[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/ahmedalkadedy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]د.أحمد القديدي[/author]
” أقف اليوم إجلالا أمام انتصار تونس كوطن وكشعب وكتاريخ لا انتصار حزب على حزب أو فئة على فئة مهما كانت النتائج الراهنة فالذي سيبقى بعد التجاذبات والتدافعات و حتى الأخطاء هو المكسب الأكبر الذي انتزعه التوانسة بالتضحيات والشهداء وهو ارتقاؤهم إلى مرتبة المواطنة الحق وافتكاكهم لحقوقهم المسلوبة منهم على مدى ستين عاما..”
ـــــــــــــــــــــــــــ

أستسمح قرائي الأفاضل في أن أخرج هذه المرة قليلا عما يسمى الموضوعية والعقلانية في التعليق على حدث جلل وقع في وطني تونس وهو ما يمكن اعتباره أول انتخابات ديمقراطية عربية بعد الهزات التي عصفت بشعوب "الربيع العربي" أكدت للرأي العام العالمي العربي والعالمي بأن شعبا عربيا مسلما بإمكانه أن يوصل مسار السفينة إلى مرسى النجاة رغم ما حصل من اخلالات وما شوهد من سقطات الخطاب السياسي وما عاشه التونسيون من أزمات اقتصادية وأمنية وما راج الحديث عنه من انتشار المال السياسي القذر و محاولات شراء الضمائر والمقاعد. وإني أعتذر لديكم لأكون مع هذا الحدث عاطفيا ذاتيا وغير موضوعي فيأتي حديثي من القلب لا من العقل والسبب هو أني مع العديد من رفاق المنافي والسجون والملاحقات طوال السنوات لم نكن متفرجين على الاستبداد بل قاومناه كل بما أوتي من صبر ومن تأثير ومن قدرة على تحمل البأساء والضراء بينما كان الكثير من الناس صابرين على الجور أو قابلين للظلم ولم يتحول غضبهم إلى فعل أو موقف ومن بين هؤلاء العديد من المرشحين لرئاسة الجمهورية أو البرلمان كانوا قاعدين مع القاعدين حين كنا ضاربين في أرض الله ملاحقين ببوليس أنتربول وولد أولادنا في المنافي الأوروبية وعشنا 14 سنة لاجئين نحمل وثيقة سفر فرنسية أو بريطانية كتبت عليها صفتنا الجديدة وهي APATRIDE
أي الرجل الذي لا وطن له. وأنا من بين آلاف من التوانسة والعرب عموما عشنا نقرأ يوميا ويقرأ أولادنا المساكين الضحايا عبارة (أباتريد) على بطاقاتنا وعلى وثائق سفرنا وهي اللعنة الضرورية التي أنقذتنا بها المؤسسات الدستورية للدولة الفرنسية من القمع والتعذيب و سوء المصير. وأنا شخصيا بعد خدمة الدولة التونسية 22 سنة قبل المنفى لا أتمتع بحقي حتى في جراية تقاعد عادلة كبقية المواطنين ولم أطالب بأي تعويض عن سنوات المنافي والتشريد بينما المسؤولون الذين عملوا في حكومات بن علي وظلمونا و لاحقونا باطلا يتقاضون رواتب التقاعد المريحة إلى اليوم و الغريب المضحك الذي فاجأني أن أحد المرشحين للرئاسة والذي أكرم لحيته بيديه بعد ذلك فانسحب من السباق ما هو إلا وزير العدل في عهد الاستبداد الذي أعد الملفات الكيدية لجلبنا مكلبشين من فرنسا وهو ذاته الذي كان صديقا مقربا لي شخصيا حين تحملنا معا بعض المسؤوليات الزائلة في أواخر عهد الزعيم بورقيبة ولم نكن لا خصوما ولا أعداء لكنه المعدن البشري الفاقد للقيم جعله وجعل بعض السياسيين يعتقدون أن المتحول ثابت وأن النسبي خالد ولم يكونوا على بينة من أمر الدنيا التي تدور فيها الدوائر فينقلبون إلى أوضاع لم يقرأوا لها حسابا بل لم يعتبروا بما جاء في كتاب الله عز و علا من أن من سنة الله مع الطغاة أنه يمهلهم في غيهم وطغيانهم (وَكَأَيِّنْ مَنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ) (الحج: 48) فيستدرج الله الطغاة ليزدادوا إثماً (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ ، وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) (القلم:)44
أقف اليوم إجلالا أمام انتصار تونس كوطن وكشعب وكتاريخ لا انتصار حزب على حزب أو فئة على فئة مهما كانت النتائج الراهنة فالذي سيبقى بعد التجاذبات والتدافعات و حتى الأخطاء هو المكسب الأكبر الذي انتزعه التوانسة بالتضحيات والشهداء وهو ارتقاؤهم إلى مرتبة المواطنة الحق وافتكاكهم لحقوقهم المسلوبة منهم على مدى ستين عاما أي حقوقهم المشروعة في الحرية والكرامة والمشاركة في اختيار حكامهم ومحاسبتهم والتمتع بخيرات البلاد بالعدل و بلا فساد أو وساطات أو تهميش وحقوقهم في قضاء مستقل بلا تعليمات أو رشاوي أو افتعال القضايا الكيدية بلا وازع من ضمير و لنا نحن قدماء المنفيين و المحكومين مغامرات رهيبة و عجيبة مع الفاسدين القلائل من رجال القضاء الذين كانوا يلبسوننا من الأحكام ما تنسجه أيادي أسيادهم الطغاة و أبرزهم من كانوا يسمونه بعميد قضاة التحقيق وهو اليوم يخفي وجهه عن ضحاياه و عن أولادهم خجلا و خشية. لهذه الأسباب أقف اليوم في محطة انتخاب رئيس لبلادي مزهوا و معتزا بأنني وغيري ساهمنا في انضاج ثمار الثورة حتى جاء أوان قطافها وكنا خلال السنوات العجاف نحسد الشعوب الأوروبية التي جئنا لاجئين على أعراس الديمقراطية وتقاليدها حين كنا نرزح تحت أنظمة التعذيب الممنهج ونسمع عن استشهاد أفضل شبابنا في دهاليز الزبانية ومنهم من لفظ أنفاسه مثل الرائد محمد المنصوري فأكمل جلادوه عملهم على جثمانه الطاهر ومنهم زهير اليحياوي زهرة شباب تونس والمهندس في الإعلامية الذي مات تحت التعذيب فأخذوا جثته و رموها على الطريق العام بتعلة أنه راح ضحية حادث مرور و منهم و منهم حتى النساء و الأطفال لم يسلموا من الملاحقات و السجون لأن التهم جاهزة في مكتب عميد قضاة التحقيق والباندية (أي القتلة المحترفون) جاهزون. هذه بعض المأسي التي طويت صفحتها ونجد اليوم من أصحاب المصالح الفاسدة البائدة و أصحاب المناصب الذين فقدوا كراسيهم من يحن للعهد "السعيد" و ينادي بإشارات خفية و ذكية أن يعاد إنتاج الاستبداد عبر أحزاب ينتمي قياديوها لذلك التاريخ الأسود و أن تصادر ثورة شعب من قبل القوى الخارجية التي كانت تسانده و تسقي نباته اللعين كنبات الخشخاش ولكن هيهات هيهات أن يغير نهر التاريخ مجراه و أن تعود مهزلة القمع من جديد. إنها سنة من سنن الله تعالى أن يهلك القرى الظالم أهلها لأن الله لا يحب الظالمين وفي آية أخرى لا يحب المعتدين فالظالمون الذين حكمونا و حاكمونا على مدى عقود من الجمر تنطبق عليهم الآية 52 من سورة النمل ( فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ). إن بلادنا انتصرت بفضل شبابها ولكنها مهددة بمخاطر حقيقية أولها الردة الحضارية لأننا رأينا بعد فوز حزب نداء تونس من شرع في ملاحقة المحجبات ومطاردة رموز التدين السليم بدعوى أن النهضة تراجعت كأنما النهضة احترمت ثوابتها و غيرت بعض المنكر في المجتمع التونسي وهي التي تنازلت عن الأصول بحثا عن رضا الغرب و أعوانه فليدرك الناس أن فوز النداء ليس محوا لهوية البلاد و ثاني المخاطر أن تعود أشباح النظام البائد كأن شيئا لم يكن فتلغى مؤسسات المحاسبة بعد أن أقرها الدستور و ثالث المخاطر أن تغرق الشقيقة ليبيا في الفوضى أكثر فأكثر ولن تهدأ أوضاع الأمن في تونس ما دامت ليبيا نهبا بين أيدي الميليشيات ولم يهتد الأشقاء الليبيون إلى طريق الوفاق والحوار والتعاون من أجل وطن للجميع ونحن ندرك أن ليبيا من سوء حظها لم تنشأ فيها دولة مركزية جامعة من زمن بعيد ولم تسع نخبتها بعد رحيل القذافي إلى الحد الأدنى من التوافق حول خارطة طريق تجنب ذلك الشعب العربي الأبي مهالك التقاتل مما يفتح الأبواب مشرعة أمام التدخلات المريبة التي يتربص المنادون بها بثروات ليبيا وهم لا يهمهم أمن الليبيين ولا حقوقهم و نحن في تونس يعيش بيننا اليوم ثلث الشعب الليبي وهم بين أهلهم وذويهم ولكن بلادهم الخيرة أولى بأن يعودوا إليها فالمصير المشترك بيننا وبين الإخوة الليبيين هو الذي يقض مضاجعنا و ينغص علينا نصرنا لأننا نطمح بصدق إلى أن يلتحق الليبيون بقافلة الأمن الاجتماعي والعافية الاقتصادية والسلام المدني والوفاق السياسي فالمغرب الإسلامي الذي يجمع تونس والجزائر والمملكة المغربية و ليبيا و موريتانيا هو كالجسد الواحد ولايزال هشا تشتكي فيه أعضاء لا عضو واحد لأن الحدود بين الجارتين الجزائر والمغرب مغلقة ولأن حدودنا مع ليبيا تتحول إلى فضاءات تسرب المهربين والإرهابيين والسلاح و لأن الصحراء في جنوبنا من مالي إلى النيجر تعج بالميليشيات المسلحة و تنتهك بجيوش فرنسية لا يعلم جنرالاتها إلى من يوجهون أسلحتهم ومن هم أعداؤهم و من هم حلفاؤهم كما لا تعلم عائلات قتلاهم لماذا مات أولادهم وعادوا بهم في توابيت ؟ على كل قطعت تونس شوطا على الطريق الصح ولابد أن يتحلى التوانسة باليقظة حتى لا تسرق منهم مكاسبهم التي أراقوا دمهم في سبيلها ،فاللصوص جاهزون وهم متربصون ينتظرون كالطيور الكاسرة سقوط الفريسة لينقضوا عليها.