز على القشور مقابل المضمون وتحكم المصالح الدنيا والأهواء في النفس وضيق الأفق وغياب المنطق السليم والفكر الراجح المتوازن, أفقدت الحوار أهميته ومكانته وقلصت من نتائجه في مقابل ما يحدث من صراعات ومن نزاعات وصدامات بين المتخالفين على جميع الأصعدة والمستويات.